تضامنا مع غسان بن خليفة


حكم القضاء التونسي على المناضل الماركسي غسان بن خليفة بالسجن ستة شهور مع عدم النفاذ العاجل في قضية أولى بتهمة الإساءة للغير عبر شبكات التواصل الاجتماعي. تنتظره تهم أخطر بارتكاب أمر موحش في حق رئيس الجمهورية والانتماء لوفاق إرهابي. بُنيت هذه الملاحقة القضائية على ادعاء بإدارته لصفحة فايسبوك ذات توجهات إسلامية معادية لحكم قيس سعيد. ولا يصعب على من يعرف شخص غسان وخطه السياسي و قناعاته السياسية التّيقن بأن هذه التهمة وهمية وملفقة تماما. كما جاءت الإدانة رغم إيقاف واعتراف صاحب الصفحة الحقيقي.

تشير هذه المعطيات إلى الطبيعة السياسية لهذه التتبعات. إذ يأتي هذا التعسف القضائي، مع خصوصيته التي سنبيّنها أسفله، في سياق سياسي عام معروف، لكنه لم يكن مفهوما دائما بشكل صحيح.

انتشرت من قبل 2019 جماهيريا قناعات رجعية مناهضة للبرلمانية و"الأحزاب" والليبرالية السياسية عموما. ازدادت قوة وهيمنة هذه الأفكار وصولا إلى مسار 25 جويلية، الذي جاء استجابة لها. وقد كان من أبرز سياساته هو تصفية مؤسسات منظومة الانتقال الديمقراطي. غُيِّرت، من جهة، الدستور والقوانين الانتخابية لتصفية البرلمانية ودور الأحزاب. كما صدر المرسوم 54 مضيقا على حرية التعبير. تزايد التدخل المباشر للسلطة التنفيذية في القضاء والمجاهرة بالضغط عليه. كما تزايدت الإيقافات والقضايا في حق مختلف القيادات السياسية والصحفيين وحتى بعض البرجوازيين الذين اعتبرتهم منظومة 25 جويلية خطرا عليها.

هذه وقائع عينية لا يمكن أن ينكرها أحد. ويركز الليبراليون والشكلانيون القانونيون في خطابهم على تحمل رئيس الدولة حسب الدستور الذي أرساه مسؤولية هذه السياسة، ويتوقفون عند ذلك. لكن التحليل الماركسي الجذري يجب أن يبحث في الاشتغال الفعلي الملموس للدولة وأجسامها. فمن الوهم تصور أن الرئيس بمفرده يتحكم في بنى الدولة المعقدة وبيروقراطيّيها المخضرمين، ومن الخطأ تصور أن كل الملاحقات تحصل بقرار منه. لكن من المؤكد في نفس الوقت أن بعض الإيقافات لم تحدث إلا بعد أوامره. وحتى في هذه الحالة لا يعني ذلك أنه من بادر باختيار الأشخاص.

يجب إذن الحديث عن عدة فاعلين من بينهم شخص الرئيس ومن بينهم أيضا مؤسسات بيروقراطية وأمنية وقضائية إلى غير ذلك. قد تتناغم مصالح هؤلاء الفاعلين وقد تتعارض. ونزعم أن الأجسام البيروقراطية المسلحة والإدارية هي الفاعل الاستراتيجي وصاحب المبادرة. ولا شك أن مصالح الرئيس تتماشى تماما مع مصالحها في تصفية المشهد السياسي من أي خصم سياسي له. في نفس الوقت يضفي الرئيس مشروعية إيديولوجية على أجندة بيروقراطية الدولة بخطابه حول مكافحة الفساد والمحاسبة والخيانة والتخابر إلى غير ذلك. 

أما الجسم القضائي فقد تربى في تونس على الخنوع ولم يراكم لأي تقاليد ليبرالية. لذلك، وخاصة في هذا الجو العام الرجعي وتحت ضغط الرئيس، فهو يمتنع عن تبرئة المتهمين في القضايا السياسية حتى عندما تكون ملفاتهم مفتعلة وفارغة.  

لا يمكن وصف غسان بن خليفة (وغيره) بالخصم السياسي للرئيس بالمعنى المتداول للكلمة. فهو لا يدعو إلى العودة الى ما قبل 25 جويلية، ولا علاقة له بجبهة الخلاص والمعارضة "الديمقراطية" (إقرأ: الليبرالية) ولا هو مرشح ممكن للرئاسة إلخ. لذلك فنحن نعتبر أن ملاحقته تندرج ضمن سياسة بيروقراطية الدولة المتقاطعة بطبعها مع مصالح إمبريالية وصهيونية، قد يكون أزعجها نشاط رفيقنا طيلة العقد الماضي في مجال مناهضة التطبيع. وإن الخط السياسي الذي ينتمي إليه غسان والذي تستهدفه هذه البيروقراطية من خلاله، يوضح في نفس الوقت جانبا مهما من استراتيجية هذه الأخيرة.

يُعد غسان من أبرز المناهضين للإمبريالية والصهيونية والمحرضين على البرجوازية التابعة ودولتها. كما أنه من الماركسيين الداعين لخط جماهيري شعبي. وعبر استهدافه، يجب اعتبار أن الدولة انطلقت في مهاجمة التيار الماركسي الثوري. قد لا نكون الأولوية الآنية لأعدائنا، بالنظر لضعف الوزن السياسي لتيارنا. لكن القضية الكاريكاتورية الملفقة بفجاجة لأحد أبرز الوجوه التي تمثلنا، تعني أننا ضمن حساباتهم وأنهم لن يترددوا في ضربنا كلما برزنا. وتستهدف هذه القوى من وراء الحركة الماركسية الثورية استباقيا أي مبادرة أو تنظم سياسيين مستقلين للطبقات الشعبية. يجب أن نعي جيدا معنى ذلك وخطورته.

يستدعي سياقنا هذا تنبيه أصدقائنا من الاستخفاف بالدكتاتورية البوليسية والتضييق على الحرية السياسية. فمن البديهي أن النقد الماركسي للحريات الليبرالية لا يهدف في المطلق إلى تقليصها بل يعتبر أنها على العكس من ذلك غير كافية ،وأن أغلبية المجتمع مقصى منها بآليات مختلفة من بينها الاقتصادية والإيديولوجية. وهذا ما يؤكده خطاب رائج بين الطبقات الشعبية يعتبر أنها لم تجني شيئا من "الديمقراطية" (الليبرالية) وهذا صحيح إلى حد كبير. فبخلاف بعض الاستثناءات الملحوظة (جمنة، أولاد جاب الله، دوار هيشر) والمحدودة لم يكن للطبقات الشعبية منظمات جماهيرية وجمعيات وأحزاب سياسية وغيرها من المؤسسات لتمارس فيها ديمقراطيتها ولتدافع عنها في وجه دولة البرجوازية التابعة.

ومن هنا تحديدا يجب أن تنطلق المقاومة الفعلية للاستبداد البوليسي، أي بالعمل مع الطبقات الشعبية على بناء مؤسساتها المستقلة التي تنشط فيها لإدارة شؤونها والدفاع عن مصالحها. يتنزل هذا العمل في اللحظة الراهنة مثلا بالدعاية والتنظيم للمقاطعة ومناهضة التطبيع والصهيونية وفضح سياسة النظام فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

يستدعي هذا في نفس الوقت أوسع مجال من حرية التنظم والاجتماع والتعبير. لذلك يتوجب علينا اليوم الدفاع عن الحريات العامة والتنبيه للخطر البيروقراطي-البوليسي المحدق بها. ليست المسألة مسألة مبادئ مجردة ومطلقة بل هي مسألة سياسية تنطلق من واقع صراع طبقي. تحتاج الطبقات الشعبية اليوم لمساحة من الحرية لبناء مؤسساتها وتطوير وعيها. يفرض هذا الخط السياسي منطقيا محاذيرا يجب تفاديها لتجنب الحياد عنه.

هذا ما يجعل الماركسيين حريصين على الاستقلالية التنظيمية والسياسية عن الليبراليين. وعندما ينبهون من تصاعد التعسف والاستبداد يسعون لربطه بواقع الطبقات الشعبية وما تعانيه من انتهاكات يومية من قبل النظام عبر مؤسسات الدولة القمعية.

تحاول أجهزة الدولة ابتزازنا واستعمال هذا التلفيق المفضوح للقضايا كسيف ديموقليس فوق رقابنا. لكنها ستحتاج لأكثر من هذا بكثير لتثني غسان ورفاقه عن نضالهم الثوري.

إن دفاعنا عن غسان هو دفاع عن أنفسنا كماركسيين وهو محطة ولو صغيرة من الدفاع عن إمكانية نهوض الطبقات الشعبية في هذه الفترة الصعبة، ضد الاستبداد والاستغلال ،ومن أجل نظام جديد يقوم على أنقاض القديم، يحمي حرية هذه الطبقات ويفتح أمامها آفاق ديمقراطية شعبية واشتراكية تخدم مصالحها .

العدالة لغسان ولكل مضطهد ومظلوم!

