حول الموقف من الهجمة على الحريات



تمهيد

يمكننا القول الآن أن تلك الجملة التي ذكرها ماركس في 18 برومير صارت مزعجة للأذن [1]. فهي لم تعد مجرد جملة تثبت لسامعها أن محدثه "ضليع في الماركسية". بل صارت واقعا يلمس باليدين.

نحن أمام لحظة نرى فيها قمعا من النظام ومؤسساته. ولكنه حتى في قمعه نرى جانبا مثير للسخرية المشمئزة. هل من الممكن أن نقول بأننا أمام مؤسسات فاشلة حتى في اضفاء رونق " الصنعة " على القمع؟

جل من عاصروا نظام 7 نوفمبر حائرون الآن. وحيرتهم لا علاقة لها بعودة شكل جديد من الاستبداد البوليسي من عدمه. فالجميع مقر بذلك ما عدا من باع نفسه لليأس العقيم أو لفتات منصب.

من عاصروا القمع في زمن بن علي يتساءلون: " هل نحن أمام عودة للنظام القديم؟ أم نحن أمام نسخة من النظام القديم فشلت حتى في استحضار "صنعته"؟

دعونا نوضح منذ البداية النقطة التالية: ما نقصده هنا بالنظام ليس على الإطلاق قيس سعيد. ودعونا أيضا نكون صريحين في أننا نراه جزءا من النظام أو واجهته التي قامت بعقد صفقة مع الشيطان مفستوفيليس. الفرق هنا أن الرب لن يتدخل لإنقاذه كما فعل مع الأستاذ الدكتور "فاوست" في حكاية غوته.

إذا فإننا حين سنتحدث عن النظام لن نقول " نظام قيس سعيد "، فقد أخذنا العبرة من بن علي الذي هرب تاركا جزء من الشعب ضحية لوهم ثورة مكتملة، فقط لأننا اختزلنا النظام في شخصه.

سنتحدث عن مؤسسات مرتبطة بمصالح طبقات. وهذه الطبقات لها مصلحة في تأبيد الاستغلال. وهي طبقات مرتبطة بالنظام الرأسمالي العالمي من موقع طرفي. ومادامت هذه الطبقات هي المستفيدة الوحيدة من مقدرات البلاد والعباد فإننا لن نجد حرجا في إعادة استعمال مصطلحات "كمبرادور" و"برجوازية تابعة " وغيرها، مرارا وتكرارا.

إننا أمام لحظة قاسية مكررة. وقد عشنا ما يكفي منها على مدى عقود. كان الشيوعيون صامدين خلالها، أمام الاعتقال والنفي والسجن والتعذيب والترهيب والتشويه. لكن قدر الشيوعيين في هذه البلاد ليس خاضعا لحتمية لعب دور البطل الملحمي في دراما سوفوكليس. ليس قدرنا الهزيمة الملحمية. ولم يكن يوما دربنا حتمية التقوقع فيما تسميه الأدبيات الماوية الدفاع الاستراتيجي. وطبعا، ليس " المحلل السياسي الفايسبوكي" هو الدور التاريخي المنوط على عهدتنا.

للخروج من كل هذا دعونا نقوم بخطوتين. التحليل والتخيل: تحليل للوضع وللمواقف. وتخيل لما يمكننا فعله بإمكانياتنا الذاتية كشيوعيين يعيشون التاريخ يعيد نفسه كمهزلة، علّنا نجد برنامجا تكتيكيا مرحليا يستند على تواضع الثوريين ورؤيتهم لوضعهم الذاتي واحتمالات تطور الأوضاع. ولنفعل ذلك خارج غباء الحتمية التي أزهقت روح الابداع التكتيكي في المنهجية المادية التاريخية.


عودة القمع لماذا؟

منذ أواخر القرن التاسع عشر، خضعت تونس لوطأة الاستعمار الفرنسي التي لم تتخلص من نَيْره السياسي والعسكري المباشر حتى أوائل ستينات القرن الماضي. لكن هذا لم يضر كثيرًا بمصالح المستعمر في البلاد نظرًا لهيمنة تصوره الاستعماري على وعي من خلفوه في إدارة شؤونها منذ ذلك الحين.

فمن يحكم في تونس الآن هم طبقات تابعة للإمبريالية. هذه الطبقات تناصرها عبر الحفاظ على نمط الانتاج الرأسمالي الذي يحول البلاد الى منجم للعمالة الرخيصة والموارد الضرورية للشركات متعددة الجنسيات بدرجة أولى في إطار تقسيم عالمي للعمل، والى سوق استهلاكية بدرجة أقل.

هذه الطبقات غير قادرة على المنافسة. وحتى النكت الرخيصة التي تلقيها على مسامعنا أدوات هيمنة الرأسمالية، من قبيل " التنافس الحر" والسوق الذي يعدل نفسه " الخ الخ لا تقدم لها حلولا كي تنافس. هي تستثري فقط عبر خيارات اقتصادية واجتماعية تخلق واقع الاضطهاد في البلاد، وهي المتسببة فيه. وحين يكذب النظام عبر رئيس جمهوريته ويصرح بأن المشاكل اليومية التي يتعرض لها فرد في تونس في توفير الخبز لعائلته تتمثل في "المحتكرين الأشرار"، نحن الشيوعيون نعي جيدا أن أسباب الأزمة أعمق من ذلك بكثير.

ترتبط هذه الطبقات المهيمنة عضويًا بدولة تحمي مصالحها. وقد حمتها في الخميس الأسود في 1978، وحمتها في انتفاضة الخبزة والحوض المنجمي. ولا تزال تحميها لحد الآن.

