يمثّل الاتحاد العام التونسي للشغل قوة سياسية مهمة وتقريبا آخر القوى القادرة على مقاومة سلطة قيس سعيد (ما لا يعني أنه سيفعل ذلك أو سينجح فيه). يتوجب لذلك على الماركسيين فهم طبيعة الاتحاد وأساس قوته السياسية للتعامل معه بشكل صحيح تكتيكيا دون الحياد عن استراتيجيتهم الثورية.
لا يمكن استيفاء نقاش هذه المسألة دون البحث في تاريخ النقابة المهيمنة في البلاد. لكن بعض الملاحظات البديهية تقريبا يمكن أن تجنبّنا أخطاء فادحة:
- تأتي أغلبية منخرطي الاتحاد من الوظيفة العمومية وشركات القطاع العام
- لذلك يعتبر الاتحاد المساس بالقطاع العام ككلّ خطا أحمر، ولو أنه يساوم في عديد الأحيان ببعض المطالب "الاجتماعية" الأخرى
- تدور أغلب وأهم الصراعات النقابية والإضرابات في القطاع العام (باستثناء زمن الثورة وهي حالة خاصة لا يتسع هذا النص لتحليلها).
- يحتلّ القطاع الخاص مكانة ثانوية في سياسة الاتحاد.
من النقاط السابقة يمكن استنتاج التالية بسهولة:
- القاعدة الاجتماعية للاتحاد هي الطبقات الوسطى المشتغلة في القطاع العام. قد يقول البعض أن القطاع العام يضمّ أيضا "عمّالا" (النقل والطاقة مثلا). لكن بالنظر لظروفهم الاقتصادية واندماجهم الاجتماعي وممارستهم الطبقية ومقارنتها بموقع وممارسة الهامشيين وعمال القطاع الخاص، لا يمكن تصنيفهم إلا كنوع من "الأرستقراطية العمّالية"، وبذلك كشريحة من الطبقات الوسطى. هذا صحيح في البلدان التابعة عموما وفي الحقبة النيولبرالية خصوصا.
- ليس الاتحاد قوة عمالية إصلاحية أو منحرفة يمينا، بل هو تعبيرة سياسية عن الطبقات الوسطى المرتبطة بالقطاع العام.
- يجب فهم علاقة الاتحاد بعمال القطاع الخاص كعلاقة هيمنة من منظّمة لا تستمدّ قوتها منهم، وبالتالي هي مستقلة عنهم.
- وعليه، لا تنطبق الأطروحات التقليدية حول التعامل مع النقابات العمالية الإصلاحية الكبرى ووحدة الطبقة العاملة على وضعية اتحاد الشغل في تونس (حتى بالنسبة لمن يعتبرون الطبقة العاملة طليعة الثورة).
على أساس ما سبق، يطرح الماركسيون الثوريون استراتيجيا فضح الطبيعة الحقيقية للاتحاد والقطيعة السياسية معه. لا يخفى على أحد أنّ سمعة اتحاد الشغل ضمن الطبقات الشعبية سيئة. اذ تلاحظ انتهازيته وتعرف حدسًا أنه لا يمثلها. لكنها تعّبر عن ذلك للأسف بخطاب الإيديولوجيا المهيمنة. لذا من واجب الماركسيين تصحيح هذه الأفكار المغلوطة.
في نفس الوقت تتقاطع مصالح اتحاد الشغل والطبقات الشعبية في بعض المجالات والسياقات. من مصلحة الطرفين مثلا زيادة الانتدابات في الصحة والتعليم والنقل العمومي. أمام الهجمة النيولبرالية لخوصصة ما تبقى من هذه الخدمات العمومية وبالنظر لضعف تنظم الطبقات الشعبية وقدرتها على المقاومة السياسية، يمثل الاتحاد عندما تُطرح هذه المسائل قوة الدفاع الوحيد تقريبا. يكون من الخطأ إذن مهاجمته في مثل هذه السياقات.
وعلى ضوء الهجمة القمعية التي انطلقت فيها الدولة برئاسة قيس سعيد، يبدو اتحاد الشغل آخر قوة سياسية فعلية (لا مجرد عنوان سياسي دون قوة) مستقلة عن سلطة قيس سعيد. وقد يضطر من خلال دفاعه عن الحق النقابي (مصلحته المباشرة) الى خوض معركة مع السلطة المتشكلة تندرج ضمن معركة الحريات العامة ككلّ. بنفس المنطق، وأمام الخطر المطلق الذي يمثله خطاب قيس سعيد وقمع بوليسه على تطور وعي الطبقات الشعبية وإمكانيات تنظمها المستقل، لا يصح التعامل مع اتحاد الشغل كخصم.
لكن كذلك، وتحديدا، لا يجب أن يفقد الماركسيون الثوريون استقلاليتهم ويتذيلوا لنقابة الطبقات الوسطى. بالنظر لطبيعته، الدفاعية المطلبية من جهة والانتهازية من جهة اخرى، ستكون "مبادرة" الاتحاد خاوية ونضاله من أجلها ضعيفا. لذلك من مصلحة الماركسيين الثوريين (وحتى المقاومة الوطنية اليسارية ككل) أن يطرحوا برنامجهم المرحلي كبديل شامل بشكل مستقلّ عن اتحاد ّالشغل. بذلك يواصلون المراكمة لخط سياسي مستقل والتوجه للطبقات الاجتماعية التي تعنيهم، وفي نفس الوقت يُبقون اتحاد الشغل تحت الضغط برفعهم سقف البرنامج الاقتصادي الاجتماعي المواجه للدولة وسياساتها.