طوفان الأقصى في تونس: تقييم سريع وما بعد



بدأت كتابة هذا النص يوم 27 أكتوبر 2023 وتمت بشكل متقطع بسبب عدة صعوبات منها السياسية ولم ير الكاتب نهايته إلا بداية ديسمبر. يجعل هذا التقطع وتسارع الأحداث الأفكار المطروحة أسفله غير متماسكة تماما إذ قد يعود بعضها إلى جو صعود الحراك الجماهيري والبعض الآخر إلى تراجعه وجو المجازر الصهيونية. وقد تبدو بعض الأفكار أو المقترحات الآن غير عملية أو مخطئة حتى للكاتب نفسه واحتفظ بها رغم ذلك كبلورة عملية للمنهجية وحدودها. كما أن تقسيم النص وصياغته ليسا الأسلم والأوضح وقد يوجد أحيانا بعض التكرار وأيضا القفز من العموميات المجردة إلى الأمور العملية وغير ذلك من التفاوت وسوء التناسق. لكن لم يتوفر الوقت والطاقة لإعادة تنظيمه وصياغته ورأى الكاتب أن نشره في هذه الصيغة غير المرضية أفضل من عدم نشره.




"اتُخذت عدة مواقف متباينة بشأن إحراق فان دير لوب للرايخستاج. استُحْسِن في الصحافة الناطقة باسم الشيوعية اليسارية (سبارتاكوس، رادنكومونيست) كفعل شيوعي ثوري. تعني الموافقة على مثل هذا الفعل والتصفيق له الدعوة لتكراره. من المهم لهذا السبب فهم الفائدة التي حققها. معناه الوحيد يمكن أن يكون ضرب أو إضعاف الطبقة الحاكمة، البرجوازية. لا يمكن التساؤل حول هذا هنا. لم تتضرر البرجوازية أبدا من حرق الرايخستاج. لم يتم إضعاف حكمها بأي شكل. على العكس، اغتنمت الحكومة الفرصة لتعزيز إرهابها ضد حركة العمال بقدر معتبر. لا تزال عواقب ذلك للفحص. لكن حتى لو ضرب أو أضعف مثل هذا الفعل حقا البرجوازية، فإن النتيجة الوحيدة لذلك ستكون تشجيع العمال على الاعتقاد بأن مثل هذه الأفعال الفردية يمكن أن تحررهم. الحقيقة الكبيرة التي يجب على العمال أن يتعلموها، أن الفعل الجماهيري للطبقة العاملة بأكملها فقط يمكن أن يهزم البرجوازية، هذه الحقيقة الأساسية للشيوعية الثورية، ستُحجَبُ. سيقودهم بعيداً عن الفعل الطبقي المستقل. بدلاً من تركيز كل قواها على الدعاية ضمن الجماهير العاملة، ستستنفذ الأقليات الثورية طاقاتها في أفعال فردية، حتى عندما تنفذها مجموعة كبيرة ومتفانية، لن تهز بأي حال من الأحوال سيطرة الطبقة الحاكمة. مع قوات أعوانها المعتبرة، يمكن للبرجوازية بسهولة السيطرة على مثل تلك المجموعة […] ألا يمكن أن تكون الأفعال الفردية الإشارة التي تحرك صراعا جماهيريا من خلال تقديم مثال جذري؟ إنه حقيقة معروفة في التاريخ أن فعل فرد في لحظات التوتر يمكن أن يعمل كشرارة لبرميل بارود. ولكن الثورة البروليتارية ليس لها أي شيء مشترك مع انفجار برميل بارود. حتى لو كان الحزب الشيوعي يحاول أن يقنع نفسه والجميع بأن الثورة يمكن أن تندلع في أي لحظة، نحن نعلم أنه مازال على البروليتارية أن تشكل نفسها لمعارك جماهيرية جديدة. تكشف هذه الأنواع من الأفكار عن رومانسية بورجوازية معينة. في الثورات البورجوازية الماضية، كانت الطبقة الصاعدة ووراءها الشعب، تواجه شخصيات الحكام واضطهادهم التعسفي. كان قتل ملك أو وزير يمكن أن يكون إشارة لثورة. فكرة  أن الفعل الفردي في الفترة الحاضرة يمكن أن يجعل الجماهير في حركة تقوم على مفهوم بورجوازي لـ"الزعيم"، وليس زعيم حزب منتخب، بل زعيم يعين نفسه، وتعمل أفعاله على تحريك الجماهير الساكنة. ليس للثورة البروليتارية علاقة بهذه الرومانسية القديمة للزعيم. يجب أن تأتي جميع المبادرات من الطبقة، مدفوعة إلى الأمام بقوى اجتماعية جبارة". أنتون بانيكوك – الفعل الفردي


"لا نعرف بعد كفاية في الخارج  أن البلشفية كبرت وتشكلت وتماسكت خلال صراع سنوات طويلة ضد الروح الثورية البرجوازية-الصغيرة التي تناهز الأناركية أو تأخذ منها بعض الاستعار، والتي، في كل ما هو جوهري، تخرق شروط وضرورات صراع طبقي بروليتاري جاد. البرجوازي-الصغير، وقد "انتابه السخط" أمام أهوال الرأسمالية، هو ظاهرة اجتماعية خاصة، مثل الأناركية، في جميع البلدان الرأسمالية. عدم استقرار هذه الثوروية، عقمها، قابليتها للتحول بسرعة إلى تسليم، إلى لا مبالاة، إلى فنتازيا فارغة، وحتى إلى اندفاع "غاضب" لتيار برجوازي معين أو آخر "على الموضة"، كل هذا أمر معروف للعموم. ومع ذلك، فإن المعرفة النظرية، المجردة بهذه الحقائق لا تحمي الأحزاب الثورية على الإطلاق من الأخطاء القديمة التي تعيد الظهور دائمًا فجأة تحت شكل جديد قليلاً، تحت مظهر أو في ديكور لم يكن معروفًا لها بعد، في جو خصوصي، مميز أكثر أو أقل […] إنه من الأصعب بكثير – والأثمن بكثير – أن يكون الواحد ثوريا عندما لا تسمح الوضعية بعد بالصراع المباشر، المعلن، الجماهيري حقا، الثوري حقا، أن يستطيع الدفاع عن مصالح الثورة (بالدعاية، بالتحريض، بالتنظيم) في مؤسسات غير ثورية، وحتى رجعية بوضوح، في جو غير ثوري، ضمن جماهير غير قادرة أن تفهم على الفور ضرورة طريقة فعل ثورية. […] يجب أن يشكل الحزب الشيوعي شعاراته؛ أن يروج ويوزع البروليتاريون الحقيقيون، بمساعدة العناصر الفقيرة، غير المنظمة والمسحوقة مناشيرا؛ أن يزوروا بيوت العمال وأكواخ البروليتاريين الريفيين والفلاحين في القرى النائية […] أن يلجوا للحانات الشعبية، ويتسللوا للجمعيات، الاتحادات، التجمعات العفوية الشعبية وأن يتحدثوا للشعب، ولكن لا بلغة الجهابذة (ولا برلمانية جداً)؛ أن لا يتزاحموا أبدا على « كرسي » في البرلمان، بل أن يوقظوا الأذهان، يجتذبوا الجماهير، يتحدوا البرجوازية على كلماتها، يستعملوا الجهاز الذي أوجدته، الانتخابات التي حددتها، النداءات التي توجهها للشعب كله". لينين – المرض الصبياني للشيوعية (اليسراوية)


توصيف

حققت المقاومة المسلحة الفلسطينية بعملية طوفان الأقصى انتصارا سياسيا ومعنويا وفكريا على دولة إسرائيل والإمبريالية عموما. لا يعني طبعا أن التحرر من الاستعمار الصهيوني مطروح مباشرة ولا أن الإمبريالية تصدعت في بنيتها. إذ مازالت موازين القوى العسكرية وخاصة السياسية مختلة بشكل كبير ويتطلب قلبها تغييرات ثورية في العالم العربي على الأقل وربما في النظام الإمبريالي العالمي ككل، لا تبدو قريبة. كما أن ردة الفعل الإسرائيلية التي تنزع نحو التطهير الاثني وربما الإبادة ستكون لها نتائج مادية (إنسانية وعسكرية واقتصادية) وخيمة على المدى القصير والمتوسط.


تعمقت من الجهة الأخرى الأزمة الاجتماعية والسياسة الصهيونية. تبين مجددا أن المشروع الاستيطاني الصهيوني لا يمكن أن يشكل موطنا آمنا لليهود. اهتزت معنويات المجتمع الإسرائيلي وثقته في دولته ومستقبله. ستكون حكومة نتنياهو في حالة صعبة بعد نهاية الحرب. وقد تذهب الموازين السياسية الداخلية حسب مجريات ونتائج الحرب نحو صهيونية أكثر ليبرالية تعود للحديث عن السلام وحل الدولتين أو إلى أقصى اليمين نحو من يطرحون الإبادة النهائية للفلسطينيين. كان الأخيرون في موقع أفضل قبل انطلاق هذه الحرب لكن نتائجها قد تقلب الموازين.


على نطاق أوسع، فضحت ردة فعل الصهيونية والإمبريالية وجههما القبيح بوضوح لا مثيل له ربما منذ عشرات السنين. تكسّر وجها حقوق الإنسان والكونية الليبرالية مجددا على واقع الصراعات التاريخية. تلقت إيديولوجية الإمبريالية ضربة مهمة أمام أعين جيل كامل، في العالم العربي خاصة وخارجه. صارت بعض عناصر الإيديولوجية الليبرالية محل تشكيك صريح وعلني ممن كانوا يتبنونها بالأمس وذهب حتى بعضهم إلى تقديم "نقدهم الذاتي".