خيارات الاضطهاد تؤدي للاحتجاج مهما كان شكله، سواء كان ذلك عبر انتفاضات منظمة أو أعمال سرقة تبدو نهيليستية، تشبه ما قام به جان فالجان في رواية البؤساء، أي وفي الحالة التونسية اقتحام المغازات الكبرى من قبل المهمشين.

والاحتجاج يتناقض مع المناخ المناسب لاشتغال الرأسمالية. فهو يزعزع ثقة رؤوس الأموال المعولمة ويعطل علاقات الإنتاج التي تبيع فيها العمالة الرخيصة قوت يومها. كما يخلق الاحتجاج مناخا مساعدا لخروج أعداد كبيرة من المضطهدين من مظلة الهيمنة الايديولوجية التي تبعث سمها في أذهان الناس في كل لحظة من اليوم. 

لذلك تحديدا تقف الطبقات المهيمنة بكل امكانياتها ضد الحرية السياسية متى تمنح الحق في الاحتجاج على مصالحها المباشرة. شعارها في ذلك "تقف حريتك أين تبدأ مصالح الكمبرادور"، وتستعمل لفرض هذا الشعار كل أدواتها.

ان تحليل علاقات الإنتاج وطبيعة الأعداء الطّبقيين أدى بنا منذ سنوات الى القول بأن الحريات السياسية التي افتكتها الطبقات المضطهدة في تونس منذ 2011 لا تعدو كونها مجرد "فسحة حريات " مؤقتة ومهددة مادام المُضطهِدون ما زالوا ممسكين بزمام الأمور.

وقد عاش احتجاج المفقرين لحظات وهن منذ ذلك التاريخ. أحيانا اتخذ الوهن شكل الانخراط الجماعي في إسناد تيارات الإسلام سياسي على غرار حركة النهضة. في أحيان أخرى اتخذ الوهن شكل الحنين للدولة الراعية بقيادة دساترة وبورقيبيين يمثلون ألد اعداء الفكرة إثر اعتناقهم للسياسات النيوليبرالية كعقيدة منذ عهد الهادي نويرة. والآن تعيش الحركة الاحتجاجية وهنا اتخذ شكل اللجوء لمنقذ وهمي صدّر فكرة قديمة جديدة. هي فكرة الأب الحنون على الشعب، باني الدولة الوطنية على شاكلة كمال أتاتورك وبورقيبة وجمال عبد الناصر (مع مراعاة الفروقات في المقارن)

والمشترك بين كل لحظات وهن الاحتجاج هو محاولة ضرب حرية التعبير والتنظّم بكل اشكالها. قمع الحريات إذن بالنسبة لنا أمر بديهي مادامت علاقات الانتاج لم تتغير لصالح بناء نظام جديد. هم فقط ينتظرون لحظات الوهن ويساهمون في السير نحوها عبر الهيمنة الثقافية. وفي اللحظة المناسبة ستجد كل كبرادور يعود بنا إلى عصور مظلمة يمارس فيها كل فيتيشاته السلطوية.

 في النهاية لم يكن جوهر ايديولوجيا الليبرالية سوى السعي للخلاص الفردي على حساب مصلحة الأغلبية. والكبرادور هو أهم ممثل لهذه الأيديولوجيا في تونس.

في وسط كل هذه الأحداث الكبرى كان اليسار التونسي: عاطفيا لا عقلانيا تارة، ومسحوقا تحت ثقل موازين القوى تارة أخرى. وفي الحالتين وجد اليسار لنفسه منطقا مهزوما فاقدا للخيال السياسي أي لمشروع سلطة الطبقات المضطهدة. فكان يسار رد الفعل المتشنج لا يسار الخطة الثورية. كما وجد تحت ثقل الهزيمة كل المبررات ليعبر عن أسوأ ما يمكن من المواقف.

نحن شاهدون الآن كشيوعيين على هذا اليسار الذي يلبس جبتنا لكنه لا يفكر كما نفكر ولا يحلل من نفس منطلقاتنا النظرية. فلنتحدث عن الفروقات ولنوضح التخوم.


موقف اليسار من القمع:

1- اليسار التائب:

من المضحكات المبكيات أن مِن مَن ابتدع مفهوم "اليسار التائب" تاب هو أيضا [2]. وقادته توبته النصوح إلى لعب دور المبرر. والمبرّرون حالة فكرية ونفسية معقدة تتطلب منا تحليلا سياسيا كما تتطلب أحيانا تحليلا نفسيا.

نجد من ضمن المبررين التائبين من يأسوا من اي امكانية لعمل منظم. هم مسكونون بهاجس القيام بمنجز وهمي قبل مرور السنوات. لديهم رهاب التحول الى حالة عبثية لا أثر لها في تاريخ يرون أنفسهم مركزه. لكن نهايتهم كانت أسوأ. فقد انتقلوا تدريجيا إلى اللهث وراء التموقع. شعاراتهم في ذلك هي:

  • القطيعة مع الطفولية اليسارية (اقرأ " القطيعة مع مقولة الثورة ") لصالح أوهام التغيير السلمي.
  • القطيعة مع رهاب مرضي في العلاقة بالسلطة السياسية. وهم في هذا يستغلون كلمة حق يراد بها باطل. نحن أيضا ننقد اليسار لأن خياله السياسي عجز عن انتاج تكتيكات الوصول الى السلطة. ولكن منطلق مبرّرينا التائبين هو الارتماء في أحضان السلطة الحالية، لا طرح سلطة الطبقات المضطهدة. وهم يطبقون الآن برامج العدو الطبقي مع ملاحظات نقدية محتشمة تتسول دورا اجتماعيا مفترضا من دولة بيد البرجوازية التابعة.
  • امكانية الاصلاح من الداخل: هذه الحجة تحديدا تقودنا الى نرجسية تجعل حاملها يرى في نفسه مخلصا قادرا لوحده أو مع بعض الأفراد على تغيير بنى صلبة قاسية طورت آليات الإدماج المعقدة منذ زمن طويل. وهذه الحجة قديمة قدم اليسار في تونس. تجلت من موقف الحزب الشيوعي التونسي المقبور من الاستعمار الفرنسي، وتجلت مع موقف الشرفي المؤسس البرسبكتيفي ووزير التعليم السابق الذي أراد إصلاح "عقل البلاد" (ها نحن نرى نجاحاته الفذة!)، وهاهي تتكرر الآن مع "أصدقائنا" المبرّرين التائبين عن الثورة.

  • أسبقية المسألة الوطنية على المسألة الديمقراطية: أحيانا نجد أنفسنا أمام دغمائية من النوع التي تجعل من حاملها مهرجا لا علاقة له بالسياسة أو بالعمل الثوري. التائبون الذين يبررون مساندتهم "النقدية" انطلاقا من هذه الحجة، يعتمدون على خطاب مفرغ من المعنى يقدمه قيس سعيد. ومثل حديث قيس سعيد عن الوطنية كمثل حديث المرزوقي في السابق عن البترول. فالاثنان تشاركا في وصولهما إلى موقع كان من الممكن استغلاله لإحداث فرق. والاثنان اختارا تقديم اسهال خطابي لحشد أنصار لا غير. والاثنان كذبا بنفس الدرجة على الشعب. ومن غير الممكن الدفاع عن فكرة الارتباط الجدلي بين المسألة الوطنية والديمقراطية مع اصدقائنا هؤلاء. فانتهازيّتهم وبحثهم مؤخرا عن المواقع والاستفادة من " دفء السلطة " سيمنعهم من استيعاب فكرة بهذا التعقيد.

تخلى اليسار التائب منذ زمن بعيد عن فكرة عمل النملة الدؤوب المرتبطة بخلق أطر للطبقات الشعبية. تخلى عنها لصالح اليأس والشعوذة النظرية والتهريج أحيانا وتبني أسوأ ما في النظام دفاعا عن موقف يمنحه تقاعدا سياسيا مريحا. كل تلك الشعارات التي يبررون بها نهايتهم الحزينة المضحكة هي مجرد كلمات تجعلهم قادرين على النوم المريح، رغم اصطفافهم مع المجرمين في حق الشعب.


2- موقف يسار الحريات:

يسار الحريات السياسية يحمل سمة رئيسية: البرنامج الوحيد الذي يتبناه بجدية هو الاحتجاج.

يحتج هذا اليسار حين يتم المس بنمط معين من العيش، قائم على تجسيد الحرية في الجوانب المسلكية اليومية. كما يحتج هذا اليسار أيضا على أي مس من حريات معينة تمنحه الحق في السياسة الآمنة بالمعنى المتبنى في " الديمقراطيات العريقة ".

له الحق في ذلك، ونحن مع احتجاجاته. فنحن نرى أن هذه الحريات - السياسية منها بشكل خاص - تعنينا فيما يتعلق بتسهيل خططنا في تنظيم الطبقات الشعبية. نحن أيضا مع حق الأفراد في العيش الكريم مهما كانت توجهاتهم الدينية وانتماءاتهم العرقية وميولاتهم الجنسية.

ونحن لن نستعمل الاستدراك عبر " ولكن " في هذا النص. فرؤية الشيوعيين للحرية تستوجب منا مجهودا وجدية أكبر في البحث والعرض. ربما يكون ذلك في نص آخر. سنفرق فقط بين المبدأ والمسلكية السياسية لمن يعلنون أنفسهم المدافعين الأكثر شراسة عن الحريات.

من الزاوية التاريخية، كان الفصيل الأكثر وضوحا في ربط قضية الحريات ببرنامجه السياسي "حصرا" هو حزب العمال الشيوعي التونسي إثر مؤتمره عقب انقلاب بن علي. لذلك قد يكون مثالا جيدا لتوضيح فكرتنا. إن شئنا تجميد حركة التاريخ لتصير صورة فوتوغرافية، فسنجد لهذا الحزب مبررات تجعل من اختيار برنامجه المرحلي أمرا منطقيا.

ومن الطبيعي أيضا لمن يقرأ التاريخ على هذه الشاكلة (أي كصورة فوتوغرافية حدودها "الآن ")، أن يجد مجموعة مبررات أخرى لإنجاز تكتيكات قائمة على التقانات وجبهات ووحدات عمل وتقاطعات من أجل الاطاحة بالعدو الرازح على كلكل الشعب وطليعته "الشيوعية "! كل شيء آخر سيأتي في حينه بعد النجاح في افتكاك الحريات السياسية!

وهكذا وجدنا 18 أكتوبر سنة 2005 و18 أكتوبر أخرى عبر جبهة الانقاذ ومؤشرات 18 أكتوبر في الأيام القادمة، ولن نجد مع إفلاس النظرية سوى إعادات متتالية ل18 أكتوبر.

منطق هذا التكتيك الذي ينسب في كثير من الأحوال للمسكين ديمتروف قائم على محاولة حشد الحلفاء لمواجهة عدو أقوى منك. ويمكنك طبعا اللجوء الى الجميع بما في ذلك الجناح الغاضب من النظام لأنه ظلم أثناء اقتسام الكعكة. ما داموا ليسوا في السلطة فهذا يعني أنهم حلفاء ضد الدكتاتورية والفاشية الزاحفة والدولة البوليسية الخ الخ.

