اليسار والشيوعية والماركسية: توضيحا لبعض الأمور


كُتبت الصيغة الأولى من هذا النص في 28 أفريل الفارط كمداخلة في حلقة نقاش بعنوان "ما معنى أن نكون ماركسيين الآن وهنا؟". يتوسع النص أسفله ويفصل ويوضح بعض النقاط التي وردت مكثفة في المداخلة.



يعود الحديث عن أزمة الماركسية إلى سبعينيات القرن الماضي مع ولادة اليسار الجديد ويمكن إرجاعها حتى إلى العشرينيات والثلاثينيات مع انحسار الثورة العمالية الأوروبية في روسيا وتخييبها لبعض الآمال. لكن سقوط الاتحاد السوفياتي (بعد "انفتاح" الصين) مثّل رجّة دون مثيل ضيّعت بوصلات لم تُعَدَّل إلى اليوم. اليوم وبعد 30 سنة أو أكثر من الفشل المستمر لـ "المقاربات الجديدة" في تشكيل تحدٍ جدّي للرأسمالية، نظن أنه يجب العودة إلى الأساسيات وتوضيح بعض البديهيات. اليوم بمرور عشر سنوات من الانهزام التدريجي للثورة في تونس وصل التخبّط وخلط المفاهيم إلى درجة أننا أصبحنا لا نعرف حتى من نحن. ما معنى أن نكون ماركسيين الآن وهنا؟ هذا طبعا سؤال كبير، لا يمكن الإجابة عنه في حدود هذا النص، الذي سيكتفي بالتأكيد على بعض الشروط الضرورية، غير الكافية في حد ذاتها. سنؤكد فيه على النقاط التي تبدو لنا حاسمة من أجل إعادة البناء على أسس صحيحة وتجاوز أخطاء من سبقونا. هذا يعني ضمنيا اعتبارنا كل المجموعات اليسارية التاريخية منتهية افتراضيا.