اختصر هجوم 7 أكتوبر وما تلاه سنينا طويلة ووفر جهدا كبيرا من العمل البيداغوجي والثقافي والتحسيسي والدعائي حول القضية الفلسطينية. يمكن القول اليوم أن جمهور الشباب تبنى وجدانيا القضية.


لكن هذا التأثر مازال يفتقد للعقلنة وللتحول إلى فعل سياسي جماعي. ولا يمكن أن تحقق المقاومة الفلسطينية، خاصة بقيادة حركة حماس، هذا التحول مكان الماركسيين. بل يمكن أن يؤدي تهشم الليبرالية إلى اعتناق إيديولوجيات جوهرانية أكثر رجعية في صيغ قومية أو دينية مثلا أو على الأرجح إلى تدعيم الجوانب الدينية والعنصرية من التلفيقات الإيديولوجية الليبرالية-القومية-الدينية.


فالفكرة الأساسية التي تلقت ضربة قوية من تبعات 7 أكتوبر هي الكونية أو الإنسانية. إذ اكتشف الليبراليون في أطراف الرأسمالية أن الدول الإمبريالية لا تؤمن بكونية حقوق الإنسان (الليبرالية) وأنها لا تعتبر الفلسطينيين وبالتالي الشعوب العربية والطرفية عموما بشرا مثلهم. والإشكال هنا تحديدا، لأن الماركسية لا ترفض الكونية والإنسانية مبدئيا على عكس القومية مثلا التي ترى الأمم كوحدات لا-تاريخية منقسمة أزليا أو الإيديولوجيات الدينية الرجعية التي ترى التاريخ كتاريخ صراع أديان "إلى يوم يبعثون".


لا ترفض الماركسية وحدة الإنسانية ككل بل هو الهدف الذي تعمل عليه بشكل نشيط. لكنها تعتبر أن ادعاءات حقوق الإنسان بالكونية مزيفة في إطار البنية الإمبريالية-الطبقية للعالم وأن المرور إلى وحدة إنسانية كونية يمر عبر الصراع من أجل إسقاط الرأسمالية وبناء اشتراكي يلغي فعليا التقسيمات واللامساواة الفعلية داخل الإنسانية. إذ لن يتم ذلك بمجرد تكرير الخطابات الليبرالية الرنانة وإعلانات حقوق الإنسان الفارغة والنصوص القانونية غير القابلة للتطبيق، لأن كتلا قوية (بتحكمها في الإنتاج والسلاح) ولو أقلية من الإنسانية من مصلحتها تواصل الوضع الحالي.


ليس لذلك من التلقائي أن تستفيد الحركة الاشتراكية حتى من تحول ممكن للشبيبة الليبرالية إثر ما يحدث في العالم في علاقة بالقضية الفلسطينية، وهو ما يستدعي عملا حقيقيا لتجذيرها فعلا. ثم لا يمكن ترسيخ التعاطف مع الشعب الفلسطيني إلا بعقلنته في استراتيجية سياسية لمناهضة الصهيونية والإمبريالية تندرج ضمنها ممارسات مقاومته ومساندتنا لها من موقعنا كأفراد ومجموعات في العالم العربي وخارجه. فلا يتناقض مجرد التعاطف مع الشعب الفلسطيني مثلا مع حل الدولتين. كما لا يجب استبعاد أن تقبل به حماس في مرحلة لاحقة بعد تعديل نسبي لموازين القوى كما فعلت قبلها فتح.


يتبين قصر فهم القضية الفلسطينية في عدم تمكن جمهور التونسيين المساندين لها من مفهوم التطبيع. ويعود هذا لضعف العمل الدعائي والتفسيري لمناهضي الصهيونية مقارنة بالعمل الاحتجاجي الظرفي على ضرورته. من جهته لعب طبعا الإعلام الليبرالي ومازال يلعب دوره في تمييع هذا المفهوم وتشويشه والتخويف من حضره الممارسات التطبيعية. لذلك لم نر اهتماما شعبيا جديا بقانون تجريم التطبيع والنقاش حوله.


ويجب وضع كل هذا أيضا في سياق المرحلة السياسية التي تمر بها البلاد التونسية بما هي مرحلة إحباط ونفور من السياسة. صحيح أن معركة طوفان الأقصى جعلت الجماهير الشعبية تناقش ما يحدث في فلسطين وأعادتها حتى إلى التظاهر في الشارع بعد أن كان يقتصر على المناضلين السياسيين منذ 2021 تقريبا.


لكن المفارقة أن القضية الفلسطينية وهي مسألة سياسة بامتياز تُطرح بشكل لا-سياسي، بل على أنها مسألة تضامن أو مساندة أو تعاطف ديني أو إثني أو إنساني. إذ لم تعبر شعارات المظاهرات التلقائية عن مطالب ملموسة لمساندة الشعب الفلسطيني. وزاد الموقف القوي لرئاسة الدولة وركوب الإعلام البرجوازي الموجة الأمور سوء. فارتسمت في الأيام الأولى الصورة على شكل وحدة وطنية – مغلوطة طبعا. يُعتبر في هذه الحالة الصعبة رفع شعار مطلب سياسي مثل "الشعب يريد تجريم التطبيع" نجاحا صغيرا لمناهضي الإمبريالية. لكن حجم أثره تبين بالكاشف لاحقا في ضعف التظاهر أمام البرلمان من أجل تمرير القانون مقارنة بالمظاهرات التلقائية الأولى وسط العاصمة.


لذا لا يجب المبالغة في التفاؤل وتوهم عودة الجماهير الشعبية إلى الساحة السياسية بمجرد نزولها في مظاهرات عفوية وحديثها على فلسطين في وسائل التواصل الاجتماعي والنقل العمومي والمقاهي. لكن ذلك في نفس الوقت فرصة مواتية ومدخل ممكن لإبراز الطبيعية السياسية للقضية الفلسطينية وارتباطها بالسياسة التونسية والعربية.


يجوز التفاؤل أكثر بتأثر الشباب (من الطبقات الشعبية والوسطى) الذي قد يكون طوفان الأقصى بمثابة استفاقته الأولى لأحوال العالم الذي يعيش فيه ومدخلا للاهتمام بالشأن السياسي. وهنا مجددا قد يذهب تسيسه في عدة اتجاهات ممكنة.


حدث الأثر الإيجابي المؤكد لطوفان الأقصى في صفوف المناضلين السياسيين وتحديدا الاشتراكيين الثوريين الذين يهموننا أولا حيث خرج عديدهم من الإحباط والانعزال وعادت لهم الثقة في حركة التاريخ وفي الفعل السياسي وقدرة المضطهدين على تحدي موازين القوى القائمة. وربما شعر بعضهم بالتقصير وتأنيب الضمير في علاقة بما يعيشه الناس في فلسطين.


أما على مستوى الدولة، فاسترجع رئيسها قيس سعيد، في مرحلة أولى، بفضل موقفه من طوفان الأقصى، كل ما فقده من شعبية بسبب تواصل وازدياد تدهور الأوضاع المعيشية للجماهير الشعبية منذ 25 جويلية [1]. لكن قانون تجريم التطبيع الذي اقترحه برلمانيون مناهضون للصهيونية ومكالمة رئيس الدولة بودربالة لمنع مروره وضعا الأول في مأزق. اضطر لإنزال الستار على بطولته المسرحية حول القضية الفلسطينية على جناع السرعة، والعودة إلى مهرجان الإيقافات الذي فقد بدوره الكثير من بريقه ولم تعد تتحمس له الجماهير (رغم صيد سمكة كبيرة تدعى مروان مبروك هذه المرة). صفّر سقوط قانون تجريم التطبيع النهاية السياسية لحراك طوفان الأقصى في تونس. وقد تبدد عاطفيا وجماهيريا في الشارع قبل ذلك بأسابيع، ليترك المكان للألم والقلق والعجز أمام المشاهد اليومية للمذابح الصهيونية ثم التطبيع معها كاستعراض منفصل عن إكراهات ومشاغل الحياة اليومية. عادت الناس إلى يوميها خائبة أو يوميها الخائب حيث يبدو الأسبوعين اللذين تليا 7 أكتوبر كحلم سيء أو حالة سكر مضطربة. 


ولم تعش الجماهير الشعبية التفاف الرئيس على قانون تجريم التطبيع كخيبة أو خيانة أو كافتضاح لكذبه وجبنه لا لأن سفسطته الدنيئة امتلط عليها، فهي لم تعد تستمع له أصلا، بل لسببين:

  • لم يكن تجريم التطبيع (حاله حال "طرد السفراء") بالنسبة لأغلب من رفعه وسمعه وتبناه وتعاطف معه أكثر من شعار مجرد ولم يكن مطلبا سياسيا فعليا ينتظر الناس بجدية تحقيقه من الحكم. يعود هذا جزئيا (فقط جزئيا) إلى تدهور الوعي حول القضية الفلسطينية ومسألة التطبيع.

  • أصلا لم تعد الجماهير الشعبية تحمل أي مطالب سياسية أو تنتظر من الدولة تحقيقها. هذا أحد أوجه ما شخصناه مرارا كاستقالتها من السياسة. بصفة خاصة لم تعد تسمع قيس سعيد وتنتظر منه أي شيء.


