تأتي الانتخابات الرئاسية المقبلة في سياق يتّسم بازدياد قمع السلطة لمعارضيها وتضييقها على الحرّيات. وهو ما أشاع حالة من الإحباط لدى كلّ المعوّلين على هذا الاستحقاق من أجل تغيير الأوضاع. وزاد قرار هيئة الانتخابات بإقصاء جلّ المترشحين في الطين بلّة. ولئن كان من المفهوم أن يهيمن شعور الإحباط على الليبراليين السطحيّين، الذين لا يرون غير الانتخابات سبيلا لـ"تغيير الواقع"، ويتخذون على أساسه موقفًا داعيًا إلى المقاطعة، فإنّه يفترض بالشيوعيين أن لا يشاركوهم نفس الشعور، لأنّهم أصلا لا يعوّلون على الانتخابات من أجل إحداث تغييرات جذرية في واقع البلاد والطبقات التي يدافعون عن مصالحها. على الأقل ليست هذه الانتخابات التي تجري في ظلّ الدولة الرأسمالية التابعة وهيمنة أجهزتها وأيديولوجيتها. إذ يعلمون أنّ التغيير الجذري والاستراتيجي لواقع البلاد والشعب لا يمكن أن يحصل الّا عبر ثورة الطبقات الشعبية بقيادة طليعتها السياسية المنظّمة.
إلّا أنّ انعدام هذا الوهم لدى الشيوعيين لا يعني انعدام اهتمامهم لأمر الانتخابات أو أن يتعاملوا معها كما لو كانت مسألة ثانوية. ولعلّ العودة إلى كتابات العديد من الماركسيين الثوريين، وعلى رأسهم لينين، كفيلة بتأكيد أنّه لا يمكن ولا يجب التعامل مع الانتخابات بشكل جامد أو قطعي أو طهوري. فموقف المشاركة أو المقاطعة هو تكتيك مرتبط دائمًا بحالة الصراع الطبقي والوطني ومساره المتعرّج وبميزان القوى وبالهدف\الأهداف المرجوّة من التكتيك. فلا قرار المشاركة في الانتخابات مبدأ ثابت لدى الثوريين ولا قرار مقاطعتها كذلك (يمكن الاطلاع على ما كتبه لينين في هذا الصدد مثلا في "ضدّ المقاطعة"، "اليسراوية، مرض الشيوعية الطفولي" أو في هذا المقال التلخيصي للماركسي البريطاني جون مولينو بعنوان "الثوريون والانتخابات"). ولا حاجة لاقتباس مقاطع طويلة من هذه الكتيبات والمقالات، إذ لا وهم عندي في إمكانية أن نجد أجوبة على الأسئلة العمليّة التي تواجهنا في واقعنا الحاضر في "كُتُب الأقدمين"، وإنّما من واجبنا أن نستأنس بآرائهم، وخاصّة بطرق تفكيرهم المشتبكة مع الواقع، والاستفادة من تجاربهم لتساعدنا في فهم ومواجهة ما يمثُل أمامنا اليوم من تحدّيات. وهذا ما أسعى إليه في هذه الورقة.
خيار المقاطعة ونتائجه المحتملة
مثلما أوضح لينين، لا معنى لقرار المقاطعة إن لم تكن مقاطعة نشطة وتحصل في ظلّ زخم جماهيري يمكن أن يؤدّي إلى وضع ثوري. ومع ذلك يمكننا أيضا التفكير في سياقات أخرى قد تحتمّ علينا اعتماد تكتيك المقاطعة النشطة من أجل الدعاية لـ"ديمقراطيتنا البديلة" وتعزيز وعي الطبقات الشعبية في إطار المراكمة لوضع جديد قد يسمح لاحقًا، في المدى المنظور، بتشكّل وضع ثوري (وهو وضع يشبه نسبيًا لعشية انتخابات 2019 لو كانت هناك قوى ثورية فاعلة حينئذ). إلّا أنّه من الواضح اليوم أننا لسنا بصدد حالة مشابهة لما سبق ذكره، فلسنا حيال حالة نهوض جماهيري يمكن أن تؤدّي إلى ثورة ستقطع الانتخابات الطريق عليها، ولا قدرة للمجموعات الثورية اليوم على أن تقوم بحملة مقاطعة نشطة يمكنها من خلالها تحقيق بعض المكاسب لجهة الدعاية لبرنامجها والتمهيد لوضع أفضل في المدى المنظور.
