يعتبر الماركسيون أن الصراع الاجتماعي أو الطبقي هو محرك التاريخ في المجتمعات المنقسمة أو الطبقية. هذه إحدى أهم أطروحات ماركس. لكن مفهوم الطبقة الذي هيمن استعماله على الحركة الماركسية يمثل انحرافا اقتصادويا وبنيويًا (نسبة للتيار البنوي الذي هيمن في الجامعات الغربية بعد الحرب العالمية الثانية) أو موضوعويا (أي يهمل الجانب الذاتي). انطلق هذا الانحراف من الاستناد السطحي على بعض النتائج التي توصل إليها ماركس (أو بعض الماركسيين المهمين) في زمانه ووسطه الجغرافي بدل استعمال منهجيته المادية لفهم واقع زماننا ومكاننا. لم يكن لذلك انعكاسات نظرية وسياسية مهمة في المجتمعات التي شابهت تلك التي أفرزت هذه الأفكار. لكن كلما الصراع ابتعدنا في الزمان والمكان كل ما جانبت الواقع واشتد العجز السياسي للماركسيين. لا شك أن ثورة 2010-2011 والعشر سنوات التي تلتها من الصراع الاجتماعي في تونس من أهم الأمثلة على زيف كل إيديولوجيات الماركسيين التونسيين. أخطأت كل توقعاتهم النظرية وتتالت هزائمهم السياسية. انعكس ذلك مثلا في خطابات هلامية حول "الشعب" مصحوبة بإدانات لـ "الشعبوية"! كما تُرجم أيضا في دعوات لـ "اليسار" ووحدته بدل التوجه لطبقة عاملة غير موجودة فعلا (كأكثر من جملة العمال). إن فهم السياسة كمعركة اليسار ضد اليمين، أي كمعركة أفكار صرفة، هو ضرب من ضروب المثالية. بالتالي فهو في قلب التصفوية لا فقط للماركسية بل للمادية أصلاً. تناقض الأفكار هو انعكاس للصراع الاجتماعي. إن الأفكار مهما كانت جذرية فهي ليست ثورية طالما لم تُعَبّر عن قوة مادية، أي عن طبقة اجتماعية ثورية.
مقدّمات نظرية
يجب منذ البداية توضيح مشكل لغوي وخطأ تاريخي في الترجمة. إن كلمة طبقة ترجمة سيئة للمفردة التي استعملها ماركس (klasse بالألمانية، classe بالفرنسية، class بالإنڤليزية). كانت كلمة قسم (أي جزء من كُلٍ منقسم) المستعملة كترجمة في سياقات أخرى ستكون أفضل. هذا أنّ كلمة طبقة، وهي مرادفة تقريبا لكلمة شريحة في اللغة العربية، تفضي مباشرة إلى نوع من التراتبية الاقتصادية العمودية. ساهم ماركس نفسه في هذا الخطأ عندما كتب في البيان الشيوعي: "وفي العهود التاريخية الأولى نجد في كل مكان تقريبا تقسيما كاملا للمجتمع إلى مراتب متمايزة (نلقى) تدرجا متفاوتا للمنزلة المجتمعية. ففي روما القديمة كان ثمة نبلاء وفرسان وعامة وعبيد وفي القرون الوسطى، أسياد وإقطاعيون، ومقطعون، ومعلمون وصناع، وأقنان. إضافة إلى ذلك نجد في كل طبقة من هذه الطبقات تراتبية فارقة [...] غير أن عصرنا عصر البرجوازية يتميز بتبسيطه التناحرات الطبقية. فالمجتمع كله ينقسم أكثر فأكثر إلى معسكرين كبيرين متعاديين إلى طبقتين كبيرتين متجابهتين مباشرة: البرجوازية والبروليتاريا". هذا بدوره يوحي بأن المعركة تدور بين التحت والفوق أو بين الفقراء والأغنياء أو العمال والأعراف أو المضطهَدين والمضطهِدين. هذا الفهم أدى إلى استعمال كلمة الطبقة بمفاهيم مغايرة تماما للتي استعملها ماركس. فيُعرّف البعض الطبقة بمستوى الدخل وتتحدث مثلا نظرية التقاطعية عن الطبقة كمحور من محاور التمييز أو الاضطهاد إلى جانب العرق والنوع والأهلية الجسدية والتوجه الجنسي إلى غير ذلك. إن هذا المنطق الأخلاقي الذي ينطلق من وضع الضحية يجعل من أولوية "الاضطهاد الطبقي" خيارا اعتباطيا أو "ذاتيا". فليس هناك معيار أخلاقي حديث (والمعايير الأخلاقية تتغير تاريخيا) يقول بأولوية الدفاع عن الفقراء أو المستغلين اقتصاديا على الدفاع عن ضحايا العنصرية أو الذكورية.