تقييم

بعد هذا التوصيف المختصر لأهم التغييرات التي انجرت وقد تنجر، في تونس، عن الحرب القائمة في فلسطين، يمكن تقييم ممارسة الطيف الاشتراكي الثوري الذي ننتمي إليه. ولا معنى لتقييم إلا على أساس أهداف. إن كانت أهداف الماركسيين الاستراتيجية معلومة في خطوطها العامة، فيجدر التذكير بالأهداف المرحلية التي تفرضها موازين القوى القائمة.


تعتبر المجموعة الماركسية الثورية (ممث) أن أولويات المرحلة هي إعادة بناء الحركة الماركسية، استراتيجيتها السياسية وتنظيمها، على أسس صحيحة. على الصعيد الجماهيري، وبالنظر للاستقالة الشعبية من السياسة، وتغول الدولة، تَقَدَّرَ أن المرحلة مرحلة دعاية فكرية بدل الخطاب التحريضي الذي سيفشل على كل حال، لأسباب عديدة مثل انخفاض معنويات الطبقات الشعبية وإنهاك طاقتها النفسية ونفورها من الفعل السياسي وضعف تنظمها وحتى قدرتها العفوية على الضغط.


على نحو مماثل تقريبا كان الطيف الاشتراكي الثوري يعيش حالة إحباط سياسي بعد انهزام الثورة وفشل تجاربه القديمة. أما المحاولات التنظيمية الجديدة فمازالت جنينية أو تلتمس خطاها الأولى على الدرب الاشتراكي الثوري الشائك. تُفسِر هذه الأسباب الطابع العفوي لمشاركتنا وأصدقاءنا في الأيام الأولى من المظاهرات المساندة للمقاومة الفلسطينية. كما يجب الاعتراف أن لا أحد كان ينتظر عودة الجماهير الشعبية إلى الشارع في السياق السياسي المهيمن منذ 25 جويلية. لهذه الأسباب لم يكن الماركسيون مستعدين كما يجب. لكن هذا الإقرار لا يعذر تكرر الأخطاء وتعمقها لتتحول إلى انحرافات تلقاءوية واحتجاجوية ويسراوية وانتهازية.


ذهبت المظاهرات خلال هذه الأيام الأولى في نسق عددي وحماسي تصاعدي. نجح مناهضو الإمبريالية في إعطائها شعارين سياسيين أساسيين هما تجريم التطبيع وطرد سفراء الدول الإمبريالية. قام الشباب الطلابي والتلمذي تلقائيا بتعبئة شبه يومية وسط العاصمة وكانت تلتحق بها أعداد محترمة من الطبقات الشعبية والوسطى في مختلف فترات النهار والمساء.


في تلك الأيام قرر رفاقنا وأصدقاؤنا من اشتراكيين ثوريين مع حلفائنا في مناهضة الإمبريالية ماراطونا من التحركات أمام سفارات بعض الدول الإمبريالية خاصة الأمريكية والوزارات. كان ذلك خطأ عمليا وسياسيا ثلاثيا:

  • أنهك المتظاهرين من مناضلين وشباب متحمس جديدا للقضية الفلسطينية. بدل التركيز على تحضير تحركات محكمة وممارسات جماهيرية تتقدم بالحركة التلقائية وتربطها بالأفكار والبرامج والتنظيمات الاشتراكية، تبخرت طاقات عاطفية وجسدية وسياسية قيمة، بشكل لا يبعد عن العبثية، في تحركات تفتقد لأهداف واضحة أو تطرح، ضمنيا أو صراحة، عن وعي أو دونه، أهدافا غير قابلة للتحقيق ودون شك بعيدة تماما عن أولويات المرحلة.

  • يعود هذا الخطأ في تحديد الأهداف والشعارات إلى تقدير خاطئ للديناميكية الاجتماعية وموازين القوى السياسية على مستوى مؤسسات الدولة وخارجها عند البعض، وإهماله عند العديد. كما يعود أيضا إلى تناسي أو نسيان أهمية هذا التقييم لمن يشاطرون تقديراتنا حوله، والخضوع لقوة النوبات العاطفية التي لا يجب الاستهانة بها بل تفهمها وفهمها ونقدها.

  • في حين كانت الجماهير الشعبية والشبيبة المستفيقة حديثا للسياسية والقضية الفلسطينية تتجمع في شارع الحبيب بورقيبة بأعداد مهمة أحيانا وغفيرة أحيانا أخرى، قررت طليعتها المفترضة تركها في عفويتها، والاتجاه إلى أماكن بعيدة. إن هذا خطأ لا يغتفر ويجب أن يخضع لنقد صارم ضمن الماركسيين، فهو عين السكتارية والانعزالية.


تتبين هذه الأخطاء وإمكانيات إصلاحها عبر التطرق لها في تفاصيلها الملموسة والممارسات الصحيحة التي وقعت إلى جانبها أو التي كان يمكن القيام بها مكانها.


بالتذكير دائما بالسياق العام الرجعي والطبيعة اللاسياسية للمظاهرات الجماهيرية وتراجع الدراية والاهتمام بالقضية الفلسطينية ومسألة التطبيع مع إسرائيل، تتبلور أولويات الدعاية الفكرية-السياسية والعمل التنظيمي بشكل ملموس كالآتي:

  • نشر الدعاية السياسية في الحراك الجماهيري التلقائي بتوزيع مناشير والحديث مع الناس ومن خلال المبادرة بتنظيم حلقات نقاش في الشارع خلال المظاهرات وبشكل دوري حيث يتجمع الناس (في شارع الحبيب بورقيبة قرب سفارة فرنسا والمسرح البلدي)

  • لا شك أن الطلبة والشبيبة عموما أكثر قابلية للتجذر والتنظم في مثل هذا السياق ويجب التوجه لهاتين الفئتين بشكل ممنهج وبخطاب أقصى جذرية (في التحليل والفهم والأفق لا بالدعوة لاقتحام السفارات وإشعالها!).

  • تنظيم حلقات نقاش في الجامعة للتثقف حول القضية الفلسطينية وتسييس وعي الطلبة وتجذيرهم.

  • إن الحركات الجماهيرية التلقائية خاصة مع طبيعتها اللاسياسية والفاقدة لأي هدف أو مطلب واضح وفي السياق الرجعي القائم لا يمكن أن تدوم طويلا في الزمن قبل أن يعود الأفراد للتشتت والغرق في المشاغل اليومية كأن شيئا لم يكن. هذه مسلمة بديهية يعرفها كل الثوريين. لذلك من واجبهم الاستفادة من الزخم الشعبي لتنظيم أكثر ما يمكن من الناس ومأسسة تعاطفهم ودعوتهم للانخراط في منظمات جماهيرية والتنظيمات الاشتراكية قدر الإمكان وحسب استعدادات مختلف الأفراد والفئات.

  • مع تحسن معنويات عديد من الاشتراكيين الثوريين الذين كانوا يعيشون الإحباط وعودة الأمل في إمكانية المستضعفين في قلب موازين القوى، تعتبر دعوة هؤلاء إلى العودة إلى العمل السياسي المنظم من أهم المهام وألحها بالنظر لحجم المجموعات الاشتراكية الثورية وافتقاد الحركة الماركسية لعديد الطاقات المهمة بعد خيبات عشرية هزيمة الثورة.


تُنَزِّل هذه المقترحات عمليا المهام التي تتماشى مع السياق السياسي وحالة الطبقات الشعبية ووضعية الاشتراكيين الثوريين وتنظيماتهم. وهي مهام تستدعي عملا شاقا ومبدعا طوال الليل والنهار لعدة أسابيع في مختلف الفضاءات: في الشارع والجامعة وعلى الإنترنت وفي الملتقيات المغلقة للثوريين. كما يمكن النجاح فيها وملامسة العديد من نتائجها وقطف بعض من ثمارها على المدى القصير.


وهذا ما حدث فعلا حيثما جُرِّبت هذه التوجهات. لعل أبرز مثال على ذلك هو مبادرة أيام سينما المقاومة. إثر إلغاء وزارة الثقافة لأيام قرطاج السينمائية، بادر بعض السينمائيين الجذريين ومن بينهم اشتراكيون ثوريون، بعرض سلسلة من الأفلام المناهضة للإمبريالية والصهيونية والاستعمار في أماكن عامة قرب مباني ترمز للهيمنة الإمبريالية. خلق ذلك زخما ضمن هوات السينما والشبيبة الليبرالية واليسارية. صارت العروض أيضا فضاء لنقاش السينما والمقاومة وعلاقتهما، حضره إلى جانب المهتمين المباشرين بعض المارة. كما انتشرت المبادرة إلى بعض المدن الأخرى خارج العاصمة.


على المدى المتوسط والبعيد، يمكن أن تشكل المجموعة التي بادرت وأدارت أيام سينما المقاومة نواة لشرخ الوسط السينمائي وتجذير عديد السينمائيين الشبان وتشكيل تيار مقاوم خارج على النخبوية والليبرالية والقطاعوية السائدة ضمنه مثل غيره من الأوساط الثقافية. لو تحقق ذلك فهو مكسب مؤكد في إطار حرب المواقع على الصعيد الثقافي.