بالمقابل، ماذا يطرح أنصار خيار المقاطعة اليوم (تحديدا في أوساط الليبراليين واليسار الليبرالي، وجزء من الدساترة والإسلامويون بعد أن أُقصيَ مرشّحوهم)؟ إنّهم يقدمّون المقاطعة كتكتيك يهدف إلى إضعاف مصداقية هذه الانتخابات، وبالتالي التشكيك في مشروعية نتائجها، ومن ثمّة في حكم قيس سعيّد برمّته.
تكتيك المقاطعة واضعاف المصداقية هو هدفهم المباشر، الّا أنّ الأهداف الأبعد تختلف من مجموعة إلى أخرى. ففيما يهدف اليساريون، بما في ذلك بعض الماركسيين، إلى عزل السلطة شعبيًا وفضح الطابع الاستبدادي والفردي لسلطة قيس سعيّد، فإنّ جزءًا هامًا من اليمينيّين والليبراليين، وخاصّة الإسلامويّين والدساترة، يهدفون في الواقع إلى إضعاف مشروعية قيس سعيّد لأسباب مختلفة تماما. إنّهم لا يهتمّون كثيرًا برأي الطبقات الشعبية في قيس سعيّد، فهم يعلمون أنّ هذه الطبقات – وجزءا كبيرا من الطبقة الوسطى - لفظتهم وكرهتهم قبل أن يصل سعيّد إلى الحكم ولم تغيّر رأيها فيهم حتى اليوم. وبالتالي لا أمل لهؤلاء في أن يتحوّل الموقف المنشود، بالعزوف الشعبي عن المشاركة في الانتخابات، إلى قوّة لصالحهم، بل إنّهم يسعون إلى إضعاف سعيّد ونزع الشرعية عن انتخاباته من أجل تسهيل التشهير به والضغط عليه لدى “المجتمع الدولي”. فكعادتهم، يستعيض هؤلاء (خاصة الليبراليون والإسلامويون)عن ضعفهم شعبيًا باستدرار "التعاطف" و"الدعم للديمقراطية" من أعتى الدول الامبريالية، التي لن تمانع طبعًا في استعمال هذه الورقة كعادتها من أجل مزيد ابتزاز النظام الحاكم وتطويعه أكثر لمصالحها. ولا حاجة للقول أنّ موقفهم هذا لا ينبع من خلفية “مبدئية” (عكس ما يزعمون باتهام غيرهم بـ”الانتهازية”). فهؤلاء الذين أمضوا السنوات الماضية في نقد سعيّد وتوصيفه بـ”الديكتاتور” و”المنقلب” والخ. كانوا رغم ذلك مستعدّين تمامًا لخوض المعركة الانتخابية ضدّه لو قبلت هيئة الانتخابات بمرشّحيهم (تحديدا الزنايدي بالنسبة للدساترة والليبراليين والمكّي أو الدائمي بالنسبة للإسلامويين).