اليسار

من الأسهل دائما الإنطلاق من رفض الموجود ومنه التعريف بالنفي. لنوضح أولا من لا نكون. لماذا لسنا يسارا ولا نتحدث عن وحدة اليسار ولا عن حزب اليسار. لنذكّر أن اليسار مفهوم ما-قبل-ماركسي وأنّ ماركس وانجلز وروزا لوكسمبورغ ولينين وبانيكوك وتروتسكي وماو لم يعتبروا أنفسهم يساريين. لكن المشكلة الأساسية مع هذا المفهوم تكمن في فهمه المثالي والليبرالي (ليسا نفس الشيء) للسياسة. إذا كانت السياسية معركة اليمين ضد اليسار فهي اذن معركة فكرية صرفة، ولا يمكن بالتالي فهم مأتى هذه الأفكار أو تلك ولا انتماء الناس لهذه الجهة أو تلك. اذ سيعتبر اليساريون أن المنتمين لليسار هم الأكثر ذكاء أو "تقدما" أو ثقافة ومعرفة أو إيمانا بـ "المبادئ الكونية" والخ. من الطبيعي بالتالي أن لا يبالي الكثيرون منهم بطبقة أو طبقات أو بصراع طبقي، وأن يدافعوا أولا عن مبادئ وأفكار. من هنا يمكن تفسير النزعات النخبوية والإزدراء والاحتقار الطبقيين المنتشرة في اليسار (بما في ذلك ضمن جزء من الشيوعيين) التي لا نتصور أنّ أحدا ينكرها. حتى عندما يتحدث هؤلاء عن الطبقات فيكون ذلك بمنطق اقتصادوي: "يجب محاربة الفقر وإعادة توزيع الثروة"؛ أو بمنطق الشفقة الأخلاقية على الفقراء. لا يمكن أن تكون الطبقات الشعبية عند هؤلاء فاعلا سياسيا (كي لا نقول تاريخيا) بل فقط ضحية. لا نظن أنه بإمكان الماركسيين خوض ممارسة سياسية استراتيجية مع هؤلاء. يعكس الصراعين الفكري والسياسي، بالنسبة للماركسيين والماديين عموما، الانقسام والصراع الاجتماعيّين. نتحدث هنا عن السياسة بالمعني القوي، عن قرارات وأفعال تُحدث تغييرات هيكلية أو تاريخية على المجتمع أو على الأقل ذات أثر واسع، ولا نقصد خزعبلات الاستعراض شبه-اليومي في البرلمانات والتلفزات. نقول صراعا اجتماعيا ولا نقول طبقيا، لأن الطبقة ليست معطى وأيضا لوجود انقسامات وصراعات أخرى. لا يمنع ذلك أنّ الصراع الطبقي يهيكل بشكلي أوّلي السياسة وتاريخ المجتمعات، إلى جانب الصراعات بين الدول. لتجنب بعض الأخطاء الشائعة حول مفهوم الصراع الطبقي سنسوق هنا بسرعة بعض الملاحظات التي سنعود على بعضها بأكثر تفصيل لاحقا في النص: 1) يجب النظر للتاريخ القريب والبعيد وطبيعة الصراعات المحدِّدة فيه. 2) الانقسام والاضطهاد والاستغلال والصراع أشياء مختلفة، وليس أي انقسام أو اضطهاد أو استغلال يعني ويوَلِّد صراعا. نتحدث هنا على أهمية الذاتية أو الوكالة، أي عن الأفراد والمجموعات كفاعلين لا كضحايا أو كمواضيع بحث أو تحليل نظري أو بنيوي. 3) الصراعات سابقة للثوريين وليسوا هم من يفتعلونها. ليس مفهوم السياسة والصراع الطبقي الخلاف الوحيد. إذ نجد ضمن هذا الكائن الهلامي المسمّى باليسار: الاجتماعيين-الديمقراطييين والأناركيين والحركات النسوية والحقوقيين ويمكن مواصلة التعداد طويلا. هنالك أيضا الشيوعيون الذين يختلفون بدورهم فيما بينهم. نظن أن محاولة جمع كل هؤلاء حول استراتيجيا سياسية أمر غير ممكن: فلا هم يتحدثون نفس اللغة ولا يحللون بنفس النظرية ولا يرمون إلى نفس الأهداف. يدفعنا كل هذا الاختلاف والتنوع إلى التساؤل أصلا حول معنى تقسيم يسار-يمين. لإيجاد أيّ معنى موحّد لهذا اليسار لا يجب البحث في الواقع، بل التفكير من داخل المنطق المثالي لهذا التقسيم، أي بمنطق المبادئ. اليسار هو جهة التقدم أو التغيير والمساواة والحرية والعلم، واليمين هو جهة المحافظة والتراتبية والتسلط والأسطورة. لكن التقدم مثلا يمكن أن يكون نحو الاشتراكية أو نحو جمهورية الستارت-آب والمنافسة الحرة والنزيهة، والمساواة يمكن أن تكون في الفرص أو في المدخول أو أمام القانون، والحرية يمكن أن تكون تحررا من السلطة الأبوية ويمكن أن تكون كذلك حرية السوق والمبادرة [1]. نعود بالتالي إلى النقطة الصفر، هل لتقسيم يسار-يمين من معنى؟ يعود في تونس النظر للسياسة عبر هذه الثنائية إلى الهيمنة اللغوية-الثقافية الفرنسية التي لم تبدأ في التراجع إلا في العشرية الأخيرة. انقسمت السياسة في بريطانيا مثلا إلى هويغيين (Whigs) وتوريين (Tories)، ثم إلى ليبراليين ومحافظين، وانضاف حزب العمل بعد تأسيسه في نهاية القرن 19. إلى اليوم تنقسم السياسة إلى عماليين ومحافظين وليبراليين-ديمقراطيين. لا يتحدث السياسيون عادة عن يمين ويسار بل عن العمل والمحافظين. لا يرى ذَوُو الانتماءات السياسية الواضحة أنفسهم كيمينيين أو يساريين بل كعماليين أو كمحافظين بالأساس. نفس الشيء في الولايات المتحدة الأمريكية حيث ينقسم الحقل السياسي أولا إلى ديمقراطيين وجمهوريين ثم إلى محافظين ومعتدلين وليبراليين وتقدميين. حتى متى استُعْمِلت كلمة يسار قد يختلف معناها. توجد توجهات يسميها الفرنسيون باليسارية والأمريكيون بالليبرالية، في نفس الوقت تُصنَّف الليبرالية في فرنسا يمينا (على الأقل من بعد الحرب العالمية الثانية). فقط في فرنسا تُستعمل ثنائية يسار-يمين بوتيرة كبيرة ويعبر السياسيون وحتى الكثيرون من عموم المواطنين عن انتماءاتهم بالأساس داخل هذا المعجم الثنائي. لكن حتى هناك، حيث نشأت هذه الثنائية، تجدر الإشارة للطابع التاريخي لتكرّسها. فمن يقرأ مثلا نصوص ماركس وانجلز حول فرنسا القرن 19 يعرف أنّ الحقل السياسي كان ينقسم حسب مسميات أخرى، رغم ظهور اليسار واليمين منذ الثورة الفرنسية [2]. لم يبدأ الاستعمال الفرنسي المعاصر لهذا التصنيف السياسي في التشكّل إلا مطلع القرن العشرين، في إطار تحالف دفاعي بين الاشتراكيين (بقيادة الجناح الإصلاحي) والبرجوازية الجمهورية أمام خطر انقلاب ملكي أو "امبراطوري" من قوى الإقطاع والكنيسة. لم ينشأ إذن مفهوم اليسار المعاصر كأداة للتفكيك والتحليل، بل بالعكس كتسمية جامعة لأوسع ما يمكن من قوى "التقدم" و"الحداثة" والجمهورية ضد قوى الماضي والرجعية والإقطاع [3]. من المهم هنا أن نلاحظ أن الصراع الطبقي داخل الرأسمالية ليس مطروحا في هذه النشأة لفكرة اليسار. كما أنه من الطبيعي أن تكون هذه التسمية، التي ولدت لبناء تحالف وتجميع مختلفين، اختزالية وضبابية وهلامية وأن يخفي التحليل على أساسها أكثر مما يظهر. لكل هذه الأسباب علينا تجاوز هذه النظرة الفرنكو-مركزية للسياسة واستعمال وتطوير مفاهيم ومصطلحات أكثر ملاءمة لواقعنا. لعله في الأخير من الضروري التذكير بدور اليسار في سحق كومونة باريس وبمواقف المثقفين اليساريين منها. يكتب المنفيون من أعضاء الكومونة في بيانهم: "ونحن بالكاد خارجون من مجازر الكومونة، لنذكِّر من يمكن أن يغويهم نسيان أنّ اليسار الفرسايْيِّ [نسبة لقصر فرساي مقر حكومة البرجوازية]، لا أقل من اليمين، أمر بمجزرة باريس، وأن جيش الجزارين تلقى التهاني من هؤلاء مثلما تلقاها من الآخرين. يجب أن يكون الفرسايْيُّون اليمينيون واليساريون متساوين أمام حقد الشعب" [4]. أما بالنسبة للمثقفين اليساريين، فكتب فيكتور هوجو أن "هذه الكومونة غبية بقدر شراسة المجلس [مجلس النواب]. من الجهتين، جنون". أما إيميل زولا فقال أن: "حوض الدم الذي استحم فيه [شعب باريس] كان ربما من الضرورة الشديدة لتهدئة بعض الحُمَّيات. سترونه الآن يكبر حِكْمةً وروعة" [5]. لا حاجة لتعليق وسنكتفي بالتذكير بما كتبه ماركس من جهته لا بصفته "مثقفا" طبعا بل عضوا في الجمعية الأممية للعمال: "إن باريس العمال، و كومونتها، ستظلان إلى الأبد موضع التبجيل، بوصفهما البشير المجيد بمجتمع جديد. وشهداؤها مثواهم الأبدي قلب الطبقة العاملة الكبير. وجلادوها سمرهم التاريخ الآن على خشبة العار التي لن تجدي في تخليصهم منها جميع الصلوات التي يرددها كهنتهم" (الحرب الأهلية في فرنسا). إن هذين الموقفين المتباينين من الكومونة يكثفان الفرق بيننا وبين اليسار في أعمق أبعاده في الوجدان والنفسية والانتماء. ليس ما سبق طبعا إدانة أخلاقية لليسار. ليس الأفراد والمجموعات المنضوون تحت هذا المسمى أناسا سيئين أو أشرارا. كما لا يعني أن اليسار عدونا (وحتما ليس أكثر من اليمين) وأن لا نتعامل معه. هناك داخله أفراد ومجموعات وتيارات يمكن أن نتفاعل ونتقاطع معها لكن دون أوهام حول الوحدة والانصهار. ما نعنيه بما سبق من القول ونريد التأكيد عليه هو شيء بسيط: نحن واليسار (مهما كان تعريفه) شيآن مختلفان. لسنا يسارا.