وطبعا لأنك الأضعف في ميزان القوى سيستفيد حليفك الأقوى من العمل معك ضد التناقض الرئيسي. ونجد أنفسنا بعد ذلك أمام لعبة تبادل للمواقع، يتحول فيها حليفك الى التناقض الرئيسي. ويرزح بكلكله على الشعب وتحاول أنت من جديد تأسيس 18 أكتوبر.

تكتيك يؤدي إلى حلقة مفرغة من العبث! وكل هذا العبث قادم من اشكاليتين رئيسيتين في التحليل: الأولى أنه لا برنامج لك تستقطب له المهمشين والمفقرين من المدافعين عن مصالحهم وعن الثورة. وهذا يؤدي بك الى الضعف البنيوي الدائم المزمن الذي لا فكاك منه. وثانيهما هو رؤيتك الميكانيكية للتاريخ كلحظة لا حركة فيها بل تفاعل مع "الآن" فقط.

يسار الحريات السياسية هو اليسار الذي يرفض النظر الى أبعد من قدميه. هو أيضا يسار الخيارات المريحة. خيارات التظاهر في شارع الحبيب بورقيبة في تونس وفي ساحة الشلي في سوسة وأمام مقر الولاية في صفاقس. هناك قد يقمعك الأمن أحيانا، وتقدم ضريبة نضالية. لكنك ستبقى دائما محميا من احراج وجودي أخطر يتمثل في رفض من تنسب نفسك لمصالحهم لوجودك بينهم.

ورفضا للتجني وفي إطار التنسيب، فان يسار الحريات السياسية المنضوي تحت ما تسميه الأجيال الجديدة " بأحزاب اليسار الكلاسيكي " حاول اثر انتفاضة 2011 الوصول الى الجماهير والطبقات الشعبية عبر الحملات الانتخابية في 2011 و 2014.

ولكن عديد العوامل منعت هذا اليسار من التجذر. نذكر من هذه العوامل القواعد الموضوعة سلفا المرتبطة بالقانون الانتخابي والتي تجعل أعداء الشعب منتصرين مسبقا، كما نذكر أيضا الاسهال الخطابي المرافق "للعرس الديمقراطي " والذي يخلق تشوشا ادراكيا في عقل الناخب. نضيف لذلك أزمة نظرية وعقما تكتيكيا منعت اليسار من إنتاج جمل سياسية مكثفة يتوجه بها للجماهير. هذا دون ذكر عدد لا محدود من الإشكاليات المتعلقة بالتنظّم والهيكلة وأمراض تتراوح بين أمراض الزعاماتيّة وبين مسلكية ليبرالية عززت الصراع الهووي الذي أنعش قوى الظلام وحلفائهم. 

إن من لا يرى عقم المشاركة في "اعراس" الديمقراطية التمثيلية انطلاقا من حالة استعداد معدومة كالتي عاصرناها، لهو مصاب بعمى سياسي لا براء منه.

أما ما عدى تلك اللحظات فقد كانت السمة المميزة لنشاط هذا اليسار هو الاحتجاج في الشوارع الرئيسية للمدن الكبرى، لحظة تهديد مربعات الحرية التي تم افتكاكها بتضحيات من الجماهير دون أن تنال هذه الأخيرة منها فائدة واحدة تصب في مصالحها الاقتصادية.

الوجه الثاني من نفس العملة هم ناشطو المجتمع المدني اليساري.

والمجتمع المدني بالنسبة للشيوعيين ليس مجتمعا واحدا بل هو مجتمعان. أحدهما بنى مؤسساته انطلاقا من متطلبات سوق جديدة لبيع قوة العمل لمن يدفع أكثر من المؤسسات المهتمة بالهيمنة والمجندة للدفاع على خطط الامبريالية. بالنسبة لنا، لا فرق بين هؤلاء والكمبرادور. وهذا المجتمع المدني هو أحد واجهات صراع الاجنحة والمصالح وافتكاك المواقع والمنافع من داخل نفس المنظومة.

المجتمع المدني الذي نصنفه داخل يسار الحريات السياسية هو المجتمع المدني المنطلق من شعارات الانتفاضة ومن رغبتهم "العامة" في التغيير جذريا للوضع الاقتصادي والاجتماعي لفئات محرومة من الكرامة في تونس. سنسميه المجتمع المدني اليساري.

الكثير من الناشطين صلب مؤسسات هذا المجتمع المدني متأثرون ايديولوجيا ومن زاوية منبتهم الطبقي وهواجسهم الفردية والنفسية بقضايا ليست في سلم أولويات الطبقات المضطهدة. وهذا وان لم يكن جريمة (فذلك حقهم) ولكنه يمنعهم من ايجاد عملية تواصلية ناجعة مع الشرائح التي من مصلحتها الثورة. كما أن مؤسساتهم مبنية على منطق التخصص في قضايا مطلبية محصورة في حقول رمزية مجزأة. أي أنهم أيضا يشتركون مع أحزاب اليسار الكلاسيكي في غياب البرامج وتكتيكات الوصول الى السلطة. ولكنهم لا يطرحون قضية السلطة من حيث المبدأ وذلك يشفع لهم بعض الشيء وينزّههم من تهمة الادعاء.