قياسا على هذه المبادرة، يمكن تخيل ما كان يمكن أن تحققه حلقات نقاش حول القضية الفلسطينية. في الجامعة يمكن أن يتحول أفق هذه الحلقات على المدى المتوسط إلى شبكة نواد تعنى بالقضية الفلسطينية والمقاطعة ومناهضة التطبيع. يمكن تصور الدور المهم الذي قد تلعبه في مقاومة هيمنة النوادِ الليبرالية وتسييس الطلاب من أبناء الطبقات الشعبية، وهم متعاطفون شبه-فطريا مع القضية الفلسطينية، وكسبهم للحركة الاشتراكية. بنفس الشكل وحيث لم تكن حلقات النقاش الدورية أو شبه اليومية ممكنة، كان يجب تنظيم ندوات في الجامعات يتدخل فيها أعضاء حملة المقاطعة ومناهضة التطبيع وأصدقاؤها، بهدف تثقيف وتسييس الطلبة ودعوتهم للانخراط فيها، بنفس الأفق على المدى المتوسط والبعيد.


أما في الشارع ويصعب إنكار أنه فضاء أقل خصوبة في السياق العام الراهن مع الحالة النفسية والإيديولوجية للجماهير الشعبية،  فكان الناس يتجمعون يوميا طيلة الأسبوع الأول للغناء ورفع نفس الشعارات بشكل أصبح بسرعة عبثيا وجعل التجمع يندثر. وإن انحصار ممارسة الناشطين أو المناضلين الطلابيين واليساريين عموما في الهتاف واستفزاز البوليس ببن التارة والأخرى إنما ينم عن التصحر الفكري والسياسي السائد. إن هؤلاء والذين يرى عديدهم أنفسهم كنخبة مثقفة غير مفهومة من "الشعب" أو كطليعة الجماهير الشعبية، غير قادرين على تقديم، ولم يقدموا على كل حال، أية أفكار سياسية للجماهير الحاضرة في التحركات. لم يكلفوا أنفسهم عناء الحديث والتفاعل معها لا بشكل تلقائي ولا ممنهج. تتفرع مسببات هذا العجز إلى عدة أصناف من بينها: ضعف المعرفة النظرية والسياسية، تبني أفكار عامة هلامية ومجردة مثل الاشتراكية أو الشيوعية أو الثورة أو تحرير فلسطين والعجز عن ترجمتها إلى سياسات ملموسة يمكن أن يتقبلها الناس الموجودون في الواقع الملموس؛ اعتبار الجماهير غبية وجاهلة على كل حال وغير قادرة على فهم الأفكار والسياسة ولذلك فيجب فقط إبهارها بالشجاعة والصدامية. ليست هذه النزعات دائما واعية وواضحة في عقول من تميل حسبها ممارساتهم بل هي في عديد الأحيان امتداد وتكرير وإعادة-إنتاج لتقاليد معينة (أو حتى ردة فعل عكسية على بعضها) كانت لها عقلانيتها (صحيحة أم خاطئة) عندما طُرِحت في سياقاتها. فلو سؤل العديدون: لماذا تقومون بهذا التحرك السياسي أو ذاك؟ لماذا بهذا الشكل؟ لماذا تقومون بهذه الممارسة أو تلك ضمن التحرك؟ يمكن الإدعاء أن الإجابة المسجلة في لاوعيهم هي: هكذا تعودنا! لذا يصير اليوم من الضروري فحص ومساءلة كل هذه العادات على ضوء العقلانية الماركسية والتغيرات الاجتماعية الظرفية والعميقة، بما في ذلك بعض العادات التي جاءت خلال العشرية الفارطة كردة فعل سطحية على ما سبقها وأدت لنفس العجز أو حتى إلى تعميقه أحيانا.


وإن كان العجز مشكلة كبيرة فهو ليس أكبرها. إذ هناك ممارسات مقتدرة في الإفساد أي عمليا هنا في تنفير الجماهير والانفصال عنها وحتى التعارض معها. ذات سبت وأثناء مظاهرة كبيرة وشعبية نسبيا (لم تقتصر على الناشطين المألوفة وجوههم) قرر بعض اليساريين القيام بعملية صدامية واستقر الرأي أن تتمثل في رشق سفارة فرنسا بالحجارة. بغض النظر عن الفشل التقني للعملية، كانت نتيجتها الأهم مغادرة أغلب الجماهير (جاء بعضها عائليا مع أطفال وحتى رضع إلى جانب وجود شيوخ وأحباء إلى غير ذلك) فورا لمكان التجمع وبقي "المشتبهون المعتادون" أنقياء من الاختلاط في استعراضهم الاحتجاجوي. لا شك أن الناس، الذين نزل عديد منهم أول مرة لمظاهرة عادوا إلى منازلهم اشتراكيين ثوريين مقتنعين! بأكثر جدية، من الأكيد أن عددا كبيرا منهم لن يعود قريبا للشارع. في المقابل، ماذا جنت الحركة الاشتراكية من هذا؟ لا يحتاج الأمر اجتهادا كبيرا للإقرار: لا شيء. والحال نفسه دائما في هذه الصدامات مع البوليس الفاقدة لأهداف جدية وعملية بل تؤدي حتى في بعض الأحيان إلى إيقافات تحول وجهة المسألة الأصلية المطروحة وتنهك المناضلين في المطالبة بإطلاق سراح الموقوفين. ولو كان ذلك، كما يتوهم البعض، يكسب المناضلين الاشتراكيين وتنظيماتهم صيتا وشعبية لما كانت حالة حركتنا بالضعف التي هي عليه اليوم. وقد قام البعض بمراجعات حول هذه المسألة ويجب اليوم فتح هذا النقاش بجدية وصراحة على أوسع نطاق. في هذا الصدد من المفيد إعادة بعض المعاني والمفاهيم والسياقات لبعض الكلمات والمصطلحات التي تم ابتذالها مثل "الثورية" و"العنف الثوري".


نفيا لهذا النفي كان يجب اعتبار التجمعات والوقفات والمظاهرات فضاء للتفاعل والتحاور مع الجماهير أي لسبر حالتها وتسييسها بنشر التصورات الاشتراكية للتحرر من الإمبريالية والصهيونية. عمليا كان بالإمكان تجسيد ذلك في حلقات نقاش في الشارع حول ما يحدث في فلسطين وتاريخ قضيتها واستراتيجية تحريرها ودور الشعب التونسي فيه وموازين القوى الطبقية والدولية ومسألة التطبيع وعلاقة الصهيونية والإمبريالية إلى غير ذلك.


إلى جانب الفائدة الفكرية قد تساهم مثل هذه المبادرة في تسيس وتنظم البعض بمستويات مختلفة، قبل العودة إلى اليومي اللاسياسي. وليس هذا المقترح بدعة إذ جرب نسبيا وبشكل شبه عفوي سابقا خلال الاحتجاجات الشتوية.


بأكثر تفاؤل يمكن تصور أن حلقة النقاش قد تخلق ديناميكية وتساهم في الحفاظ على بعض الزخم لوقت أطول وقد تطرح على نفسها أن تقوم بممارسات سياسية واعية. في الحد الأقصى يمكن أن تدعو وتنظم تحركات أمام البرلمان من أجل تجريم التطبيع.


ومن الضروري هنا أولا وقبل نقاش التعقيدات العملية لتطبيق هذه الفكرة التوقف لنقاش الشعارات والمطالب السياسية التي رُفِعَت وأهمها إلى جانب تجريم التطبيع هو طرد سفراء كبرى الإمبرياليات (الفرنسية والأمريكية). يستدعي الأمر العودة والتساؤل حول المنهجية المنطقية التي يطرح على أساسها الماركسيون شعاراتهم. هناك نوعان من المطالب السياسية التي يمكن أن يطرحها الماركسيون لا يمكن الاختلاف حولها [2]:

  1. إصلاحات يمكن للبرجوازية تطبيقها، تحسن ظروف عيش الطبقات الشعبية أو شروط صراعها

  2. المطالبة بإجراءات من البرنامج الانتقالي أو المباشر للماركسيين، أي بإجراءات تقوم بها حكومة اشتراكية


من البديهي أن حكومة رأسمالية تابعة لن تطرد سفراء الإمبريالية، والسؤال هو: هل تقوم بذلك حكومة ديكتاتورية البروليتاريا لو أقامت سلطتها غدا أو حتى بعد عشر سنوات من الآن؟ لا يتضمن أي برنامج ماركسي هذا الإجراء فهو لا يغير أي بنية. المسألة عملية صرفة أي مسألة حساب منافع وتكاليف. ماذا يقدم هذا الإجراء فعليا للقضية الفلسطينية وللصراع القائم اليوم في فلسطين؟ لن تخسر الإمبرياليات الكثير بطرد سفرائها ولن يغير ذلك موقفها مما يحصل في فلسطين اليوم ولا من القضية الفلسطينية بصفة عامة. نتصور في نفس الوقت ردة الفعل العنيفة التي ستقوم بها هذه الدول وتداعياتها الاقتصادية السيئة على شعب تونس. يظن العديدون (أو يريدون أن يتوهموا) عكس ذلك. يعود الأمر إلى فهم خاطئ للاستغلال الإمبريالي يخال أن الإمبريالية ثرية من افتكاك ثرواتنا. تلعب في الواقع البلدان التابعة، عموما (عدا ما يخص بعض المواد الأولية)، دور المكمل لاقتصادات المراكز المتمركزة على ذواتها بالأساس. يمنعها ذلك من إنتاج حاجيتها ويجعلها تستوردها ويضعف قدرتها على الضغط. فالقطيعة مع الإمبريالية هي عملية تطوير وإعادة-توجيه، تدريجيين وطويلي الأمد بالضرورة، لقوى الإنتاج وليست مجرد قرار ديبلوماسي. وعلى هذا الطريق ستأتي ضغوطات وتضييقات ("عقوبات") الإمبريالية عاجلا أم آجلا، لكن لا مصلحة للبناء الاشتراكي في تسريع قدومها وجعله أكثر عنفا ممكنا. فهل من مصلحة الاشتراكيين رفع شعارات ومطالب لا تخدم بالضرورة مشروعهم وقد لا تحققها حكومتهم، فقط بهدف تحدي السلطة القائمة وإحراجها؟