أما خيار “نحن لسنا معنيّين بالانتخابات”، الذي عبّر عنه جزء هامّ من الرفاق بالمجموعة، وكذلك في مجموعات يسارية ثورية أخرى، فهو يُعدّ بتقديري نوعًا من المقاطعة السلبيّة وتكتيكًا خاطئًا. وذلك للأسباب التالية:
أساسًا، لأنّه سيساهم في السماح لقيس سعيّد بالفوز في هذه الانتخابات. وهو ما يعني ببساطة الاستسلام لأحد سيناريوهين سيّئين وخطيرين أو كلاهما: استكمال قيس سعيّد ترسيخ نظامه الاستبدادي؛ و\أو استمراره في الحكم بمشروعية مؤسساتية أضعف، بما سيسهّل على القوى الصلبة داخل النظام، بالتعاون مع جزء هام من الكمبرادور غير الراضي عن سعيّد، باستغلال الهبّة الشعبية القادمة (والمتوقّعة بسبب تواصل نفس السياسات الاقتصادية) للانقلاب عليه والتأسيس لديكتاتورية مكتملة الشروط تعيدنا إلى وضع ما قبل 14 جانفي، لا ما قبل 25 جويلية كما يأمل بعض الواهمين من الليبراليين واليسار الليبرالي. وأنا شخصيًا، أرجّح أنّ الأوضاع متجهة إلى هذا السيناريو الثاني لأسباب لا يتسع هذا النص لتفصيلها وليست مرتبطة مباشرة بهذه الانتخابات.
ماذا يعني تحقّق أحد هذين السيناريوهين أو كلاهما (أيْ أن يحصل الأوّل ثمّ يعقبه الثاني)؟ سيعني ببساطة الانتقال من الوضع الراهن المتّسم بتزايد التضييق تدريجيا على الحريات العامة إلى وضع تنعدم فيه هذه الحرّيات، وبالتالي تُغلَق فيه أمام الثوريين كلّ سبل النشاط الجماهيري القانوني (إعلاميًا وجمعياتيا والخ) الضروري والحيوي من أجل تحقيق أهدافنا في الدعاية والإنغراس صلب الطبقات الشعبية. بعبارة أخرى، إنّنا سننتقل إلى وضع تكون فيه شروط الصراع الطبقي الوطني أسوأ بكثير للثوريين، بما لن يسمح لهم بالمراكمة الكمية وصولا إلى التغيير النوعي عند التقاء الظرفين الموضوعي (انتفاضة شعبية) والذاتي (تنظيم ثوري قويّ ومنغرس طبقيا). ويكفي أن نتذكّر كيف كانت حال المجموعات الثورية الجدّية (حزب العمال الشيوعي التونسي مثالا) في عهد ديكتاتورية بن علي. لم يكن ينقص هؤلاء الشجاعة والصمود في وجه القمع، لكن افتقادهم إلى الحدّ الأدنى من حرّية التنظم والعمل وسط الجماهير (بسبب ظروف القمع والملاحقة الأمنية المستمرة) لم يسمح لهم بالدعاية الناجعة لبرنامجهم وأفكارهم بما يكفي للانغراس صلبها وكسب ثقتها. ولذلك، عندما انتفضت جماهير شعبنا في 17 ديسمبر لم تكن تعرف شيئا عن حزب العمّال، أو غيره، ولم تتجه إلى الشيوعيين من أجل قيادتها في ثورتها ضدّ نظام بن علي. طبعا، هذا لا ينفي ما ارتكبه هذا الحزب، وغيره من المجموعات الثورية، من أخطاء تكتيكية فادحة قبل الثورة وبعدها.
بكلّ صراحة رفاقية، في حال عادت الديكتاتورية المطلقة، لا أعتقد أنّ المجموعات الثورية بوضعها الراهن اليوم ستكون قادرة على تحقيق أداء أفضل ممّا حقّقه مناضلو حزب العمّال الشيوعي خلال عهد ديكتاتورية بن علي. كما لا أعتقد أنّ الطبقات الشعبية ستنتفض في وجه هذه الديكتاتورية قبل زمن طويل نسبيا (لا أتصوّر كذلك أنّها ستحتاج الى 23 عامًا كما في عهد بن علي بسبب ما نعرفه من تغيير في وسائل الاتصال والخ وبسبب تعوّد الأجيال الجديدة على حرّية التعبير). بل إنّني مقتنع – مع الأسف – أنّ جلّ أبناء هذه الطبقات سيرحّبون بانقلاب يقوده الجيش مثلا، بعد أن وقع "إقناعهم" طيلة المرحلة المنقضية (إثر إجهاض ثورة 17 ديسمبر) بأنّنا "شعوب لا تصلح للديمقراطية" وأنّ الحلّ الوحيد يكمن في "مستبد عادل ينقذ البلاد ويعطف على الزواولة".