إن يسار الحريات السياسية ليس عدوا طبقيا. بل هو في أغلب الأوقات أقرب الى الحليف الذي نجد أنفسنا معه في نفس التحركات الاحتجاجية. ولكننا نعتبر الآن أن هيمنة رؤيته المحدودة على مقاومة النظام لن تفضي بنا إلا الى نفس النتائج: مزيد من تبادل المواقع والقدرة على التكيف والتجدّد من قبل النظام ومؤسساته، ومزيد من الهزيمة لمعسكر الشعب وأصدقائه.


موقفنا:

1-موقفنا من النظام:

يتكون النظام من مجموعة من الروابط والمؤسسات منها الصلب ومنها المتحرك.

علاقات الإنتاج وملكية وسائله وهيمنة البرجوازية التابعة والبنوك على عملية تراكم الثروة، وتحريك الثروة المتراكمة باستمرار ضمن منطق إعادة انتاج وتكريس التبعية. كل هذا يمثل الجزء الصلب من البنى التحتية من النظام. تتوافق مصالح هذا الجزء وتترابط مع مصالح جهاز الدولة المهيمن عليه من قبل طبقة تعتمد على النفوذ البيروقراطي. وقد التحقت هذه الطبقة بالكمبرادور في لعب دور في علاقات الانتاج. يمثل هؤلاء حلقة الربط بين البنى الفوقية وعلى رأسها جهاز الدولة والتحتية.

يتمتع جهاز الدولة في تونس كأي جهاز دولة آخر، باحتكار للعنف عبر مؤسسات حاملة للسلاح.

هذه المؤسسات لها حركتها الخاصة ومراكز للنفوذ داخلها، ولها مصالحها أيضا. ولكنها مستفيدة من استمرار المهيمنين طبقيا -أي الكمبرادور- في الحكم. وعلى هذا الأساس يدافعون عن مصالحه بلا هوادة.

ولكي نتجاوز حصر المسألة في جهاز البوليس فإن مؤسسة الجيش التونسية لعبت نفس الأدوار في اللحظات الحرجة التي عاشها النظام. من ذلك التدخل السافر في أحداث جانفي 1978 و1984 وأحداث انتفاضة الحوض المنجمي وصولا الى انتفاضة 2011. وما الاحترام الذي كسبته هذه المؤسسة في المخيال الجمعي للتونسيين إلا نتيجة لجعلها الخيار الأخير الذي لا يمكن مقارنته -بالنسبة الى الناظر لسطح الأمور وحسب- بمؤسسة أخرى تمارس العنف الرمزي والمادي بشكل متكرر ويومي.

وقد خلق النظام في تونس عبر هيمنته الثقافية أفكارا صارت الى القداسة أقرب. كل هذه الأفكار متعلقة بجهاز الدولة كجهاز متعال على الصراع الطبقي.

فمقولات " هيبة الدولة " و "ابن الإدارة " والكفاءات التكنوقراطية " وغيرها كثير، وجدت فقط لتجعل من هذا الجهاز قاضيا في الصراع بين المفقّرين وقامعيهم. ولكنه طبعا أكثر القضاة فسادا وارتشاء في سياقنا هذا.

يبتز جهاز الدولة أعدادا ضخمة من الطبقة المتوسطة المشتغلة في القطاع العام كي يمنع عنها أي امكانية للمساهمة في الثورة واسنادها.

وتتراوح تسمية هذه الشريحة في الحقل المعجمي المستعمل في الهيمنة الثقافية بين، الشغيلة بالفكر (في لحظات نضالهم الاقتصادي خاصة) والأغلبية الصامتة (حين ينتفض المهمشون بكل اطيافهم).

هذه الطبقة تشهد انهيارا تدريجيا لمصالحها الاقتصادية. ولأنها خاضعة للابتزاز المادي (عبر نظام الأجور) والمعنوي (عبر التبليد الأيديولوجي) فإنها عجزت في أغلب شرائحها عن فهم ضرورة التحالف مع الطبقات المهمشة من عمال صناعيين وفلاحيين وسكان لأحزمة الفقر والدواخل. وهكذا وجدت راحتها في تبني وهم الاستقرار وما سيوفره من إمكانيات لرخاء مستقبلي مزعوم.

وهذا تحديدا ما يفسر انحياز جزء كبير منهم لخيارات 25 جويلية ولصورة الأب الحازم التي يقدمها زعيم هذا المسار.

بالنسبة لهم قطع 25 جويلية مع صورة قدمها الانتقال الديمقراطي المشوه. هي أقرب لاقتتال ملوك الطوائف على أندلس بصدد الضياع.

ولكن هذه الاختزالية في رؤية المشهد هي الشجرة التي تخفي الغابة. ففي نهاية التحليل نجد أن الكمبرادور و حلفائه في جهاز الدولة أي المهيمنين الطّبقيين لجؤوا فقط لحل أكثر عنفا لتجاوز أزمة كانت قادمة في كل الحالات.

ان انطلاقنا من رؤيتنا هذه تمنحنا القدرة على صياغة موقف يراعي التعقيد في المشهد.

وأول الاستنتاجات التي يمكن لنا أن نصوغها هي التالية:

  • قيس سعيد كممثل لأعلى هرم جهاز الدولة موافق على قمع الحريات السياسية. ولكن خروج قيس سعيد من الفعل السياسي وحده لن يوقف هذا القمع. على هذا الأساس يجب أن نوجه مقاومتنا لقيس سعيّد كما يجب أن نوجهها للنظام الذي يحكم قيس سعيد من داخله وعبر هياكله. وهذا النظام ليس غيمة في السماء نعجز عن رؤية تضاريسها. بل هو متجسد في أفراد ومؤسسات وبنى متشكلة يمكن رصدها بدقة لو شئنا ذلك.