وقد يرد البعض أن التحركات أمام السفارات تضغط على الدول الحليفة لإسرائيل، إذ تبين لها غضب الجماهير منها وتوحي لها بأن سمعتها وهيمنتها الإيديولوجية مهددة بسبب مواقفها من حرب غزة. هذه الحجة معقولة والمشكلة الوحيدة هي أن التحركات أمام السفارة الأمريكية لم تكن ويصعب أن تكون جماهيرية بالنظر خاصة لمكانها. على عكس التحركات الكبيرة أمام السفارة الفرنسية في الشارع الرئيسي للعاصمة، هل أن الاحتجاجات الضعيفة التي تحضرها حفنة من المناضلين أمام سفارة الولايات المتحدة رسالة ضغط عليها أم تطمين لها على ضعف معاداتها؟ ألم يكن أجدى رفع لافتات وشعارات ("الفرنسيس والأمريكان شركاء في العدوان") منددة بالموقف الأمريكي في مسيرات جماهيرية أكبر حجما؟


أما تجريم التطبيع فيبقى قانونا داخليا لا يهاجم مباشرة دولا بعينها ولا يرتقي على كل حال إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول الإمبريالية. لذلك فهو خطوة يمكن أن تقتدي بها بعض البلدان. إذ يمكن لبلد تابع وضعيف وصغير مثل تونس الضغط على شركات خارجية خاصة المتوسطة حجما. هذا بالإضافة إلى الجوانب الاقتصادية والسياسية الداخلية والرمزية في الثقافة والرياضة. لكل هذا يمكنه أن يشكل دعما حقيقيا وأفضل من طرد السفراء وبأقل تكاليف.


يندرج تجريم التطبيع طبيعيا في البرنامج الاشتراكي التونسي ومن شبه المستحيل أن تحققه الدولة القائمة وخاصة في إطار موازين القوى الراهنة مع الإمبريالية وموجة التطبيع في المنطقة. فهو يؤدي إلى تحولات هامة في التجارة الخارجية والاستثمارات الأجنبية إلى جانب المشاكل الدبلوماسية التي سيتسبب فيها.


فهل كان، رغم ذلك، من الممكن أن يتحول تجريم التطبيع من مجردِ شعار مجردٍ إلى معركة ولو صغيرة مع البرلمان والرئاسة؟ يبدو هذا أيضا صعبا جدا بالنظر لضعف التحركات التي صارت أمام البرلمان. لم تجمع هذه الوقفات حتى الناشطين اليساريين. يعود ذلك في جزء منه إلى رفض العديد منهم، مجموعات وأفرادا، التعامل مع البرلمان أو "الاعتراف" به، في نوع من التصلب المثالي. فبعد انهزام معركة إسقاط انقلاب ومسار 25 جويلية لم يقم من شارك فيها بالمراجعات اللازمة وإعادة تقييم موازين القوى وتغيير التكتيكات. بالنظر لمنسوب القوة السياسية للبرلمانية والليبرالية السياسية، وبما أن حال الطاقات الثورية لا يقل سوء، باتت العودة إلى دستور 2014 ومؤسساته اليوم وهما غير جدي. أما البرلمان، ورغم شبه انعدام أساسه الانتخابي، فهو موجود ويشتغل بل أنه أحرج الرئيس خارق الصلاحيات وفضحه عن غير قصد.


وهل يجب هنا تذكير "اللينينيين" بالفقرات الطويلة التي خصصها معلمهم للدفاع عن "العمل في البرلمانات الأكثر رجعية" في نقده لليسراوية [3] ؟ طبعا ليس كلام لينين منزلا ولا يجب تطبيقه بشكل آلي في أي زمان وظرفية [4]، لكن تجاوزه يحتاج نقاشا وحججا جدية ومجهودا نظريا لم نره من دعاة بل كهنة معبد "الماركسية-اللينينية" (أي الستالينية) والذين كانوا بالأمس مغرقين في البرلمانية على حساب العمل القاعدي. يمكن القول اليوم مثلا أننا غير قادرين على القيام بحملة انتخابية أو أن البروليتارية والطبقات الشعبية لا تذهب للانتخاب على كل حال ولا تهتم بالبرلمان أو أن البرلمانات في مرحلة أزمة الديمقراطية البرجوازية (وفي أطراف الرأسمالية) لم تعد ما كانت في فترة صعودها، لا أننا لا نعترف بالبرلمان أيها الماديون.


من بين العوائق أمام الضغط على البرلمان توجد حجج ضد قانون تجريم التطبيع. تتخوف أحدها من استعماله لقمع المعارضين وتخوينهم. بما رأيناه في السنتين الأخيرتين ومع الترسانة القانونية السلطوية الوفيرة لا تبدو هذه الدولة في حاجة إلى قانون تجريم التطبيع لملاحقة المعارضين. ترفض حجة ثانية النسخ المطروحة في البرلمان من القانون لطابعها القمعي المبالغ فيه وسوء صياغتها وعدم دقتها إلى غير ذلك. لا يمكن بصراحة إلا الاتفاق مع هذه الحجة، بل وحتى الذهاب إلى التساؤل: أليس مرور قانون سيء تعسفي أو غير قابل للتطبيق أسوأ من عدم مروره؟ يجيب البعض أنه يمكن على كل حال تنقيحه وتحسينه لاحقا… وقد لا يمكن ذلك! يصعب حقيقة حسم هذا النقاش من منطلقات سياسية عامة ومبدئية، فوق الحسابات المرحلية والنص القانوني الفعلي المطروح. لكن بالاتفاق أن احتمال عدم مرور القانون عالٍ جدًا، يمكن تجاوز هذا الخلاف، لتصير المسألة مسألة دعاية لمبدأ تجريم التطبيع وفضحا لطبيعة الحكم القائم.


ومع هذه الصعاب المرتبطة بالخلافات السياسية يجب الإشارة أيضا إلى الطابع المتأخر والإطار الضيق الذي طرح فيه التحرك أمام البرلمان. لتوضيح ذلك دعنا نتخيل أن الممث قررت منذ الأيام الأولى التالية للسابع من أكتوبر أن المطلب السياسي المركزي يجب أن يكون تجريم التطبيع وأنه يجب الضغط على البرلمان (حيث لنا حلفاء في هذا المطلب ويعلم الجميع أن هناك مشروعا مقترحا) لتمرير القانون. لنفترض أيضا أن المجموعة نجحت في إقناع عدد من أصدقائها الاشتراكيين الثوريين وحلفائها في مناهضة التطبيع بهذا التمشي. لنتصور أن كل هؤلاء مهما كان عددهم صغيرا، قرروا تحركا نهاية الأسبوع وقاموا بالتعبئة له: دعوة الناس في كل التجمعات والمظاهرات التلقائية في الشارع والجامعة (بما أننا للأسف غير مؤثرين بعد في الأحياء الشعبية وأماكن العمل) وفي وسائل التواصل الاجتماعي. لعل التحرك أمام البرلمان (أو من وسط العاصمة في اتجاه البرلمان مرورا بالأحياء الشعبية للعاصمة) كان يكون أكبر زخما ووقعا وأكثر تسييسا للناس. إن هذا التسلسل الخيالي مبيني طبعا على فرضيات متفائلة جدا وإمكانية تحققه ضئيلة. نظن رغم ذلك أنه من المهم إيراده باعتباره الاتجاه الوحيد الذي كان يمكن أن يتقدم سياسيا بالحراك التلقائي ووعيه.


أما التقديرات الواقعية فتؤكد كما سبق وذُكِرَ أن المرحلة مازالت للدعاية الفكرية-سياسية والتنظيم وليست لفتح صراعات وللتحريض. تجدر هنا إضافة ملاحظة حول خطأ شائع في هذه النقطة. إن ميدان السياسة بالنسبة للماركسيين هو ميدان الصراع الطبقي. ليس الماركسيون بطبقة. لذلك فليس عملهم خوض الصراعات، وهم بالضرورة طليعة أقلية، بل هو المشاركة في صراعات الطبقات الشعبية والتأثير فيها وفي مستوى أعلى من التطور الدعوة للصراعات وقيادتها. إن الفعل السياسي بالنسبة للماركسيين جماهيري بالضرورة بمعنى أنه يهدف دائما للتفاعل مع الجماهير بشكل أو بآخر، بغاية تطوير وعيها وتنظمها، على درب إقامة سلطتها. إن اعتبار أننا اليوم كماركسيين (ومع حلفائنا اليساريين والمناهضين للإمبريالية) نخوض صراعا مع قيس سعيد وجزء من برلمانه ومع قوى التبعية والليبرالية، ناهيك عن الإمبريالية والصهيونية، هو خطأ منهجي وبالتالي وهم سياسي. إن هذا الفهم للسياسة هو نفسه فهم أعدائنا: السياسة صراع بين السياسيين… والجماهير في المنزل. والفرق أن هؤلاء الأعداء يحتكرون الموارد الاقتصادية ويرتكزون على أجسام مسلحة ومؤسسات إيديولوجية. يترتب عن ذلك أننا في حين نتوهم خوضنا صراعات ملحمية، نحن لا نزن شيئا والبرجوازية والدولة ومختلف مؤسسات الهيمنة لا تحسب لنا حسابا أكثر من مائة شرطي… يحتقروننا هم أنفسهم. وهذا ما يفسر بعض الممارسات الكاريكاتورية مثل محاولة قذف السفارة بالأحجار أو مواصلة الدعوة للاحتجاج أمام سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في مكان خال بعد أن مات الحراك الجماهيري وأنهك الناشطون.