يكتب ماركس وانڤلز في الإيديولوجيا الألمانية: "وانبثقت في المدن، إلى جانب الفلاحين الذين كانوا يمارسون الحياكة لمنفعتهم الخاصة والذين استمروا ولا يزالون مستمرين في هذا النوع من العمل، انبثقت طبقة جديدة من الحائكين كانت معاملهم وأقمشتهم معدة للسوق الداخلية بكليتها وفي معظم الأحيان للأسواق الخارجية". هاتين الطبقتين كما نقرأ موجودتان إلى جانب بعضهما البعض ولا واحدة منهما فوق الأخرى وهو حال طبقتي الفلاحين والعمال عموما. لم يمنع ذلك تعارضهما وتصارعهما اللذين تعرفهما جيدا الأدبيات الماركسية وتجارب البناء الاشتراكي. نعرف أيضا أن ماركس وأنڤلز نعتا البروليتاريا-الرثة بأقسى النعوت واعتبرا الفلاحين طبقة محافظة أو حتى رجعية في سياقات معينة[1]. هذا رغم كون هاتين الطبقتين من أكبر ضحايا صعود الرأسمالية الذي شهده الكاتبين. أكثر من ذلك، نعرف أن الطبقة البرجوازية التي قادت الثورة على الإقطاع لم تكن أكثر الطبقات معاناة من الاضطهاد تحت ذلك النظام.
بعد هذه التوضيحات يمكن الآن طرح مفهوم الطبقة الماركسي. إن الطبقات تُعَبِر عن نفسها بخوضها الصراع الاجتماعي وهو بذلك صراع طبقي. تعبر هذه الطبقات عن ذاتها وتعرف بنفسها عن طريق ممارساتها وعلاقاتها الاجتماعية ببعضها البعض: بانفصالها، بصراعها، بتحالفها إلخ. "إن مختلف الأفراد لا يشكلون طبقة إلا بقدر ما يتوجب عليهم أن يخوضوا معركة مشتركة ضد طبقة أخرى؛ وفيما عدا ذلك فهم في حالة عداء متبادل في التنافس" (الإيديولوجية الألمانية).
ينتج عن هذه الممارسات الاجتماعية تغيّر المجتمعات، أي ما يسمى بحركة التاريخ. إنّ الطبقات إذن قوى اجتماعية وتاريخية. بينما تحدث ماركس دائما عن طبقات اجتماعية لا نعلم بحديثه عن طبقات اقتصادية.
من بين هذه الطبقات هنالك طبقة[2] تعبّر عن رفضها الكلي للمجتمع الطبقي (بما أن المجتمعات الموحدة، أي غير المنقسمة، لا تحتوي على طبقات حتى تعبر أحدها عن رفضها لها). هذه الطبقة هي البروليتاريا. مجددا يجب توضيح سوء فهم لغوي ونظري. تسمى بالبروليتاريا في الأصل الطبقة عديمة الملكية في جمهورية روما القديمة، حيث كان يتم تعداد الأطفال كملكيتها الوحيدة وكانت محرومة من حقوقها السياسية وإلى غير ذلك. بالتالي فالبروليتاريا ليست فقط مجموعة اجتماعية معينة تشكلت في الرأسمالية الصناعية بل هي مفهوم نظري تجريدي يمكن أن يجد تعبيرات اجتماعية مختلفة في مجتمعات تاريخية مختلفة: "ولقد كان للإقطاع أيضا بروليتاريته - القنانة التي كانت تحتوي كل بذور البورجوازية. كما كان للانتاج الاقطاعي عنصران متناحران يسميان أيضا الجانب الحسن والجانب السيء للإقطاع، دون اعتبار أن الجانب السيء ينتصر دائما على الجانب الحسن. إن الجانب السيء هو الذي ينتج الحركة التي تصنع التاريخ بتشكيل الصراع" (بؤس الفلسفة).