  • لا يمكننا أن ننطلق من نفس المسلكية السياسية وننتظر نتائج مختلفة في ظل واقع صراع طبقي لم تتغير ملامحه الرئيسية. وعلى هذا الأساس يجب أن نصوغ تكتيكات جديدة للمقاومة. وعلى هذا الاساس أيضا يمثل الالتقاء الجبهوي مع أحد أجنحة النظام لمقاومته -انطلاقا من ميكانيكا تجميع كل التناقضات الثانوية ضد العدو الرئيسي- مجرد سخافة يجب القطع معها.
  • لن تقدم الثورة من شارع الحبيب بورقيبة في اي لحظة من لحظات تاريخ البلاد. لم تأت في السابق ولن تأتي في المستقبل. وشارع الحبيب بورقيبة في هذا السياق هو كناية عن انتظار للثورة ينطلق من أحلام شاعرية ليساري حالم أصابه "هوس برصد الاحتمالات الكثيرة"، دون أن يرى الامكانات الثورية الحقيقية خارج موقعه المريح نسبيا.

 ليس دور الشيوعيين إلقاء القصائد على أنفسهم. بل دورهم تحويل أبناء شعبهم لشعراء محاربين لهم خيال سياسي وأمل في وطن عادل عوض الأمل في مركب هجرة.

2-الملامح الرئيسية لخطّتنا:  

في مواجهة الهجمة على الحريات، نعتقد أن على الشيوعيين الآن القيام بالتالي: بناء التنظيم القادر على الصمود من داخل شعبهم وعلى المقاومة ببرنامج يطرح البدائل.

تستبطن هذه المقولة جملة من العناصر المرتبطة ببعضها البعض عضويا


أ/ أشكال التنظم:

لا نعني في هذا العنصر الدعوة فقط الى التنظم الحزبي للشيوعيين، بل نعني أيضا تنويع أشكال الالتقاء وأدوات العمل المشترك. كما نعني أيضا أن أي عملية تنظم يجب أن تتم من داخل عملية الانغراس واعادة الانتشار وعلى أساسها لا على أساس ارادوية الوحدات الملغومة التي تبدأ بالنوايا الطيبة وتنتهي بنزعات السكترة والزعاماتية.

ما نراه لازما الآن هو إعادة الانتشار من داخل الطبقات الثورية والمجموعات الإجتماعية التي يمكنها لعب دور الإسناد. أي أن يقوم مجموع المناضلين المتفقين على حد أدنى من المبادئ والشعارات بتنسيق جهودهم، لتصب مباشرة في القطاعات التي يمكنهم العمل داخلها.

نحن نرى أن هنالك امكانية للاتصال بصغار الفلاحين والفلاحين بلا أرض. وذلك حسب رأينا ممكن سواء انطلاقا من نضالات راكموها في عديد المناطق الداخلية من البلاد (جمنة، بوزيان، أولاد جابالله الخ)، أو عبر طاقات طلابية تمنح لنا إمكانيات الاتصال بهذه الطبقات.

أما بالنسبة للعمل الطلابي، فنحن نراه مدخلا لا للهيمنة على نقابة طلابية أو مكانا لنضال مريح، بل لتطويع طاقات شبابية في عملية الانغراس داخل الطبقات المفقرة والمضطهدة. ورغم بقايا الإرث السيئ الذي نحمله من تجربة اليسار في الجامعة إلا أنها قد تمثل الحقل الأقرب للفعل واستقطاب الطاقات الطلابية لأنشطة تهتم بالسياسة كما يراها الثوريون.

شكل هذه الانشطة وبرامجها رهينة بالمبادرات التي سيقدمها المهتمون بنقل المعركة مع النظام خارج مناطق سطوته الكاملة.

البحث أيضا عن الربط مع الطبقة العاملة خارج ابتزاز وهيمنة قيادة اتحاد الشغل أمر ممكن. نرى أن الطريق الى ذلك يمر عبر التركيز على الدعاية لبرامج إصلاحات ذات طابع محلي في الأحياء المهمشة، ومن ثم تطوير العلاقات بالعمال القاطنين بهذه المناطق.

ان مجموعتنا وحدها غير قادرة على تفعيل هذه العمليات بشكل واسع وسريع في الوقت الحاضر، رغم أن محاولاتنا منذ التأسيس تصب في هذه السياقات بشكل رئيسي.

لذلك نعتقد أن العمل المشترك ضرورة في هذه اللحظة. 


ب /أشكال العمل المشترك

تتبنى مجموعتنا العمل المشترك انطلاقا من المبادئ التالية:

  • نبني العمل المشترك انطلاقا من برنامج تكتيكي مرحلي. ولا نبنيه انطلاقا من الانتماء" لطائفة ثقافية" تسمي نفسها "اليسار الواسع"، ولا وحدة سياسية ونظرية لها.
  • ينطلق هذا البرنامج التكتيكي مما ذكرناه من إعادة للانتشار وتركيز على الخام الطبقي الذي له المصلحة في الثورة، أي المفقّرون والكادحون والمهمشون.
  • ينطلق العمل المشترك بين الثوريين من أهداف محددة. لحظة تحقيق تلك الأهداف يعني النجاح بالنسبة لنا كما نراه يعني النجاح بالنسبة لحلفائنا بنفس الدرجة. لا مشكلة لنا على الاطلاق مع مبدأ التنافس الرفاقي في عملية بناء التنظيمات (إن وجدت في العمل المشترك) أو مع صعود الرصيد الاعتباري بالنسبة للأفراد المشاركين. ما يعنينا هو ألا تتحول هذه الأشياء الى عوائق أمام تحقيق الأهداف التكتيكية المرحلية. وسننقد كل ما سنراه من هذا، كما سنستقبل نقد رفاقنا وحلفائنا بصدر رحب، علّ ذلك يطور الثقة كمعطى مادي يلمس باليدين بين المشاركين في العمل المشترك، وعلّه يؤدي إلى آفاق أكثر تطورا للوحدة.
  • الهدف التكتيكي المرحلي بالنسبة لنا هو: مقاومة قمع النظام ونحن محميون بأوسع ما يمكن من الشرائح دون التقوقع داخل مقولات الصمود الاستراتيجي. أي حماية أنفسنا عبر افتكاك أكثر ما يمكن من المواقع من هيمنة النظام الايديولوجية والثقافية.