أتوقّع أن يرى البعض في هذا الرأي تشاؤمًا أو “انهزامية” أو “تعبًا من النضال” والخ. من حقّهم ذلك، ومن حقّي وواجبي كذلك أن أصارحهم بهذا الاستنتاج المتمخَّض من تحليلي للواقع الملموس وبناءً على تجربتي الشخصية المتواضعة طيلة السنين الماضية.
وبالتالي، أعتقد أنّ الهاجس والهدف الأوّل للماركسيين الثوريين، وعموم اليسار الثوري، في هذه اللحظة يجب أن يكون: الحيلولة دون انزلاق الأوضاع إلى سيناريو الاستبداد المطلق، أو الديكتاتورية مكتملة الشروط على شاكلة ما قبل 14 جانفي، وذلك من أجل ضمان أقلّ الظروف سوءًا لمواصلة النضال والإنغراس بهدف المراكمة للثورة. خاصّة وأنّ الظرف الإقليمي والدولي (الامبريالي) الراهنين يرحّبان، بل ربّما يشجّعان في مكان ما، على تصفية ما بقي من “ربيع عربي” مضطرب لصالح أنظمة ديكتاتورية مستقرّة ومتعاونة وخاضعة تمامًا لهيمنتهم.
وهنا يُطرح السؤال: هل أنّ خيار المشاركة في هذه الانتخابات كفيل بمنع تحقّق هذا السيناريو الأسوأ؟
خيار المشاركة (غير المباشرة) ونتائجه المحتملة
الإجابة المختصرة السريعة: لا شيء يضمن أنّ خيار المشاركة كفيل بمنع تحقّق السيناريو الأسوأ. ولكن، هناك احتمال – ضئيل إلى حدّ الآن – أنّ النجاح في خلق ديناميكية وراء مرشّح جدّي ينافس قيس سعيّد قد يحول دون انتصار الثاني منذ الدور الأوّل. مجرّد وصولنا إلى دور ثاني بين سعيّد ومنافسه سيؤدّي ضرورة إلى حالة أفضل من الإيمان بحظوظ المعارضة، ومن ثمّة حماسة أكبر على التعبئة من أجل الفوز في الدور الثاني.
قد يبدو هذا السيناريو للبعض طوباويًا أو مغرقًا في التفاؤل. الحقيقة، نعم هو متفائل، لكنه غير طوباوي. حجج المشككين في احتمال تحقق هذا السيناريو تتمحور أساسا في مسألتين: قيس سعيّد، رغم ضحالة أدائه، أكثر شعبية من منافسيه؛ لماذا ستقبل بيروقراطية الدولة (بأجهزتها الصلبة) المتحالفة مع سعيّد بتغييره ولا تزوّر الانتخابات في حال انهزم؟
الإجابة على السؤال الأوّل صعبة في ظلّ عدم توفّر استطلاعات رأي دقيقة وموثوقة توضح اتجاهات الرأي العام. لكن بعض ما تسرّب يشير إلى أنّ المسألة ليست محسومة لسعيّد رغم تقدّمه في نوايا التصويت. كذلك، يمكن لمرشّح جدّي، يحمل برنامجًا منحازًا لأغلبية الشعب ويجيد التواصل، وقادر على تعرية فشل سعيّد خلال سنوات حكمه ونقده من يساره (أي تحديدا بخصوص فشله في تحقيق ما رفع من شعارات مثل "الدولة الاجتماعية" و"السيادة الوطنية" والخ) أن يقضم جزءًا من قاعدته الانتخابية المحتملة، فضلا عن إمكانية إقناع جزء من الطبقات الشعبية الميّالة خلال المواعيد الانتخابية الأخيرة إلى العزوف عن المشاركة (لكن الملاحظ أنّها عموما تهتمّ أكثر بالانتخابات الرئاسية).