كما تؤثر هذه التصورات، اللاواعية في عديد الأحيان، على المواقف من الدولة وحكامها. وسجلنا بتفاجؤ واستياء كبير من بعض رفاقنا مواقفا انتهازية [5] خطيرة من تعامل رئاسة الدولة، مركز الحكم القائم، مع قانون تجريم التطبيع. يتفسر ذلك بسهولة. فإذا اعتبرنا أننا (كماركسيين في تونس وفي سياق 7 أكتوبر) نخوض صراعا مع الصهيونية والإمبريالية وتوابعها وأن اللحظة سانحة لتمرير قانون يجرم التطبيع، فكيف يمكن تحقيق ذلك؟ إما كونه يندرج ضمن سياسة الحكم القائم أو أنه يمكن أن يقبل به تحت مستوى من الضغط الشعبي. وبما أن الإمكانية الثانية غير نافذة في الواقع (وقد تبين ذلك بسرعة)، تفرض الإمكانية الأولى نفسها لكن بشكل غير واعٍ. إذ تُعلَّل بكلام شخص قيس سعيد وصدقه ووطنيته إلى غير ذلك. في هذا طبعا تخل تام عن أي تحليل ماركسي أو حتى سياسي عقلاني: فلا تقدير لمصالح وقوى مختلف الطبقات والدول ولا لطبيعة الحكم والسياق التاريخي-السياسي والموازين التي يعبر عنها [6]. لكنه يحمل في نفس الوقت ضمنيا إجابات خاطئة على هذه الأسئلة. وبدل أن يكون مقترح قانون تجريم التطبيع على الأقل فرصة لتوضيح الصورة السياسية لمن مازال يهتم بها ويمكن الوصول إليه حدث العكس.


يعود كل هذا المأزق تحديدا إلى اعتبار اللحظة سانحة أو مناسبة لتمرير القانون. وهذا خلط بين الرغبات وإمكانيات الواقع. تترتب عنه نظرة مشوهة للواقع والخطأ في الفعل فيه: من منطلقات ومعطيات خاطئة تعطي التجربة الواقعية نتائجا مختلفة عن المنتظر.


ماذا حدث إذن في قانون تجريم التطبيع ولماذا؟ يجب التذكير بسياق صعود قيس سعيد وخاصة 25 جويلية. وهذا السياق (الاقتصادي الاجتماعي السياسي) بالنسبة للماركسيين هو الأساس المحدد للأحداث الممكنة، أما "الحدث" المتحقق وتفاصيله فهي ثانوية (بالنسبة للسياق، لا غير مهمة على الإطلاق). يأتي انقلاب قيس سعيد كتتويج للهزيمة النهائية للبروليتاريا وكتعبير عن غضب رجعي للطبقات الوسطى من الأزمة العضوية لهيمنة البرجوازية التابعة التونسية. تكثف ذلك في رفض شكل الحكم الليبرالي البرلماني وهيمنة إيديولوجية مكافحة الفساد والتحسر على أمجاد عهد بن علي. قيس سعيد يأتي تلبية لهذا الطلب. لكن صعوده واقعة عرضية. كان يمكن أن تستجيب لهذه الوضعية سلاسل أخرى من الأحداث تلعب فيها عبير موسي أو لطفي المرايحي أو الأجسام المسلحة الأدوار الأمامية. لا شك أن النواة الصلبة للدولة (البيروقراطية المسلحة خصوصا) التقطت هذا المناخ وباركت 25 جويلية.


لم يُعرف عهد بن علي ولا عرفته البرجوازية-الصغيرة المتحسرة عليه بمناهضة الصهيونية والإمبريالية. لا شك أن البرجوازية تعارض قانون تجريم التطبيع وأنها أعلمت الدولة بذلك. لا شك أن البيروقراطية (وزارات الخارجية والمالية والاقتصاد والتجارة والدفاع ومجلس الأمن القومي وربما وزارة السياحة ومجلس الوزراء إلخ.) أعلمت الرئاسة والحكومة أنها ضد قانون تجريم التطبيع. لا حراك جماهيري جدي من أجل هذا القانون. من بقي؟ من مع القانون؟ حفنة من النشطاء. حتى النواب فقد تبين بالكاشف أن أغلبيتهم الساحقة بما في ذلك القوميين و"الوطنيين السياديين" (تأكيد مزدوج طريف على خوائهم السياسي) ليس لهم أية استقلالية عن سيدهم الرئيس.


كيف كان يمكن أن يمر القانون؟ هل يمكن لقيس سعيد كشخص حتى لو كان يريد فعلا تمريره أن يفعل ذلك ضد الدولة. أولا قيس سعيد يواصل وجوده في الرئاسة ويحكم بفضل الدولة ومرتكزا على أجسامها وبالتالي ضمن أطر ما يمكن أن تقبل به. ثانيا بالنظر لانقلابه غير القانوني والضعف النسبي لثبات مؤسساته والطابع الفردي لحكمه (شخصنة السلطة) فهو مضطر للبقاء في الرئاسة قدر المستطاع وإلى ما لا نهاية ولا يمكنه أن يجازف بما قد يؤدي إلى سقوطه. ثالثا: إن الذوات السياسية (أفرادا ومجموعات وأحزابا…) بنات مجتمعاتها التاريخية. قد يقول منتقدون أن للذوات أيضا دور في التاريخ وأن البنى والسياقات لا تحدد كل شيء مسبقا وحتميا وهذا صحيح. تأتي هنا أمثلة مثل عبد الناصر وشافاز وسنكرا. في الحقيقة، صعد هؤلاء في سياقات تاريخية وسياسية مختلفة تتماشى شخصياتهم وسياساتهم معها. ويمكن التساؤل بالعكس: إلى أي مدى كانوا سيختلفون عن قيس سعيد في سياقنا وإلى أي مدى سيختلف عنهم في سياقاتهم؟ قد يفيد أيضا تذكر التغييرات السياسية التي أجراها نفس عبد الناصر بعد هزيمة 67 والتي كان صعود السادات استمرارا لها.


ولا يمكن المرور  إلى ما بعد مسألة قانون تجريم التطبيع والبرلمان وقيس سعيد دون الإشارة إلى الدور الذي لعبته وتلعبه الأوهام حول الوطنية و"المسألة الوطنية" وخطاب السيادة الوطنية في عديد الأخطاء. وهذا يحتاج وسيكون موضوع نقاش جدي لا يتسع له هذا النص.

ما  بعد

ونحن ننتظر نهاية الحرب على غزة عاجزين، بدل التخبط، يجب الانطلاق بشكل ممنهج في التحضير والعمل على ما بعد حرب طوفان الأقصى. يستدعي ذلك أولا إقرارا موجعا: على المدى القصير، ما لم يتغير في تونس بعد 7 أكتوبر أكثر بكثير مما تغير. ينطبق هذا على الديناميكية الاجتماعية والسياسية التي مازالت راكدة، سلبية، رجعية، عدمية. تترشح الأمورة لتزيد سوءًا، في حال انتهت الحرب في غزة بنكبة جديدة. لا يمكن الشك في الوقع المعنوي المحبط وردات الفعل النفسية-الإيديولوجية الرجعية التي ستتشكل. سيعكس ممثلو البرجوازية الهجوم على مساندي القضية الفلسطينية وسيسود الخطاب الانهزامي وحل الدولتين وحنكة بورقيبة إلى غير ذلك. ستترتب آثار سيئة على فهم القضية الفلسطينية وعلى السياسية والإيديولوجية.


أما إذا أُبرِم اتفاق وقف إطلاق نار وانسحب الجيش الاسرائيلي (من مناطق واسعة) من غزة فيمكن توقع حتى بعض التحركات الجماهيرية شبه-الاحتفالية، بنفس العفوية. يجب أن نجهز أنفسنا وخططنا لهذه الإمكانية ونصحح أخطاءنا. يجب إحياء موضوع تجريم التطبيع حسب قدراتنا والممكنات الملموسة: في الحد الأدنى دعاية فكرية-سياسية عامة؛ في الأقصى تحرك محترم (مسيرة من وسط البلاد إلى البرلمان عبر بعض الأحياء الشعبية للعاصمة؟) من أجل القانون بالتنسيق مع النواب المستقلين عن رئاسة الدولة.


إلى جانب دعوة الناس للتنظم في مؤسسات تناصر القضية الفلسطينية على المدى البعيد، يبقى تنظيم ندوات وتأسيس نواد تُعنى بالقضية الفلسطينية في الجامعة قائما على كل حال. لكن ستعطيه نهاية إيجابية لمعركة غزة دفعا جيدا.