الجذرية والثورية

كذلك، لسنا "أقصى يسار" ولا يسارا متطرفا كما يصفنا البعض. أولا وكما بيننا وسنبين بأكثر تفصيل، لسنا صيغة قصوى من اليسار بل هناك فرق نوعي وأصلي ومنهجي بيننا. ليس لنا نفس النظرية ولا نفس طرق التفكير أو التركيبة النفسية. ثانيا، من الواضح أن دور هذه التصنيفات والتسميات هو تهميشنا اجتماعيا وسياسيا كمتطرفين قصوويين غير عمليين وغير عقلانيين. لتجنب هذا الفخ يستعمل البعض عن حسن نية مصطلحات مثل يسار ثوري أو يسار جذري. في إطار هيمنة الإيديولوجيا والخطاب الليبراليين والمحافظين على الحياة اليومية، لا يُحدث استعمال هذه المصطلحات فرقا كبيرا في ذهن الجماهير الشعبية. فالجماهير لا تصبح ثورية إلا في السياقات الثورية أو مع انطلاق الثورة. بالتالي فإن صفتيْ الثورية والجذرية خارج السياقات الثورية تؤدي إلى نفس التهميش السياسي. هل يعني ذلك أننا لسنا ثوريين وجذريين؟ بتوضيح مفهومي هذين المصطلحين تتضح الإجابة من تلقاء نفسها. إذ يبدو أن العديدين في اليسار يظنون أن الثورية مرتبطة بالتحريض المستمر والدعوة لإسقاط "المنظومة" أو "النظام" أو مختلف حكومات اليمين أو مختلف البرلمانات. قد يخال آخرون أن الثورية هي الاحتجاج المستمر في الشارع على شتى القضايا، وربما عدم الاكتفاء بالاحتجاج "السلمي" والدخول في مناوشات مع البوليس. في سياقات الركود أو الرجعية السياسيين لا تنجح هذه الممارسات إلا في تأكيد الأحكام المسبقة وتُهم التطرف التي تروج لها الدولة والبرجوازية وموظفوهما الإيديولوجيون. تعود هذه الممارسات جزئيا لغياب برامج واضحة ومقترحات بديلة. ما يعود بدوره لغياب جذرية الفهم والتحليل في مختلف المسائل: من الخطاب الاقتصادي المتهافت [6]، إلى فهم التدين والعنصرية [7] والذكورية كمسائل ثقافية، مرورا بخطاب مكافحة الفساد [8] الخاوي. كما لا تعني الثورية رفض الإصلاحات أ و حرب المواقع، ولا مقاطعة كل الانتخابات ووسائل الإعلام أو رفض العمل القانوني والتعامل مع المؤسسات الرسمية أو الإصلاحية، ولا الإغراق في السرية. بالنسبة للماركسيين، يتميز الطابع الثوري عن الإصلاحي ببساطة بموقفه من مسألة الدولة. يمكن بالنسبة للإصلاحيين أن تمر السلطة من طبقة إلى أخرى بشكل سلمي. يعتبر الثوريون أن ذلك غير ممكن (ما لا يعني أنه غير محبذ لكن السياسية والتاريخ ليسا ميدان الشهوات). يريد الإصلاحيون بناء الاشتراكية بالدولة القائمة التي يعتبرونها جهازا محايدا يمكن أن يشتغل تحت أوامر حكومة اشتراكية لفرض سلطة العمال وسحق البرجوازية. يرى الثوريون أن ذلك مستحيل، لأن الطبقات الحاكمة والدولة المرتبطة بها عضويا لن تتنازل عن السلطة والثروة دون حرب، لذلك يعتقدون أنه من الضروري كسر أو إسقاط الدولة وقلب علاقة السلطة أي عنف، عبر تمرير أدواته من طبقة لطبقة. وفي نهاية المطاف، لا يتم فرز الثوريين من الإصلاحيين، إلا عندما تُطرح الثورة على أرض الواقع كما هو الحال في السوادن اليوم أو في تونس 2010-2011.