الإجابة على السؤال الثاني أصعب، إذ لا أحد يعرف حقًا ماذا يجري في كواليس السلطة. لكن يمكن افتراض أنّ بيروقراطية الدولة، فضلا عن جزء هام من البرجوازية الكمبرادورية، ليسا راضيَين عن سعيّد. فهو، رغم إبقائه عموما على نفس السياسات العامّة للدولة منذ عقود ورغم نجاح النظام في احتوائه، إلّا أنّه يبقى شخصًا لا ينتمي طبقيا وأيديولوجيًا لـ"المؤسّسة"، ولا يمكن توقّع أفعاله وقراراته. ولا أعتقد أنّ أركان هذا الائتلاف الطبقي الحاكم متجانس في دعمه لسعيّد (“تمرّد المحكمة الإدارية"، وما نسمع عنه من تعطيل إداري لبعض المشاريع أحيانًا ومن قرارات قضائيّة وأمنية مبهمة... من مظاهر ذلك بتقديري) أو مرتاح لتجرّأ سعيّد على وضع أسماء برجوازية هامّة مثل مروان المبروك وكمال لطيّف ومحمد فريخة وخيّام التركي والخ في السجون. “الدولة العميقة" تفضّل بلا شكّ شخصًا أقرب إليها من سعيّد، ولو لم يضمن سعيّد ولاء هيئة الانتخابات ووزارة العدل لرأينا مرشّحين آخرين أقرب لـ"الدولة العميقة" في منافسة شديدة معه.
بناءً على هذا التحليل، وبالنظر إلى المرشّحيْن الباقيْين في السباق (المغزاوي وزمّال)، يمكن بسهولة توقّع أنّ الثاني (الزمّال) يمكن أن يكون المرشّح المحبّذ (في ظلّ اسقاط الزنايدي وقبله عبير موسي) لجزء هامّ من الائتلاف الطبقي الحاكم (وكذلك للقوى الاقليمية الرجعية والصهيونية والامبريالية). فلا شكّ في أنّ برجوازيا كمبرادوريًا مثل زمّال (الذي كان نائبا عن حزب يوسف الشاهد ومتعلقة به عديد شبهات الفساد) سيكون الأنسب لمصالح هذا الائتلاف. كما لا شكّ في أنّ شخصًا بخلفيته الأيديولوجية (الليبرالية ذات المنزع الشوفيني التونسي) والطبقية (رجل أعمال بنى ثروته من الزراعة التصديرية) سيكون أحرص على الإبقاء على علاقات التبعية للمراكز الامبريالية وعلى التطبيع الرسمي – عندما تسنح الفرصة – مع العدوّ الصهيوني.
إلّا أنّ هذا التحليل نفسه كان يمكن أن ينطبق بحذافيره على الدور الثاني بين سعيّد ونبيل القروي قبل خمس سنوات. ومع ذلك، حصلت المفاجأة بانتصار سعيّد الذي لا يمكن القول يومها أنّه كان “ابن النظام” (يبدو أنّه استفاد وقتها من الصراعات داخل البرجوازية الكمبرادورية، تحديدا بين رئيس الحكومة المنتهية ولايته يوسف الشاهد ونبيل القروي). هل من احتمال لحدوث سيناريو مشابه اليوم (أي أن يقبل الائتلاف الطبقي بمرشح من خارجه)؟ الاحتمال ضئيل بلا شكّ، لكن حصول تعبئة هامّة (بما يعني كذلك تعبئة ميدانية ومراقبة لصناديق الاقتراع والفرز والخ) وراء مرشّح من خارج النظام (يمكن أن تصبح هذه الفرضية قائمة أكثر إذا وصل إلى الدور الثاني) يمكن أن تحوّل هذا الاحتمال (انتصار مرشح من خارج النظام) إلى احتمال معقول. وهنا نعني طبعا بـ"المرشّح من خارج النظام" زهير المغزاوي.
وبالمناسبة، ما يمكن أن يزيد – قليلا – من احتمال قبول سعيّد بالنتيجة في حال فاز المغزاوي عليه في الدور الثاني هو أنّه لطالما اعتبره من "الوطنيين"، ولكونه كان من أبرز مسانديه في "مسار 25 جويلية" قبل أن يفترقا تدريجيا خلال السنة الأخيرة. كما أنّ احتمال "محاسبته" والتشفّي منه سيكون أضعف مع المغزاوي بكثير منه مع بقية المترشحين.