بغض النظر عن ما حدث ويحدث في فلسطين، يبدو أن أي ديناميكية اجتماعية تقدمية (من وجهة نظر الماركسية) في تونس ستنطلق من جيل جديد. إن الجماهير التي شاركت في الثورة المنهزمة أو تعاطفت معها وانتظرت منها تغيير حياتها ثم عاشت خيبة حكم الإسلاميين المحافظين وتعايش خيبة حكم قيس سعيد لن تعود للصراع الاجتماعي والسياسة إلا في مؤخرة الصفوف الخلفية. وإن كان هناك من يتوهم أنها تتعلم من أخطائها وتُصَحِّحُها فيُرَدُّ عليه: 1. تتعلم حركة اجتماعية-سياسية منظمة (طبقة لذاتها أو على الأقل بصدد التشكل) من أخطائها لا جماهير متناثرة وعفوية خاضعة للهيمنة الإيديولوجية للطبقة المسيطرة وتوابعها؛ 2. قد كان وعيها ليتطور لو وجد على الأقل بديل اشتراكي شعبي مشهور طيلة المرحلة التاريخية السابقة؛ 3. إن ما تعلمه هذا الجيل هو أن الثورة والسياسية والديمقراطية و"الأحزاب" (أي التنظم السياسي) لا تصلح لشيء.


أما الجيل الذي خرج من المراهقة ودخل شبابه خلال العقد الفائت وسيصبح كهلا خلال العقد الحاضر ضمن التأزم الاقتصادي والسياسي الراهن والقادم فهو المرشح للقيام بالثورة القادمة شريطة الوعي والتنظم. والمقصود طبعا جيل جديد من الطبقات الشعبية (وشق من الوسطى المنحدرة؟)، لا من "التونسيين" أو "الشباب" عموما.


أعطت مقاومة الشعب الفلسطيني كما ورد أعلاه دفعة كبيرة. فتحت له باب السياسة والوعي السياسي. وليس ذلك بالشيء القليل في المناخ المعادي للسياسة، السائد في تونس. يأتي هنا دور الاشتراكيين لإدخاله المعترك السياسي وتوجيهه حسب استراتيجية ثورية صحيحة.


ينطلق هذا أولا من نقد جذري للإيديولوجيات الحقوقية والإنسانوية والسلمية والكونية الليبرالية. ويعني هنا نعت "جذري" تحديدا عكس العنف والاستهزاء والتخوين، يعني توضيح خطأ هذه التصورات عموما وتحديدا على ضوء القضية الفلسطينية. وبنفس المنهج المادي التاريخي يجب تفنيد التصورات الميتافيزيقية التي توهم بأن تحرير فلسطين قريب أو أنه سيأتي فجأة بمعجزة ربانية أو بطولة أسطورية للفدائيين. ثم نتعدى النفي إلى الوضع لبلورة استراتيجية عقلانية لتحرير فلسطين، تضع هذه القضية في سياقها البنيوي والتاريخي.


يحتاج هذا إلى مراجعة جذرية للاستراتيجية التاريخية للمقاومة الماركسية [7] ونقدا صريحا للمقاومة الإسلامية التي تواصل نفس الأخطاء وتزيد فوقها طبقة كاملة من الأوهام الخاصة بها. لا يتسع هذا النص لاقتراح استراتيجية لكن قول بعض الأساسيات يبدو ضروريا: 1. لم تخن الدول العربية و"حكامها" القضية الفلسطينية. لا يندرج تحرير فلسطين ضمن مصالح وأجندات البرجوازيات التابعة الحاكمة وهي لم تَدَّعِ عكس ذلك. البروليتارية وطليعتها وحلفاؤها هم المقصرون في مساندة فلسطين بتقصيرهم في التنظم؛ 2. لا يمكن للمقاومة المسلحة الفلسطينية وحدها وبمساندة حلفائها الخارجيين الحاليين تحرير فلسطين. أي لا يمكن إسقاط الصهيونية في إطار صراع طرفاه المقاومة الفلسطينية ودولة إسرائيل؛ 3. يحتاج تحرير فلسطين على الأقل لإسقاط الطبقات العربية الحاكمة ونوعا من الوحدة العربية (في المشرق على الأقل) وقد يحتاج حتى إلى تغيير في مركز البنية الإمبريالية (سقوط هيمنة الكتلة الإمبريالية التابعة للولايات المتحدة أو تخليها على إسرائيل)؛ 4. يحتاج تحرير فلسطين إلى تطور كبير في قوى الإنتاج العربية.


يوضح تصور استراتيجي ما يمكن تقديمه من مساندة ودعم حقيقيين لقضية فلسطين على المدى القصير والطويل وفي مختلف المحطات والسياقات بعيدا عن الارتجال والأوهام. ومن مهامنا الدعاية له ومفصلته مع السياسة التونسية. 


إلى ذلك الحين ومقاومة لحالة العجز الراهنة والهجمة المعاكسة البرجوازية القادمة، يجب التجمع بمختلف مستويات التنظم الممكنة (من الأكثر مرونة إلى الأكثر صلابة) والانطلاق في التثقف والتثقيف حول القضية الفلسطينية وتاريخها وأفقها. ويهم هذا بشكل خاص الشبيبة المتعاطفة حديثا مع فلسطين والمستفيقة جديدا للسياسة.


انتهى اليوم أي وهم أن مسار 25 جويلية يحمل أي قطيعة (حتى تدريجية أو جزئية) مع السياسة السابقة للطبقات الحاكمة. يسهل الاتفاق حول هذا التشخيص ويشاطره حتى ليبراليون وإصلاحيون، لذا فهو غير مهم في حد ذاته. أما الأسئلة التي تحتاج الإجابة هي التالية: لماذا كان لبعض رفاقنا وأصدقائنا أوهام حول حكم قيس سعيد؟ ماهي المنهجية والفرضيات التي أوصلتهم إلى هذه الأخطاء؟ بتوضيح هذه المسببات، يمكن تجنب الوقوع في نفس الأخطاء في المستقبل. كما أنه من الضروري التنبيه لردة فعل عكسية بنفس مستوى الخطأ. هل يعني اعتبار الحكم القائم، شكلا جديدا (وربما أسوأ) لنفس الرأسمالية التابعة ودولتها آليا المطالبة باسقاطه؟ يحتاج هذا السؤال شيئا من التفصيل لا يتسع له هذا النص وسيكتفي بجواب مقتضب: تشير الديناميكية الاجتماعية وموازين القوى السياسية إلى أن سقوط قيس سعيد لا يمكن أن يؤدي إلى حكم البروليتارية وسيؤدي على الأرجح إلى حكم أكثر رجعية من القائم. مازالت لذلك مهمتنا على هذا المستوى وعلى المدى المتوسط الدعاية للأفكار والبرنامج الاشتراكي لا التحريض على حكم قيس سعيد.


أما على نطاق تنظم الاشتراكيين الثوريين الضيق فقد أوضح أول حراك جماهيري منذ مدة عدم استعدادنا السياسي وضعف تنسيقنا وتنظمنا. ظهرت أخطاء وخلافات مهمة في المواقف والعمل السياسي الميداني يعود جزء منها حتى إلى خلافات نظرية جدية. يستدعي كل هذا نقاشا نقديا صريحا للتقدم وتحقيق نجاعة أكبر في الحركات الشعبية القادمة.


يمثّل هذا النص مساهمة سريعة أولى تحتاج عديد النقاط التي مرّ عليها بسرعة نقاشات واسعة. كما لا يجب فهم طابعه النقدي على أنه يعكس تشاؤما أو أزمة. يبدو بالعكس من الطبيعي أن تقوم مجموعات اشتراكية جديدة العهد ومناضلون شباب بعديد الأخطاء. لكن حتى تكون هذه الأخطاء مفيدة يجب أن تشخص وتصحح.


"سلوك حزب سياسي تجاه أخطائه هو أحد أهم وأوكد المعايير للحكم إن كان هذا الحزب جديا وإن كان يؤديى حقا التزاماته تجاه طبقته وتجاه الجماهير الكادحة. الاعتراف بالخطأ بصراحة، اكتشاف أسبابه، تحليل الوضعية التي أدت إلى نشوئه، دراسة وسائل تصحيح هذا الخطأ بعناية، هذه هي علامة حزب جاد، هذا ما يسمى، بالنسبة له، أداء التزاماته، تعليم وتثقيف الطبقة، من ثمة الجماهير" [8].


إن أفضل ما يمكننا اليوم فعله لمساندة القضية الفلسطينية هو الاستثمار في تضحيات المقاومة. بديهي أننا لا نتحدث عن استثمار رأسمالي بل سياسي ونستعمل هذه الكلمة ونكررها – استثمار – كما هو واضح لاستفزاز المتعففين الطاهرين الذين أغرقونا في الأشعار والشعارات الكبرى والمزايدات الكلامية وبذلك في الأوهام والعجز. نحن نريد انتهاز فرصة موت الآلاف لتحسين ظروف صراع من تبقوا. أنتم تمددون عجزنا للمجزرة القادمة. كفى! إن أفضل ما نقدمه اليوم للفلسطينيين هو التقدم في تنظيم الماركسيين وتوسيع تأثيرهم على البروليتارية والجماهير الشعبية والشباب. سنتمكن هكذا من الضغط أفضل لصالح فلسطين في المعركة القادمة. وفي المرة التالية قد نطرح سلطة البروليتارية على طاولة المهام. بعد ذلك فقط يمكننا الحديث عن دعم ملموس ومهم لقضية فلسطين. 


محمد بالهادي، عضو المجموعة الماركسية الثورية