الشيوعية والماركسية

لكن عن أي ثورة نتحدث؟ ولماذا هي ممكنة؟ وماهو المسار الذي يؤدي إليها؟ مرة أخرى، عندما نتحدث عن ثورة فنحن نتحدث عن المرور العنيف للسلطة من طبقة إلى أخرى، لا عن المرور من هيمنة نمط إنتاج إلى آخر داخل تشكيلة اجتماعية معينة. فذلك يمكن أن يحدث دون ثورة، تحت ضغوطات خارجية وداخلية: يكفي النظر مثلا لتاريخ ألمانيا وروسيا واليابان. يقول ماركس وانجلز في البيان الشيوعي أنّ الشيوعيين: "لا يضعون مبادئا خصوصية يريدون قولبة الحركة العمالية بها […] لا تستند التصورات النظرية للشيوعيين بتاتا على أفكار، مبادئ اخترعها أو اكتشفها هذا أو ذاك من مصلحي العالم. ليست إلا تعبيرا عاما عن الظروف الحقيقية لصراع طبقات موجود، عن حركة تاريخية تجري أمام أعيننا". إن الثورة ممكنة لوجود صراع طبقي يعبّر عن رفض المجتمع القائم. من هنا تعود النظرية الماركسية إلى الأسباب الجذرية لظهور هذا الصراع وتستخلص، ليس دون عناء، أفق إلغاء هذه الأسباب. هكذا تتبين من جهة الهيمنة العالمية لنمط الإنتاج الرأسمالي، وأساسها في الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج سبب الصراعات القائمة في عصرنا، ومن جهة أخرى الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج كأساس تجاوزها نحو الشيوعية. في هذه المنهجية من التفكير بالذات تتمثل خصوصية شيوعية ماركس وانجلز. إذ يجب التذكير أن فكرة الشيوعية أو الإشتراكية سابقة لهما. كانت إضافة ماركس وانجلز في المجال السياسي تأسيسهما نظرية لسلك الطريق نحو الشيوعية على أساس دراسة التاريخ والتجارب المعاصرة. ولهذا سمياها بالعلمية [9]. فهي لا تنطلق من مبادئ أخلاقية أو رغبات بعض الأفراد، بل من دراسة الواقع الملموس والتاريخ. يسبق إذن وجود الصراع الاجتماعي وجود الماركسيين، ولا يطرح هؤلاء قولبته بمبادئ مسقطة من خارجه اكتشفوها في هذا الكتاب أو ذاك، أو خلال ابحارهم على الإنترنت، أو وهم يتفكرون ويتأملون في مقهى أو في جامعة أو في فراش النوم، ويتوهمون أنها المفتاح السحري لحل مشاكل البشرية. هذا ما يسمى في المعجم الفلسفي بمحايثة التغيير الاجتماعي (والمجتمع ككل في النظرية الماركسية)، أي أن إمكانية وآلية وديناميكية تغيير المجتمع يخلقها المجتمع نفسه. فليس التغيير الاجتماعي فبركة إرادوية واعتباطية من أفراد أو مجموعات ضيقة متعالية أو منفصلة عنه. من الغريب حقا أن ماركس وانجلز رفضا فكرة المبادئ، كشيء فوق الواقع المادي وسابق له، في أشهر نصوصهما، وأنها في نفس الوقت من الأفكار الأكثر رواجا في الأوساط الماركسية (أو بالأحرى اليسارية؟). نرى اليوم اليساريين يزايدون على بعضهم البعض بالمبدئية، أي بالوفاء لأفكار مسبقة غير قابلة للمساءلة، بل بالوفاء لمبادئ خصوصية يريدون قولبة الحركة البروليتارية بها، وطبعا يتواصل فشلهم في ذلك. لكنهم مع ذلك يبقون متشبثين بالمبادئ، وفي ذلك فخرهم. وعادة ما تكون مبادئا تعبّر عن ثقافة (حتى لا نقول إيديولوجيا) الطبقات الوسطى التقدمية والأوساط اليسارية، مبادئ يستند إليها هؤلاء المناضلون والناشطون اليساريون كأفراد ومجموعات. هي ليست مبادئا سيئة في حد ذاتها، لكنها تحديدا مبادئ خصوصية مرتبطة بظروف عيش مجموعات اجتماعية معينة، ينتمي إليها العديد منا. إلّا أنها ليست "مبادئ" الحركة البروليتارية، أو بأكثر دقة ليست أفكارا مرتبطة بها. وهذه تحديدا، مثلما بيّنا أعلاه، ممارسة يسارية لا ممارسة ماركسية. ينطبق نفس المنطق على البرامج والشعارات. اذ يمكن أن نجد في الأدبيات الماركسية أحسن البرامج وأحلى الشعارات، ويمكن أن تحرر لجنة خبراء أفضل برنامج لحلّ (وهميا) مشاكل تونس والعالم. لكن الطبقة الثورية والجماهير الشعبية لن تتبنى هذا البرنامج، لأنه منفصل عن صراعاتها ومدى رؤيتها والمهام التي هي قادرة أن تطرحها على نفسها في سياق تاريخي اجتماعي معين. لا يمكن بالتالي أن يكون مثل هذه البرامج ماركسيا، ولو كان شيوعيا بمعنى طرحه إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. إذ يعرّف ماركس وانجلز شيوعيتهما بأنها "ليست إلا تعبيرا عاما عن الظروف الحقيقية لصراع طبقات موجود، عن حركة تاريخية تجري أمام أعيننا". إذا نظرنا إلى تونس 2023، فلا وجود لصراع طبقي مهم. لكن لا يجب أن ننسى أننا نتحدث عن حركة تاريخية. فبالنظر إلى السيرورة الممتدة من 17 ديسمبر 2010 إلى اليوم، نرى صراعات عنيفة وحركة تاريخية مهمة. بالعودة إلى الحوض المنجمي أو إلى انتفاضة الخبز أو حتى إلى الاستقلال، يتوضح أكثر امتداد وعمق هذه الحركة. يطرح السؤال نفسه على الماركسيين: هذا الصراع، هذه الحركة اللذين دارا أمام أعيننا لأكثر من عشر سنوات منذ الثورة، هل نظرنا لهما جيّدا وحاولنا فهم جذورهما الاجتماعية والتاريخية، حتى نتمكن من التعبير عن شروطهما الحقيقية مثلما حاول ماركس وانجلز التعبير عن الصراع والحركة اللذين رأياهما أمامهما في أوروبا القرن 19؟ يحتاج فهم تاريخ حركة الصراع الطبقي في تونس منذ الاستقلال لمجهود بحثي حقيقي. لكن بعض الظواهر حدثت أمام أعيننا طيلة عشر سنوات تقريبا. يتحدث مثلا ماركس وانجلز عن "حركة عمالية". الثورة التونسية لم تكن عمالية [10]، لكن العديدين واصلوا، وفاءً للمبادئ، اجترار نفس المقولات التي كتبها ماركس وانجلز في زمانهما ووسطهما الجغرافي، بدل الاستئناس بمنهجيتهما والنظر للحركة التاريخية القائمة أمامنا ومحاولة فهمها كما هي والتعبير عن ظروفها الحقيقية. من المهم هنا الإشارة إلى مثال الماوية كتجربة ملموسة في التطبيق المثمر للمنهجية للماركسية، يمكن أن نتعلم منها الكثير. وجد الماركسيون الأوروبيين الأرضية النظرية مفروشة، بما أن الفعل الثوري كان مطروحا عليهم في المجتمعات التي وصفها ماركس وانجلز تقريبا. لذلك تكمن أهمية الماوية في كونها تجربة في تطبيق الماركسية، كمنهجية لتحديد استراتيجية ثورية لا كوصفة جاهزة، في ظروف مغايرة تماما للتي وصفها ماركس وانجلز: ثورة بقيادة الفلاحين تحاصر المدينة بالريف ليس هدفها المباشر إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. للأسف عوض أن نستلهم من ماو تطبيقه المنهجية الماركسية بشكل محايث لواقعه ونقوم بنفس الشيء على واقعنا، قرر البعض أن تونس في 1970 (وربما في 2023 !) هي نفسها الصين في 1930 تقريبا: شبه-اقطاعية، شبه-مستعمرة (وربما يريدون محاصرة المدينة بالريف وشن حرب شعبية طويلة الأمد). لكن فكرة محايثة المجتمع وحدها قد تغذي النزعات التلقاءوية. لذلك يجب تعديلها بجانب الوعي ودوره: "في مختلف المراحل التي يجتازها الصراع بين البروليتاريين والبرجوازيين، يمثلون دائما مصالح الحركة في كليتها [...] نظريا لديهم [الشيوعيون] على بقية البروليتاريا أفضلية فهم واضح لشروط ومسيرة وللغايات العامة للحركة البروليتارية" يتحدث هنا ماركس وانجلز عن الكلية التاريخية أو الزمنية، أي عن الحاضر والمستقبل بمختلف مراحله المتوقعة. لأنهما يتحدثان بعد ذلك بفقرة عن الكلية الجغرافية، أو مسألة الأممية، المهمة في حد ذاتها والمحددة في فرز الماركسيين، لكن نقاشها يتطلب مساحة تتجاوز هذا النص. إذن، من أهم ما يميز الماركسيين عن عموم البروليتاريا هو فهمهم لكامل سيرورة حركة الصراع الطبقي بمختلف مراحلها. كان هذا غائبا منذ بداية عشرية الثورة في تونس حتى انهزامها. منذ نادى الماركسيون بمجلس تأسيسي خلال اعتصام ممثلي البروليتاريا في القصبة إلى الدعوة لإسقاط الانقلاب وقت انهزام البروليتاريا وتشتت صفوفها في كل اتجاه (خاصة في اتجاه إيطاليا). من المهم جدا أن لا يطرح الماركسيون على البروليتاريا أكثر، ولا أقل، مما يمكنها تحقيقه وفهمه والانصات إليه والإحساس به في مرحلة معينة. هنالك مراحل صعود ومراحل تراجع، مراحل هجوم ومراحل دفاع، مراحل ثورة ومراحل إعادة بناء، مراحل دعاية فكرية ومراحل مبادرة بالفعل المباشر ودعوة له. من الجهة الأخرى، يصور الماركسيون مستقبل الحركة وأفق الصراع والانعتاق. يكون ذلك في شكل برنامج اشتراكي، إلى جانب مختلف الأشكال الرمزية والخطابية. على ذلك الأساس، في كل مرحلة يدفعون الحركة نحو هذا الأفق، ولا يكتفون بالوعي التلقائي لجمهور البروليتاريا. يمثل الإقرار بهذا التطور اللامتكافئ للوعي أساس مفهوم الطليعة والتفرقة بين الماركسيين وعموم البروليتاريا التي يمثلون جزءا منها. فالطبقة ليست مجرد معطى اقتصادي وسوسيولوجي، و"الهدف الفوري للشيوعيين هو […] تشكّل البروليتاريين كطبقة والإطاحة بهيمنة البرجوازية واستيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية". فهي إذن تشكيلة تتشكل عبر سيرورة الصراع [11]. لا يقوم هذا الصراع طبعا بشكل عشوائي، بل على أساس، وفي إطار، ظروف اقتصادية-اجتماعية معينة. وبنفس المنطق، ليست كل المجموعات التي تتبنى الماركسية طليعة الطبقة الثورية، إلى أن تلتحم بهذه الطبقة وتصبح فعلا قادرة على التأثير فيها والتأثر بها. يمثل إذن تشكيل البروليتاريا كطبقة، أو تحويلها من طبقة في ذاتها، تصارع بشكل تلقائي أو عفوي، الى طبقة لذاتها، واعية بوحدة مصالحها وأسباب صراعها وأهدافها وكيفية تجاوز حالتها، هو الهدف المباشر للماركسيين. بتقدم هذه المهمة وتوفّر الظروف الموضوعية، يُطرح على الطبقة افتكاك السلطة السياسية. فعلى عكس اليسار، لا يوجد ماركسيون ثوريون دون وجود صراع طبقي وطبقة ثورية تتشكل، والممارسة الماركسية هي نشر الوعي السياسي وتنظيم هذه الطبقة، وليست الدعوة والتبليغ في صفوف عموم الناس مثلما ينشر اليسار مبادئه الكونية الأزلية. ليست السياسة بالنسبة للماركسيين اهتماما بـ "الشأن العام"، بل هي الشأن الطبقي. وهذا هو في نهاية التحليل الفرق بيننا. تدور المعركة بالنسبة لليساريين بينهم وبين اليمين ("دساترة وخوانجية"، أو ربما خوانجية بالأساس). في أفضل الحالات سيفكر أكثرهم مادية في ضرورة تعبئة الناس لخوض المعركة، بينما سيكتفي أكثرهم مثالية بالتشبث بالمبادئ. أما معركتنا فتدور بين الطبقة الثورية وحلفائها من جهة، والبرجوازية وحلفائها يمينا ويسارا من جهة أخرى.

