حكم القضاء التونسي على المناضل الماركسي غسان بن خليفة بالسجن ستة شهور مع عدم النفاذ العاجل في قضية أولى بتهمة الإساءة للغير عبر شبكات التواصل الاجتماعي. تنتظره تهم أخطر بارتكاب أمر موحش في حق رئيس الجمهورية والانتماء لوفاق إرهابي. بُنيت هذه الملاحقة القضائية على ادعاء بإدارته لصفحة فايسبوك ذات توجهات إسلامية معادية لحكم قيس سعيد. ولا يصعب على من يعرف شخص غسان وخطه السياسي و قناعاته السياسية التّيقن بأن هذه التهمة وهمية وملفقة تماما. كما جاءت الإدانة رغم إيقاف واعتراف صاحب الصفحة الحقيقي.
تشير هذه المعطيات إلى الطبيعة السياسية لهذه التتبعات. إذ يأتي هذا التعسف القضائي، مع خصوصيته التي سنبيّنها أسفله، في سياق سياسي عام معروف، لكنه لم يكن مفهوما دائما بشكل صحيح.
انتشرت من قبل 2019 جماهيريا قناعات رجعية مناهضة للبرلمانية و"الأحزاب" والليبرالية السياسية عموما. ازدادت قوة وهيمنة هذه الأفكار وصولا إلى مسار 25 جويلية، الذي جاء استجابة لها. وقد كان من أبرز سياساته هو تصفية مؤسسات منظومة الانتقال الديمقراطي. غُيِّرت، من جهة، الدستور والقوانين الانتخابية لتصفية البرلمانية ودور الأحزاب. كما صدر المرسوم 54 مضيقا على حرية التعبير. تزايد التدخل المباشر للسلطة التنفيذية في القضاء والمجاهرة بالضغط عليه. كما تزايدت الإيقافات والقضايا في حق مختلف القيادات السياسية والصحفيين وحتى بعض البرجوازيين الذين اعتبرتهم منظومة 25 جويلية خطرا عليها.
هذه وقائع عينية لا يمكن أن ينكرها أحد. ويركز الليبراليون والشكلانيون القانونيون في خطابهم على تحمل رئيس الدولة حسب الدستور الذي أرساه مسؤولية هذه السياسة، ويتوقفون عند ذلك. لكن التحليل الماركسي الجذري يجب أن يبحث في الاشتغال الفعلي الملموس للدولة وأجسامها. فمن الوهم تصور أن الرئيس بمفرده يتحكم في بنى الدولة المعقدة وبيروقراطيّيها المخضرمين، ومن الخطأ تصور أن كل الملاحقات تحصل بقرار منه. لكن من المؤكد في نفس الوقت أن بعض الإيقافات لم تحدث إلا بعد أوامره. وحتى في هذه الحالة لا يعني ذلك أنه من بادر باختيار الأشخاص.
يجب إذن الحديث عن عدة فاعلين من بينهم شخص الرئيس ومن بينهم أيضا مؤسسات بيروقراطية وأمنية وقضائية إلى غير ذلك. قد تتناغم مصالح هؤلاء الفاعلين وقد تتعارض. ونزعم أن الأجسام البيروقراطية المسلحة والإدارية هي الفاعل الاستراتيجي وصاحب المبادرة. ولا شك أن مصالح الرئيس تتماشى تماما مع مصالحها في تصفية المشهد السياسي من أي خصم سياسي له. في نفس الوقت يضفي الرئيس مشروعية إيديولوجية على أجندة بيروقراطية الدولة بخطابه حول مكافحة الفساد والمحاسبة والخيانة والتخابر إلى غير ذلك.
أما الجسم القضائي فقد تربى في تونس على الخنوع ولم يراكم لأي تقاليد ليبرالية. لذلك، وخاصة في هذا الجو العام الرجعي وتحت ضغط الرئيس، فهو يمتنع عن تبرئة المتهمين في القضايا السياسية حتى عندما تكون ملفاتهم مفتعلة وفارغة.
لا يمكن وصف غسان بن خليفة (وغيره) بالخصم السياسي للرئيس بالمعنى المتداول للكلمة. فهو لا يدعو إلى العودة الى ما قبل 25 جويلية، ولا علاقة له بجبهة الخلاص والمعارضة "الديمقراطية" (إقرأ: الليبرالية) ولا هو مرشح ممكن للرئاسة إلخ. لذلك فنحن نعتبر أن ملاحقته تندرج ضمن سياسة بيروقراطية الدولة المتقاطعة بطبعها مع مصالح إمبريالية وصهيونية، قد يكون أزعجها نشاط رفيقنا طيلة العقد الماضي في مجال مناهضة التطبيع. وإن الخط السياسي الذي ينتمي إليه غسان والذي تستهدفه هذه البيروقراطية من خلاله، يوضح في نفس الوقت جانبا مهما من استراتيجية هذه الأخيرة.