إذن للتلخيص: احتمال أن يؤدّي خيار المشاركة (من خلال دعم المرشّح المغزاوي – سأعود لذلك لاحقا) إلى تجنب السيناريو الأسوأ هو احتمال ضعيف، لكنه ليس مستحيلا. وشروط تحقّقه تعتمد جزئيًا على القدرة على خلق ديناميكية شعبية وإعلامية ودعائية مساندة له وعلى خوض معركة انتخابية جدّية (تبدأ من قبل الحملة ولا تنتهي قبل الإعلان عن النتائج والتحقق من سلامتها).
ما سبق، كان تحليلًا للسيناريوهات المحتملة في هذه الانتخابات مع ترجيح خيار المشاركة غير المباشرة، من خلال دعم المرشّح زهير المغزاوي، كتكتيك يهدف إلى تحقيق السيناريو الأقلّ سوءًا. لكن من المتوقّع أن يسأل أيّ رفيق.ـة : لماذا تعتبر هذا السيناريو أقلّ سوءًا؟
لماذا يجب أن ندعم ترشّح المغزاوي؟
بكلّ بساطة، وكما سبق أن شرحت أعلاه، يمثّل وصول المغزاوي إلى سدّة الحكم أقلّ السيناريوهات الممكنة سوءًا. فهو – على عكس سعيّد – لا ينبذ "الأجسام الوسيطة" ولا يسعى إلى القضاء عليها أو تهميشها. هو إبن تجربة نقابية وسياسية طويلة، ولم يُعرف عنه مساندة الديكتاتورية في عهد بن علي. أمّا مساندته لـ"انقلاب 25 جويلية"، فقد كان ردّة فعل – شاركه فيها حتى يساريون وماركسيون، بل وديمقراطيون ليبيراليون كحزب التيار الديمقراطي – مفهومة على تدهور الأوضاع وغضب الشارع حينها، ومسايرة لمزاج الطبقات الشعبية والطبقة الوسطى. نعم، أمضى المغزاوي، ومعه حركة الشعب التي يقودها، وقتًا طويلا نسبيًا في مساندة ما أسموه "مسار 25 جويلية"، إلّا أنّ المتابع الموضوعي لمواقفهم سيلمس تصاعدًا تدريجيًا لنبرة النقد تجاه الرئيس – وقبل ذلك حكوماته الفاشلة المتعاقبة – وانتقالا بطيئا من معسكر "الدعم النقدي" إلى معسكر "المعارضة الجدّية" في الشهور الأخيرة.
لا أذكّر بهذه المعطيات من أجل البرهنة على أنّ المغزاوي هو مرشّح جيّد بالنسبة لنا كماركسيين ثوريين. بل أفعل ذلك فقط كي نحكم بموضوعية على الرجل في ظلّ ما لاحظته من نزعة تستسهل وصف الرجل بـ"الانتهازي" و"شاهد الزور المشارك في مسرحية قيس سعيد" والخ. ولا وهم عندي طبعا في إمكانية أن يكون المغزاوي مرشّحًا مناسبًا للماركسيين الثوريين أو اليسار الثوري عمومًا. فهو باختصار ليس ماركسيًا ولا يحمل برنامجًا اشتراكيًا جذريًا، بل هو ينتمي إلى التيار القومي الناصري المتأرجح بين وسط اليمين (في المواضيع الاجتماعية والثقافية) ووسط اليسار (في المواضيع الاقتصادية والسيادية).