إلى من ننتمي؟

تتطور النظرية الماركسية إذن وتنطبق مرتبطة بواقع حركة الصراع، وتجد في ممارسة تغيير الواقع حقيقتها وخطأها. تطرح الممارسة تحديدا على الماركسيين مسألة عويصة قد تكون حاسمة أكثر حتى من الوضوح النظري، كونها تمس وجودهم الاجتماعي ونفسيتهم كأفراد ومجموعات. لذلك نظن أن أول سؤال يجب أن يسأله الماركسيون اليوم في تونس، حتى قبل النقاش النظري والاستراتيجي، هو التالي: إلى من ننتمي؟ نتحدث عن الإنتماء في جوانبه الوجدانية والرمزية والاجتماعية. هل ننتمي لعمال باريس الذين أقاموا الكومونة أو لسوفياتات بتروغراد أو لعمال مانشستر الذين وصفهم انجلز في "حالة الطبقة العاملة في إنجلترا" وإلخ.؟ أم ننتمي إلى محمد البوعزيزي والهامشيين الذين أسقطوا حكم بن علي في 2010-2011 والذين أعماهم علي العريض بالرش في سليانة وإلخ.؟ نظن للأسف أن الماركسيين في تونس لازالوا ينتمون أكثر للمخيال الأول. نحن ننتمي أصلا للبروليتاريا كفكرة مجردة يحشوها كل منا بأحلامه وأوهامه، أكثر منها مجموعة اجتماعية موجودة في تونس في زماننا. نحنا ننتمي للمطرقة والمنجل وماركس وانجلز ولينين وماو وتروتسكي وغرامشي وغيرهم، أكثر من الناس الذين انتفضوا في 2010-2011. نحن ننتمي لترميز ورموز وثقافة ومخيال وسردية حركة شيوعية أوروبية أو صينية أو حتى كوبية من الماضي أكثر من انتمائنا للطبقة الثورية المعاصرة التي تعيش معنا أو غير بعيدة عنا. أكثر من ذلك، نحن ننتمي لترميز وخطاب فقاعة شيوعية افتراضية في الأنترنت: نتفاعل مع بعضنا البعض ونعجب ببعضنا البعض وبأنفسنا في حلقة مفرغة. ينحدر أغلبنا من الطبقات الوسطى، وتخلق هذه الخلفية حقا انفصالا أوليا نسبيا بيننا وبين الطبقات الشعبية. لكن يبدو أن ماركسيتنا زادتنا ابتعادا عن الطبقات الشعبية بدل أن تقربنا منها. نظن هنا أنه من المهم استحضار ماركس وانجلز مجددا وهما يفسران خيار اتخاذهما الشيوعية كانتماء: "لم يكن بإمكاننا عند صدوره [البيان الشيوعي] تسميته بالبيان الاشتراكي. ذلك أنه في 1847 كان هناك نوعان من الناس مندرجين تحت اسم الاشتراكي: من جهة المنتسبون لشتى النظم الطوباوية […] والذين لم يعودوا جميعاً إلا مجرد شيع هزيلة؛ محكوم عليها بالموت البطيء هزالا. ومن جهة أخرى كان هناك المشعوذون الاجتماعيون من كل شاكلة وطراز الذين كانوا يزعمون أنهم بمساعدة مختلف وصفاتهم السحرية وعلاجاتهم المرقعة؛ سيقضون على جميع صنوف البؤس الاجتماعي دون إلحاق أدنى ضرر بالرأسمال والربح. وفي كلتا الحالتين؛ لم يكن هؤلاء جميعا سوى أناس غرباء عن الحركة العمالية؛ ويسعون بوجه خاص للحصول على دعم الطبقات «المثقفة». وبالعكس من هؤلاء جميعاً؛ كان ذلك الجزء من العمال الذي اقتنع بعدم كفاية الانقلابات السياسية الصرفة؛ والذي ينادي بإحداث تغييرات جوهرية في المجتمع ؛ يسمي نفسه شيوعياً. لقد كانت شيوعية بالكاد مهذبة؛ سليقية تماما وأحيانا لا تخلو من الجلافة؛ […] كانت الاشتراكية في 1848 مرادفة لحركة بورجوازية، وكانت الشيوعية مرادفة لحركة عمالية. في القارة الأوروبية على الأقل كانت الاشتراكية تجد طرفها إلى الصالونات أما الشيوعية فكان بينها وبين الصالونات حجاب. وبما أننا كنا منذ ذلك العهد نعتقد بكل جلاء ووضوح أن «تحرر العمال يجب أن يكون من صنع العمال أنفسهم»!؛ فلم يكن لنا أن نتردد لحظة في الاسم الذي علينا أن نختاره ومنذ ذاك لم يخطر ببالنا قط أن نتخلى عنه". يجب أولا التنبيه لكون الإقصاء من صالونات "الطبقات المثقفة" أو رفضها لا يعني بالضرورة التواجد والترحاب داخل الطبقات الشعبية، وهذا واقع نعرفه جيدا. لنتذكر ثانيا أن أحزاب الأممية الثانية، خاصة في البلدن التي لم تكن الظروف فيها مواتية، سمت نفسها بالاشتراكية-الديمقراطية، بما في ذلك البلاشفة، وهو ما لم يمنعهم من قيادة أول ثورة عمالية. دعنا نتساءل إذن: لماذا نسمي نحن أنفسنا بالشيوعيين أو الاشتراكيين أو الماركسيين أو حتى اليساريين؟ هل سمت الطبقات الثائرة في 2010-2011 نفسها أو حركتها كذلك؟ هل تجذبها هذه التسمية؟ هل ترى فيها نفسها وترتاح لها وتحس أنها تعبر عنها؟ لا نظننا نبالغ إذا قلنا أنها تنفر كل هذه التسميات. نفسه حال المطرقة والمنجل وغيرها من الرموز. ولئن نتفهم الارتباط العاطفي بهذه الرموز والتسميات نظن أنه من واجبنا تجاوزها وعقلنة التعامل مع هذه الرمزيات. هل أنّ دورنا ومعركتنا هي الدفاع عن الرموز والتراث الشيوعي كما لو كانت الشيوعية هوية؟ أم أننا نطرح حقا تنظيم الطبقات الشعبية لإسقاط البرجوازية عن الحكم في تونس وتجاوز الرأسمالية نحو الاشتراكية؟ إلى أي مدى إذن نحن نشبه ونحاول التقرب من الطبقات الشعبية، في رموزنا ومظهرنا وكلامنا، حتى يمكنها أن تسمعنا ويمكننا أن نسمعها؟ يشعر الواحد منا أحيانا أننا نقوم بكل ما في وسعنا حتى لا نشبهها لكوننا "ثوريين" أو "جذريين" أو "شيوعيين"! هناك حتى بيننا أنواع من الشيوعيين الأرستقراطيين، تزيد عندهم قيمة الشيوعية بقدر ما يقل رواجها عند الناس. هل سمع أحد يوما شخصا في حي شعبي أو مصنع أو قرية ينادي أحدا "يا رفيق"؟! لماذا علينا أن نترجم مصطلحا استعمله الثوريون الأوروبيون في القرن 19؟! ألا توجد عبارات شعبية متداولة تعوضه؟! هذه ممارسات أشبه بممارسات "ثقافة فرعية" (subculture) منغلِقة على نفسها أو بممارسات طائفة منها بممارسات طليعة تطمح لقيادة حركة ثورية جماهيرية مثلما نظّر لها ماركس وانجلز. هذا هو المعنى الحقيقي للسكتارية، وسنبقى طائفة ما دامت هذه الممارسات متواصلة حتى لو توحدنا مع كل اليسار. ليس هذا الكلام طبعا إدانة أخلاقية لمن لا يعيش ولا يتصرف مثل الطبقات الشعبية ولا هو تأليه أو تصوير مثالي للأخيرة. بل بالعكس، نظن أن العديدين يتصرفون بأكثر تحرر ويعيشون بأكثر سعادة وانعتاق من الطبقات الشعبية، ونطمح أصلا الى أن تبلغ الأخيرة هذه المستويات من الانعتاق. ليس المطلوب والمطروح التخلي التام عن ذواتنا وحياتنا الفردية، بل مطلوب منا مجهود نفسي وعملي قدر المستطاع، خاصة في الميادين التي نتواجد فيها في ممارسة سياسية صرفة ومباشرة.

المجموعة الماركسية الثورية




[1] لا يمكن أن يكون هذا التعريف تعسفا على اليساريين إذ ورد بشكل شبه حرفي في كتاب "مانيفستو" اليسار التونسي الذي أصدرته مجلة المفكرة القانونية. أنظر تحديدا: يوسف الشادلي - ما معنى أن تكون يساريا في تونس؟، في "مانيفستو" اليسار التونسي.

[2] أنظر مثلا: الصراعات الطبقية في فرنسا و18 برومار لماركس وتوطئات انجلز.

[3] أنظر:

Jean-Claude Michéa - Les mystères de la gauche: de l'idéal des lumières au triomphe du capitalisme absolu

أنظر أيضا حول نفس الموضوع واختلاف اليسار والحركة الاشتراكية عموما:

Jean-Claude Michéa - Notre ennemi le capital

Jacques Julliard, Jean-Claude Michéa - La gauche et le peuple

[4] Manifeste des proscrits de la Commune, Londres, 1874

[5] Eric Fournier - La « ville libre » de Paris au temps de la Commune, Le monde diplomatique

[6] أنظر: وليد بسباس - الخطاب الاقتصادي لليسار أو خطاب اليمين المستتر: من تبني المصطلحات إلى الانصهار في الإطار الليبرالي، في "مانيفستو" اليسار التونسي

أنظر أيضا: حمزة إبراهيم - نقد نقد الريْع جزء 1: خطاب الاقتصاد الريْعي ودُعاتُه، موقع انحياز

[7] أنظر: المجموعة الماركسية الثورية - العنصرية منتوج إيديولوجي للإمبريالية، مدونة إزميل

[8] أنظر: حمزة إبراهيم - مكافحة الفساد: الخطاب الإيديولوجي للبرجوازية الصغيرة والهيمنة الاستعمارية، موقع انحياز

[9] نتجنب عادة استعمال فكرة ومصطلح "الاشتراكية العلمية". إذ زيادة على عدم فهمهم لاشتراكية ماركس وانجلز، لا يفهم مردِّدو هذا المصطلح في هذه البلاد (وغيرها) شيئا من العلم ولا يواكبون تطوراته وآثارها الابستيمولوجية. يظن هؤلاء الدغمائيون أن العلوم جملة من الحقائق الأزلية المنزّلة التي يتم اكتشافها بينما هي (بما في ذلك العلوم المساماة خطأ بـ "الصحيحة" أي علوم الطبيعة) مجال نقاش وتجربة وخطأ وتصحيح وتدقيق متواصلة. اشتراكية هؤلاء أقرب لاشتراكية دينية منها لأي علم.