ج /بناء برامج الشيوعيين أثناء التجذر

  أحد أهم نقاط الضعف والقصور في عمل اليسار التونسي كان اعتماده الكامل تقريبا على فهم مشوه للتحريض. وثنائية الدعاية والتحريض اللينينية كانت دائما محل سوء فهم لدى اليساريين التونسيين.

فما فهمه هذا اليسار من التحريض هو الفضح والاحتجاج في أوساط ضيقة (نتيجة القمع في أغلب المراحل). أما ما فهمه من الدعاية فهو القاء شعارات مكثفة، بالإضافة لتكوين في كلاسيكيات الأدب الماركسي. وكأن جملة مقتبسة من "بؤس الفلسفة" أو "ما العمل" ستقدم حلولا لأزمة المياه السقوية في الوطن القبلي أو للنتائج الكارثية لخوصصة قطاع الطاقة.

لمزيد التوضيح نقترح مثالين للخلل الذي تحدثنا عنه:

المثال الأول هو الحركات الاحتجاجية المرتبطة بالبطالة والتشغيل. حين تدخل اليسار التونسي في هذا الملف كانت الجملة السياسية الرئيسية التي تبناها هي التالية: النظام عبر خيارات الدولة مسؤول عن البطالة وعليه تحمل تبعات الأزمة وحلها."

هذه الجملة صحيحة للغاية ولكن عدم التدخل في الفعل الناتج عنها أدى إلى حلول أقرب للرشوة قدمها النظام للحركات الاحتجاجية على غرار شركات البيئة وأشكال العمل الهش. ولن نتحدث هنا عن رشوة من نوع آخر قدمت للمناضلين اليساريين أنفسهم عبر ملف المفروزين أمنيا. ونحن ننزه أغلب رفاقنا من لعب دور المرتشي في هذه العملية ولكن نوايا النظام كانت واضحة في هذا الملف. يظهر ذلك في عدم حله بشكل نهائي منذ البداية واعتماد الشد والجذب والمساومة والإلهاء. سبب هذا فقدان الكثير من الطاقة في ملف لا يمثل أولوية اجتماعية واقتصادية للبلاد بقدر ما يمثل حلولا لأفراد كانوا عصب الحركة الاحتجاجية في كثير من اللحظات قبل 14 جانفي.

إذن، أخذ النظام عبر جهاز الدولة هذه الجملة المحتجة واعتبرها نصف المشهد. وأنهى هو نفسه المشهد كاملا بما يروق لمؤسساته ومصالحه.

تكرر هذا في الكثير من المرات. نفس العملية يمكننا رصدها الآن في ملف الشركات الأهلية. يأخذ النظام جمل المحتجين. يتبناها. يجعل عبر تبنيها أصحابها الأصليين فاقدين للمبادرة. لم؟ لأنهم لم يكملوا جملتهم السياسية ببدائل جدية محايثة للواقع ويمكن التقاطها وتحويلها لقوة مادية على أرض الواقع. وحتى ان حاولوا تدارك الأمر كما يفعل اليساريّون في الحصص التلفزية فان خطابهم يفقد كل معنى مادام مرتبطا بتقديمه داخل مؤسسات الهيمنة الثقافية للنظام. ولنا أن نقرأ ما كتبه بورديو عن التلفاز والقواعد الموضوعة مسبقا كشرط للحضور فيه.

المثال الثاني الذي يمكن أن نقدمه في هذا الإطار هو حملة وينو البترول الديماغوجية لأنصار المنصف المرزوقي. تعامل اليسار التونسي مع هذه الوضعية بعد فوات الأوان وقدم ردود أفعال سيئة. فوجئ أولا بجزء من النظام يرفع بكل وقاحة شعارا كان خاصا به (تأميم الثروة). لم يلاحظ أن هذا الشعار كان مفرغا من محتواه والهدف منه التعبئة. لم يقدر أيضا على مواكبة القدرات الجماهيرية للحملة لضعفه البنيوي وعدم وجود وحدة سياسية داخله. وهكذا قدم رد الفعل الطفولي الوحيد الذي كان قادرا عليه في ذلك الوقت واعتبره (في جل مكوناته) "تحرك خوانجية".

ونحن في هذين المثالين لا نقول إنه كان هنالك حل آخر "لو قمنا بكذا وكذا ". نحن بصدد القول أن الوعي بتكتيكات النظام وقدرته على استعمال انصاف جملنا الاحتجاجية لإعادة انتاج خطابه المهيمن بشكل أكثر فعالية، الوعي بهذا صار لازما.

هنا تحديد يأتي دور العمل الجماهيري في بناء خطاب الدعاية المحايث، كمنطلق صلب لعملية التحريض والاحتجاج. وعليه فإن الحل الذي نجده لهذه المعضلة التي تتكرر الآن مع قيس سعيد هو التالي:

خلق مساحات هيمنة الثوريين الثقافية الخاصة وتوسيعها تدريجيا.