لتلخيص الإجابة على السؤال: علينا بتقديري دعم المغزاوي، لأنّ في ذلك مصلحة من زاوية تحسين شروط خوضنا الصراع الطبقي والوطني. بعبارة أخرى، من مصلحتنا اختيار خصمنا للمرحلة المقبلة. فهو على الأرجح لن يبادر إلى قمعنا والتضييق على نشاطنا (على الأقلّ ليس في السنوات الأولى لحكمه)، وبالتالي الحدّ من جهودنا في الانغراس، ولن يكرّس جهده للقضاء على الحرّيات العامّة. كما أنّه – وهذا مهمّ جدًا بتقديري – سيكون أميَل إلى سنّ قانون تجريم التطبيع وتقديم دعم ملموس للقضية الفلسطينية، كما سيحاول جدّيًا التخلّص من الهيمنة الأمريكية والغربية وتوجيه السياسة الخارجية نحو التوازن واستغلال التناقض بين المحاور العالمية (تحديدا علاقات وثيقة مع الصين وروسيا وبلدان الجنوب). طبعًا، نحن نعلم أنّه طالما لم يتبّع سياسة اقتصادية سيادية وذات أفق اشتراكي فلن ينجح في تجسيد هذا الهدف، وهنا سيكون دورنا لنقده ومعارضته بناء على ما سيتبّعه من سياسات.
وحتى في الجانب الاقتصادي، لا شكّ في أنّ حركة الشعب، وإن كانت غير متجانسة في هذا المجال، تبقى أكثر نزوعًا من غيرها نحو تحقيق جملة من القرارات والسياسات المنحازة للطبقات الشعبية. وعلى الأرجح مازال هناك مجال للتأثير في ما قد يضعه المغزاوي وفريقه الاقتصادي من وعود وملامح سياسات في برنامجه الانتخابي.
إذا اتفقنا على تكتيك دعم المغزاوي بصفته الخيار الأقل سوءًا، فكيف يمكننا تطبيق هذا التكتيك، وماهي شروطه ومحاذيره؟
أيّة مشاركة غير مباشرة؟
يتمثّل التصور الأنسب لهذه المشاركة غير المباشرة (أي خيار دعم المغزاوي) في :
- فتح حوار مباشر جادّ وصريح مع المرشّح بهدف تشكيل نوع من الائتلاف السياسي الداعم له على أساس برنامج واضح. ويجب أن يتضمّن هذا البرنامج قرارات اقتصادية واجتماعية ملموسة لصالح الطبقات الشعبية وإجراءات لتعزيز السيادة في مختلف أبعادها (أساسا الغذائية، المالية والطاقية)، وسنّ قانون يجرم كافة أشكال التطبيع (واجراءات أخرى ملموسة لدعم المقاومة في فلسطين وتعزيز صمود الشعب) والخ. كما يجب أن يتضمّن تعهدا وقرارات ملموسة من أجل الحفاظ على الحرّيات العامة وتعزيزها (خاصة ما يهمّ حرية التعبير والتنظم والإعلام والعمل الجمعياتي والخ).
- على أساس هذا البرنامج فقط يمكن للمجموعة إعلان دعمها للمرشح المغزاوي وانخراطها معه في إنجاح المعركة الانتخابية (من خلال الدعاية له كخيار ممكن يجب دعمه، التطوع في حملته لمراقبة سير الاقتراع والخ).
- السيناريو الأمثل هو في أن تنجح المجموعة في إقناع مجموعات أخرى من اليسار الثوري (وكذلك أصدقاء المجموعة) بهذا الخيار. فهذا سيعزّز وزن "اليسار الثوري" في الحوار مع المغزاوي ويزيد من فرص تجذير البرنامج الانتخابي. لكن حتى في حال عدم النجاح في إقناع بقية المجموعات، أرى أن تبادر المجموعة إلى إعلان ما تراه الموقف السليم وتتحمّل مسؤوليتها في ذلك.
(...)