[10] لمحاولة أولى لنقاش هذه المسألة، أنظر: حول الذات الثورية، مدونة إزميل

[11] أنظر: المفهوم التاريخي للطبقة، مدونة إزميل



كيف نتعامل مع الاتحاد في الوضع الراهن؟

 

يمثّل الاتحاد العام التونسي للشغل قوة سياسية مهمة وتقريبا آخر القوى القادرة على مقاومة سلطة قيس سعيد (ما لا يعني أنه سيفعل ذلك أو سينجح فيه). يتوجب لذلك على الماركسيين فهم طبيعة الاتحاد وأساس قوته السياسية للتعامل معه بشكل صحيح تكتيكيا دون الحياد عن استراتيجيتهم الثورية.

لا يمكن استيفاء نقاش هذه المسألة دون البحث في تاريخ النقابة المهيمنة في البلاد. لكن بعض الملاحظات البديهية تقريبا يمكن أن تجنبّنا أخطاء فادحة:

  • تأتي أغلبية منخرطي الاتحاد من الوظيفة العمومية وشركات القطاع العام
  • لذلك يعتبر الاتحاد المساس بالقطاع العام ككلّ خطا أحمر، ولو أنه يساوم في عديد الأحيان ببعض المطالب "الاجتماعية" الأخرى
  • تدور أغلب وأهم الصراعات النقابية والإضرابات في القطاع العام (باستثناء زمن الثورة وهي حالة خاصة لا يتسع هذا النص لتحليلها).
  • يحتلّ القطاع الخاص مكانة ثانوية في سياسة الاتحاد.

من النقاط السابقة يمكن استنتاج التالية بسهولة:

  • القاعدة الاجتماعية للاتحاد هي الطبقات الوسطى المشتغلة في القطاع العام. قد يقول البعض أن القطاع العام يضمّ أيضا "عمّالا" (النقل والطاقة مثلا). لكن بالنظر لظروفهم الاقتصادية واندماجهم الاجتماعي وممارستهم الطبقية ومقارنتها بموقع وممارسة الهامشيين وعمال القطاع الخاص، لا يمكن تصنيفهم إلا كنوع من "الأرستقراطية العمّالية"، وبذلك كشريحة من الطبقات الوسطى. هذا صحيح في البلدان التابعة عموما وفي الحقبة النيولبرالية خصوصا.
  • ليس الاتحاد قوة عمالية إصلاحية أو منحرفة يمينا، بل هو تعبيرة سياسية عن الطبقات الوسطى المرتبطة بالقطاع العام.
  • يجب فهم علاقة الاتحاد بعمال القطاع الخاص كعلاقة هيمنة من منظّمة لا تستمدّ قوتها منهم، وبالتالي هي مستقلة عنهم.
  • وعليه، لا تنطبق الأطروحات التقليدية حول التعامل مع النقابات العمالية الإصلاحية الكبرى ووحدة الطبقة العاملة على وضعية اتحاد الشغل في تونس (حتى بالنسبة لمن يعتبرون الطبقة العاملة طليعة الثورة).

على أساس ما سبق، يطرح الماركسيون الثوريون استراتيجيا فضح الطبيعة الحقيقية للاتحاد والقطيعة السياسية معه. لا يخفى على أحد أنّ سمعة اتحاد الشغل ضمن الطبقات الشعبية سيئة. اذ تلاحظ انتهازيته وتعرف حدسًا أنه لا يمثلها. لكنها تعّبر عن ذلك للأسف بخطاب الإيديولوجيا المهيمنة. لذا من واجب الماركسيين تصحيح هذه الأفكار المغلوطة.

في نفس الوقت تتقاطع مصالح اتحاد الشغل والطبقات الشعبية في بعض المجالات والسياقات. من مصلحة الطرفين مثلا زيادة الانتدابات في الصحة والتعليم والنقل العمومي. أمام الهجمة النيولبرالية لخوصصة ما تبقى من هذه الخدمات العمومية وبالنظر لضعف تنظم الطبقات الشعبية وقدرتها على المقاومة السياسية، يمثل الاتحاد عندما تُطرح هذه المسائل قوة الدفاع الوحيد تقريبا. يكون من الخطأ إذن مهاجمته في مثل هذه السياقات.

وعلى ضوء الهجمة القمعية التي انطلقت فيها الدولة برئاسة قيس سعيد، يبدو اتحاد الشغل آخر قوة سياسية فعلية (لا مجرد عنوان سياسي دون قوة) مستقلة عن سلطة قيس سعيد. وقد يضطر من خلال دفاعه عن الحق النقابي (مصلحته المباشرة) الى خوض معركة مع السلطة المتشكلة تندرج ضمن معركة الحريات العامة ككلّ. بنفس المنطق، وأمام الخطر المطلق الذي يمثله خطاب قيس سعيد وقمع بوليسه على تطور وعي الطبقات الشعبية وإمكانيات تنظمها المستقل، لا يصح التعامل مع اتحاد الشغل كخصم.

لكن كذلك، وتحديدا، لا يجب أن يفقد الماركسيون الثوريون استقلاليتهم ويتذيلوا لنقابة الطبقات الوسطى. بالنظر لطبيعته، الدفاعية المطلبية من جهة والانتهازية من جهة اخرى، ستكون "مبادرة" الاتحاد خاوية ونضاله من أجلها ضعيفا. لذلك من مصلحة الماركسيين الثوريين (وحتى المقاومة الوطنية اليسارية ككل) أن يطرحوا برنامجهم المرحلي كبديل شامل بشكل مستقلّ عن اتحاد ّالشغل. بذلك يواصلون المراكمة لخط سياسي مستقل والتوجه للطبقات الاجتماعية التي تعنيهم، وفي نفس الوقت يُبقون اتحاد الشغل تحت الضغط برفعهم سقف  البرنامج الاقتصادي الاجتماعي المواجه للدولة وسياساتها.