يُعد غسان من أبرز المناهضين للإمبريالية والصهيونية والمحرضين على البرجوازية التابعة ودولتها. كما أنه من الماركسيين الداعين لخط جماهيري شعبي. وعبر استهدافه، يجب اعتبار أن الدولة انطلقت في مهاجمة التيار الماركسي الثوري. قد لا نكون الأولوية الآنية لأعدائنا، بالنظر لضعف الوزن السياسي لتيارنا. لكن القضية الكاريكاتورية الملفقة بفجاجة لأحد أبرز الوجوه التي تمثلنا، تعني أننا ضمن حساباتهم وأنهم لن يترددوا في ضربنا كلما برزنا. وتستهدف هذه القوى من وراء الحركة الماركسية الثورية استباقيا أي مبادرة أو تنظم سياسيين مستقلين للطبقات الشعبية. يجب أن نعي جيدا معنى ذلك وخطورته.
يستدعي سياقنا هذا تنبيه أصدقائنا من الاستخفاف بالدكتاتورية البوليسية والتضييق على الحرية السياسية. فمن البديهي أن النقد الماركسي للحريات الليبرالية لا يهدف في المطلق إلى تقليصها بل يعتبر أنها على العكس من ذلك غير كافية ،وأن أغلبية المجتمع مقصى منها بآليات مختلفة من بينها الاقتصادية والإيديولوجية. وهذا ما يؤكده خطاب رائج بين الطبقات الشعبية يعتبر أنها لم تجني شيئا من "الديمقراطية" (الليبرالية) وهذا صحيح إلى حد كبير. فبخلاف بعض الاستثناءات الملحوظة (جمنة، أولاد جاب الله، دوار هيشر) والمحدودة لم يكن للطبقات الشعبية منظمات جماهيرية وجمعيات وأحزاب سياسية وغيرها من المؤسسات لتمارس فيها ديمقراطيتها ولتدافع عنها في وجه دولة البرجوازية التابعة.
ومن هنا تحديدا يجب أن تنطلق المقاومة الفعلية للاستبداد البوليسي، أي بالعمل مع الطبقات الشعبية على بناء مؤسساتها المستقلة التي تنشط فيها لإدارة شؤونها والدفاع عن مصالحها. يتنزل هذا العمل في اللحظة الراهنة مثلا بالدعاية والتنظيم للمقاطعة ومناهضة التطبيع والصهيونية وفضح سياسة النظام فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
يستدعي هذا في نفس الوقت أوسع مجال من حرية التنظم والاجتماع والتعبير. لذلك يتوجب علينا اليوم الدفاع عن الحريات العامة والتنبيه للخطر البيروقراطي-البوليسي المحدق بها. ليست المسألة مسألة مبادئ مجردة ومطلقة بل هي مسألة سياسية تنطلق من واقع صراع طبقي. تحتاج الطبقات الشعبية اليوم لمساحة من الحرية لبناء مؤسساتها وتطوير وعيها. يفرض هذا الخط السياسي منطقيا محاذيرا يجب تفاديها لتجنب الحياد عنه.
هذا ما يجعل الماركسيين حريصين على الاستقلالية التنظيمية والسياسية عن الليبراليين. وعندما ينبهون من تصاعد التعسف والاستبداد يسعون لربطه بواقع الطبقات الشعبية وما تعانيه من انتهاكات يومية من قبل النظام عبر مؤسسات الدولة القمعية.
تحاول أجهزة الدولة ابتزازنا واستعمال هذا التلفيق المفضوح للقضايا كسيف ديموقليس فوق رقابنا. لكنها ستحتاج لأكثر من هذا بكثير لتثني غسان ورفاقه عن نضالهم الثوري.
إن دفاعنا عن غسان هو دفاع عن أنفسنا كماركسيين وهو محطة ولو صغيرة من الدفاع عن إمكانية نهوض الطبقات الشعبية في هذه الفترة الصعبة، ضد الاستبداد والاستغلال ،ومن أجل نظام جديد يقوم على أنقاض القديم، يحمي حرية هذه الطبقات ويفتح أمامها آفاق ديمقراطية شعبية واشتراكية تخدم مصالحها .
العدالة لغسان ولكل مضطهد ومظلوم!