أخيرًا، هذا التكتيك (دعم المغزاوي بالشروط المذكورة أعلاه) هو بتقديري التكتيك الأنسب – رغم صعوبته - في حال تواصل المشهد الانتخابي كما هو اليوم. لكن المشهد قد يعرف تغييرات تجعل من هذا التكتيك غير ذي صلة. مثلا، قد تعمد السلطة إلى اعتقال أو اقصاء زهير المغزاوي. حينها مالذي علينا فعله؟
خيار المقاطعة ومحاولة عزل سعيّد
في حال قرّرت السلطة إقصاء المرشّح الجدّي الوحيد ممّن يمكن أن نتقاطع معهم (أي المغزاوي)، فوقتها لن يبقى لنا من خيار آخر غير إصدار موقف يدعو إلى مقاطعة هذه الانتخابات والدعاية ضدّها (...) بوصفها مهزلة وتكريس لتسلّط سعيّد والخ. لن يغيّر هذا الموقف من ميزان القوى ولا من نتائج الانتخابات، لكنه قد يساهم في إضعاف مصداقية سعيّد وشرعيّة انتخاباته لدى الطبقات الشعبية. بشيء من الحظ (...) قد يساعدنا ذلك مستقبلا في بناء خطاب وصورة ذي مصداقية لدى بعض الأوساط الشعبيّة.
وفي كلّ الأحوال، يجب أن يتبع إصدار هذا الموقف الاستعداد جدّيًا لسيناريو الاستبداد الكامل بعد الانتخابات…
خلاصة الموقف والتكتيك المقترح
باختصار، ما أدعو إليه في هذه الورقة هو عدم الاستسلام لما نعرفه من اختلال بنيوي لميزان القوى (فليس المطروح تحقيق أهدافنا الاستراتيجية)، ولا الاستسلام للنزعة السائدة في الأوساط اليسارية (بما في ذلك ضمن مجموعات اليسار الثوري) التي تتعامل مع هذه الانتخابات كما لو كانت شأنًا لا يخصّنا. وحججهم في ذلك: أنّ المعركة محسومة لصالح سعيّد بسبب انحياز هيئة الانتخابات، أو “عدم الثقة في المغزاوي الانتهازي”، وكحجة أقلّ سوءًا "عدم قدرتنا على التأثير"…
كما أدعو بقوّة لعدم الاستسلام لشعور زائف بـ”راحة الضمير” أو “الانسجام المبدئي” أو “التفوّق الأخلاقي”.. فلا راحة ممكنة ولا انسجام للثوريين وهم على متن سفينة يعرفون أنّها ماضية إلى الهاوية. الأحرى بهم أن يحاولوا بما أوتوا من قوّة، ومع من يشاركهم الحدّ الأدنى ونفس الهدف المباشر، إنقاذها وتوجيه دفّتها إلى مكان أكثر أمنًا.. لا أن ينتظروا غرقها، فيغرقون معها وهم "مرتاحي الضمير" و"منسجمين مع مبادئهم" ...
المسألة ببساطة تتعلّق بـ أن نحاول الدفع نحو السيناريو الأقلّ سوءًا لنا من زاوية تطوّر الصراع الطبقي والوطني والشروط الأنسب للثوريين للمراكمة من أجل تحقيق أهدافهم الاستراتيجية. قد لا ينجح التكتيك المقترح (وهذا الأرجح إلى حدّ الآن)، لكن من العار أن نفكّر مسبقًا في “ما قد يقوله عنّا الآخرون” (تحديدا المجموعات السياسية الأخرى) عوض التفكير في مصلحة الطبقات الشعبية والبلاد. ومن غير المقبول برأيي أن ينزع الثوريون إلى اتخاذ موقف “الفرجة من فوق الربوة” خوفًا من ارتكابهم خطأً في التقدير. فلا عيب في السياسة (بمعناها النضالي) أن نجرّب ونحاول ونخطئ طالما بوصلتنا ونوايانا سليمة، المهمّ هو أن نعترف لاحقًا بالخطأ ونعمل على تصحيحه ونصارح شعبنا بذلك. أخيرًا، ما أدعو إليه باختصار هو أن نبادر إلى اختيار خصمنا خلال السنوات المقبلة، وأن نعمل على إبعاد السكّين عوض انتظار أن يهوي بها الجزّار على عنقنا.
أمازيغ العربي
كُتب هذا النص في 7 سبتمبر 2024. وهو يعبّر عن رأي أقلّي لأحد الرفاق بالمجموعة، ننشره ضمانا للحق في التنوع واحتراما للديمقراطية الداخلية.