هذا يستبطن الالتحام بالجماهير والاستماع الى مشكلاتها وبناء خطابنا انطلاقا من تفاصيل اضطهادها وتسليحها برؤى للحلول. نقدمها مكثفة في البداية مع العمل مع هذه الفئات على تطويرها بشكل مشترك.

لم يعد كافيا أن نحث الفلاحين بلا أرض على الاحتجاج. علينا أن نقدم لهم تصورا لطرق الاستيلاء على الأراضي الدولية وخططا لتسييرها.

حتى ان لم ينجحوا في ذلك فانهم سيعون بوجود جهة تقدم خطوات عملية ممكنة، وسيأخذون ذلك بعين الاعتبار في عملية مراكمة نضالاتهم.

لم يعد كافيا أن نحتج على نظام امد كمصنع لتفريخ البطالة من الجامعة. بل يجب تحويلها الى ساحة لمعركة البرامج وبؤرة لانتاج خطاب علمي للثوريين في كل القضايا العلمية.

لم يعد كافيا التبرم من النقابات الصفراء بل يجب تأسيس جمعيات عمالية أو الدخول الى الجمعيات الموجودة المعنية بمصالح الطبقة العاملة خارج سيطرة قيادة البيروقراطية النقابية. ومن هناك تأسيس جرائد خاصة بالمناطق الصناعية وعقد أطر لبث الوعي العمالي عبر العمال أنفسهم لا عبر مثقفين يساريين متعاليين عاجزين عن الاستمرار في الجهد اليومي للعمل الثوري.

لم يعد كافيا تبني نظرة رومنسية لاحتجاجات المهمشين في الأحياء الشعبية. بل يجب دراسة هذه الاحتجاجات بدقة والدخول لها عبر العمل الاجتماعي التضامني لخلق مؤسسات سلطة خاصة تمنحهم وعيا بوحدتهم وقدرة على فهم إمكاناتهم، حتى لو كانت بداية هذا الوعي تنظيم "حملة نظافة ".

كما لم يعد كافيا أن تبني رفيقاتنا وعيا نسويا ماركسيا معزولا عن الشواغل اليومية لعدد مهول من النساء اللواتي يعانين القمع مضاعفا. يجب ايجاد مؤسسات للنضال النسوي المرتبط بالثورة.

ان تكرار هذه العملية -أي بناء مؤسسات النضال الثوري أو التفكير فيها على الأقل- في أكثر من حقل سيؤدي الى عملية تراكم تبدو منفصلة ومجزأة. ولكن عقل الحركة المتمثل في وحدة الثوريين هو الضامن لرؤية المشهد من فوق في شموليته. يصير بذلك إنجاز برنامج الشيوعيين ممكنا. دورهم فيما بعد هو تكثيف هذه البرامج في شعارات توحد جزر المقاومة المعزولة في جسم أكبر، بشكل تصاعدي.

ويخلق هذا قدرات أكبر على الالتحام بالطبقات المعنية بالثورة. ويخلق حماية أكبر للثوريين أمام أي محاولة لقمع الحريات. حينها سيصير للجملة التحريضية معنى أصلب في كل مرة.

إن هذه الأفكار ليست خيالا علميا. كما أن تجربتها على أرض الواقع ستبني في صفوف الشيوعيين خبرات من نوع جديد. وهي خبرات تبدأ من مجهودات بسيطة ويومية في كل مجال اجتماعي أو اقتصادي ينشط فيه أحد الرفاق أوالرفيقات. ومراقبة النجاحات الصغيرة ستغير من مزاج اليأس والإحباط الذي صار مهيمنا في السنوات الأخيرة.


خاتمة

إن ما تم تقديمه في هذا النص هو ملاحظات حول الوضع العام الذي تشهده البلاد الآن. الهدف منه هو توضيح عدد من نقاط الضعف التي سادت داخل ممارسة اليسار، وهو ما سيحمي الشيوعيين من تكرارها. لا يتجاوز ما تحدثنا عنه الاعلان عن خطوط عامة عريضة. ان مهمة تحويل هذه الأفكار العامة الى مهمات عملية هو ما يجب أن يتم نقاشه بدقة.

ليست مهمة الشيوعيين أن يمارسوا بلا أخطاء، لكن مهمتهم هي تعميق معارفهم للواقع لتفادي أكثر ما يمكن منها. يتم ذلك عبر التحليل الجدي.

ولعل أول ما يجب أن يتفاداه الشيوعيون هو العودة الى الغوص في فلكلور يساري سخيف لم ينتج الا ما نراه الآن من عبث تنظيمي وتشنج على أدوات التواصل الاجتماعي.

يمكننا أن نقدم لشعبنا ما هو أفضل من هذا الفلكلور.

يمكننا أن نقدم له بداية طريق التحرر.

لا يمكننا ذلك دون أن نتحرر نحن من ارثنا الثقيل المليء بالخيبات والكسل النظري والعملي ومن العاطفة الطفولية التي لا تعبر عن الحب العظيم الذي يقود الثوريين.

فلنجعل نظرية الثورة المحينة دائما، المحايثة لواقعها سلاحنا في مقاومة هجمة النظام، نحو نفيه وتأسيس الجديد.



[1] قول هيغل في مكان ما أن جميع الأحداث والشخصيات العظيمة في تاريخ العالم تظهر، إذا جاز القول، مرتين. وقد نسى أن يضيف: المرة الأولى كمأساة والمرة الثانية كمسخرة"  ماركس . 18 برومير
[2] زعيم سابق لحزب الكادحين