العنصرية: منتوج إيديولوجي للإمبريالية

في سياق أزمة شاملة وممتدة يمرّ بها المجتمع التونسي، شرعت جماعة شوفينية تُدعى بالحزب القومي التونس  في الترويج لأكاذيب حول مؤامرة استيطانية وخطاب عنصري ضد المهاجرين السود. كعادته قام إعلام السوق والبرجوازية بتغذية هذا الخطاب وتضخيم الموضوع، طبعا بكل حياد، ليصبح بسرعة صاروخية مركز الاستعراض السائد. في إطار مناوراته لإنقاذ شعبيته المتراجعة ركب قيس سعيد الموجة بعقد مجلس أمن قومي حول المسألة (لم تقم بذلك حتى حكومة أقصى اليمين الإيطالية!). تبنّت فيه الدولة رسميا سردية المؤامرة الاستيطانية وأعلنت انطلاقها في سياسة قمع عنصري ممنهجة ستُوسّع من السيطرة البوليسية على المجتمع.

فهم مادّي للعنصرية

الّا أنّ المشكلة الحقيقية التي تواجه الماركسيين هي نجاح هذه القوى، على ما يبدو، في إقناع جماهير واسعة من الشعب بهذه السردية. فتصدرت مسألة المهاجرين السود حديث الساعة وانتشر الخطاب العنصري حولها على نطاق اجتماعي واسع بما في ذلك وسط الطبقات الشعبية.

أدانت الفئات التقدمية والأوساط اليسارية موقف الدولة والخطاب العنصري المتصاعد في موقف مشرف ليس بالغريب عن أصحابه. أنتجت في نفس الوقت حالة الاستياء خطابا جوهرانيا مضادا: "نحن شعب عنصري". هذا صحيح، لكنه خاطئ لأنه منقوص: كل شعوب العالم عنصرية. ليست العنصرية خصوصية تونسية ولا عربية ولا هي جوهر أو "طبيعة" إنسانية. كما أنها ليست مجرد فكرة خاطئة أو متخلفة تنمّ عن جهل يمكن إصلاحها فقط بالتعليم والإقناع. إنّ العنصرية متجذّرة في الأساس المادي للحداثة، أي في الرأسمالية العالمية.

انطلقت الرأسمالية استعمارية عنصرية وتطورت كذلك وستنتهي كذلك. من اكتشاف القارة الأمريكية وإبادة سكانها الأصليين إلى العبودية، من الاستعمار المباشر إلى الإمبريالية المعاصرة. بعد أكثر من نصف قرن من الدحض العلمي للأفكار العنصرية واستمرار مقاومتها الثقافية، مازالت هذه الإيديولوجيا قائمة، بل أن القوى السياسية التي تحملها تبدو في صعود في كل مكان.

منذ انطلاق حركته المجنونة وتحوله إلى محرك إنتاج الحياة (والموت)، يتراكم رأس المال في البلدان "البيضاء" من خلال استلاب واستغلال بقية البلدان والشعوب. منذ أكثر من نصف قرن تعيد الرأسمالية إنتاج هذا الاضطهاد والاستغلال داخل حدود كل دولة عبر الهجرة وإعادة الانتاج الإجتماعية.

تنعكس هذه البنى الدولية والاجتماعية على المستوى الرمزي في تراتبية أرقاها الأبيض وتتدرج نزولا إلى الأسود. إن من ينظر للوهلة الأولى ويرى حالة البلدان "السوداء"، والسود (كمجموعة) في بلدان أخرى، سيلاحظ أنها عموما أسوء من حالة البيض (كمجموعة). بالنظر للهيمنة الإيديولوجية للرأسمالية ولطبيعتها العنصرية فإن التفسيرات السائدة لهذا الواقع تُرجع أسبابه للسود أنفسهم لا لنمط الإنتاج المهيمن وسلطة القائمين عليه. من جهة أخرى، وعلى نفس المستوى، فإنّ الضعف الاقتصادي والسياسي للسود يجعلهم ضحية سهلة للاضطهاد والاستغلال.

فقط بالنظر للتاريخ المادي للرأسمالية يمكن فهم حالة فقر واستضعاف السود وظاهرة العنصرية في عموميتها. بنفس المنطق المادي التاريخي من السهل مثلا فهم العنصرية الجهوية داخل البلاد التونسية ويمكن مزيد تفصيل سلّم التراتبية العنصرية عالميا ووطنيا. وحده التحليل المادي يفسر فشل نصف قرن من مناهضة العنصرية في كل أنحاء العالم.

لن تتبدد العنصرية إذن إلا بتبدد أساسها المادي، أي بتحرّر إفريقيا وبلدان الجنوب التابعة من الإمبريالية.

رد سياسي على العنصرية

لا يعني هذا أن نقف مكتوفي الأيدي في وجه ما يحدث أو أن نعتبره لا-حدثا. في الحقيقة، وهذا قول بديهي، لم يصبح التونسيون عنصريين فجأة بعد تدخل الحزب القومي  التونسي وقيس سعيد. ما يحدث هو توظيف العنصرية الكامنة سياسيا أو ظهور عنصرية سياسية (بالمعنى الضيق للكلمة) في تونس. بشكل ملموس هذا يعنى تعبئة الجماهير وكسبها لفكرة مركزية: المهاجرون السود هم المشكلة الأساسية للشعب التونسي أو سبب مشاكله.

إن التوقف عند الإدانة الأخلاقية لهذا الخطاب ووصمه بالعنصري لن يغير موازين القوى في الصراع مع السلطة التي تحمله، بل سيكون له على الأرجح الأثر العكسي. إن الصراع السياسي يستدعي تعبئة الجماهير وكسبها لخطاب سياسي، لا وصمها بالعنصرية والجهل وإلى غير ذلك.

هذا الخطاب السياسي المقاوم هو خطاب الصراع الطبقي المناهض للإمبريالية، بمختلف تعبيراتها الايديولوجية بما في ذلك العنصرية، ويمكن تكثيفه في الفكرة التالية: سبب تفقير الطبقات الشعبية هو البرجوازية الكمبرادورية والدولة التابعة والهيمنة الإمبريالية وليس المهاجرين السود الذين يعانون من نفس النظام في تونس وفي بلدانهم الأصلية.

ويمكن في هذا الصدد التذكير بتاريخ النضال الجنوبي المشترك بين الشعوب والأمم المضطَهَدة ضد الامبريالية، والتأكيد على راهنيته المستمرة في هذه للمرحلة التاريخية.

أما المناهضة الليبرالية للعنصرية فتؤدي دائما إلى نتائج عكسية، لأنها لا تتناقض مع أساسها المادي في الرأسمالية بل تتبناه وتدافع عنه.

إنّ السبيل الوحيد للقضاء على العنصرية هو تناولها في علاقة بالصراع الطبقي المناهض للامبريالية، حتى لا تكون بدورها حاجزا دون تشكل وعي الطبقات الشعبية بمهامها التاريخية الثورية.