بسبب تهميشها التام من مؤسسات المجتمع القائم الاقتصادية والسياسية، ليس للبروليتاريا ما تخسره غير قيودها. هذا ما يجعلها الطبقة الثورية. "تولد [...] طبقة تتحمل كل أعباء المجتمع، من دون الاستمتاع بميزاته، وهي مطرودة من المجتمع بحيث لا بد لها أن تتخذ مكانها في المعارضة الأشد صراحة ضد جميع الطبقات الأخرى [...] وينبثق منها وعيُ ضرورة قيام ثورة جذرية، وعيٌ هو الوعي الشيوعي، يمكنه أيضا التشكل بالطبع عند الطبقات الأخرى عندما ترى وضع هذه الطبقة"(الإيديولوجيا الألمانية)
هذا يطرح بدوره مسألة المناضلين السياسيين الماركسيين وانتمائهم الطبقي. ما دامت ممارستهم الاجتماعية (بأبعادها السياسية والثقافية والاقتصادية) تساهم في وحدة الطبقة الثورية (ووحدتهم معها) وانتصارها في صراعاتها فهم جزء منها. يجب هنا الإشارة إلى نقطة مهمة. لا يمكن تفسير هذا الانتماء واستنتاجه من خلال دراسة البنية الاقتصادية للتشكيلات الاجتماعية وتقسيم العمل (بمعناه المتداول، فلا مجال هنا لمناقشة مفهوم العمل وتقسيمه) فحسب. أدت هذه الصعوبة النظرية إلى تفسيرات مثالية من خلال المبادئ والصدق والأخلاق والوطنية إلى غير ذلك. إن حل هذا المشكل بتطوير فهم مادي لتشكل الوعي الثوري سيكون حتما من أهم الإضافات للماركسية. لا شك أن هذا الفهم سيعتمد أكثر على العلوم النفسية والاجتماعية من الاقتصادية.
الطبقة الثورية أو البروليتاريا
"طروحات الشيوعيين النظرية لا تقوم قطعا على أفكار، على مبادئ ابتكرها أو اكتشفها هذا أو ذاك من مصلحي العالم. إنّها فقط تعبير عام عن الشروط الحقيقية لصراع طبقي قائم عن حركة تاريخية تجري أمام أعيننا." - البيان الشيوعي.
شهدت تونس في 2010-2011 انتفاضة ثورية، أي هجوما عنيفا للطبقة الثورية على الطبقة المهيمنة وحلفائها. تمثل تلك الفترة من الصراع الاجتماعي المشتد تجربة تاريخية تمكننا دراستها من تصوير خطوط الانقسام الطبقي بأعلى درجات الدقة الممكنة وتحديد ميدان الصراع الطبقي وتقييم النظريات المطروحة وتبديد الأوهام الإيديولوجية.
كيف يمكن وصف وتسمية الطبقة التي كانت في طليعة هذا الانفجار الثوري؟ انطلقت المعركة من المناطق الداخلية المفقرة إثر حرق محمد البوعزيزي البائع المتجول لنفسه. بعد فترة التحقت الأحياء الشعبية في أحزمة المدن الساحلية الكبرى. قامت هذه الجماهير بمهاجمة مباني وممثلي مؤسسات الدولة وخصوصا بالصدام مع قوات البوليس وحرق مراكزه. هؤلاء عمال يوميون خارجون عن المؤسسات والقوانين والعقود والنقابات أو معطلون عن العمل. إن كانت أنشطتهم الاقتصادية مختلفة ومبعثرة وغير قارة فإن هؤلاء مستقرون ومتركّزون في تجمعات سكنية كبيرة. هؤلاء هم سكان الأحياء العشوائية التي تطوق المدن الكبرى والمعتمديات الفقيرة حيث يقضون فترات طويلة من حياتهم وأين يتشكل وعيهم ووحدتهم، وبالتالي وحدة وعيهم. في غياب تسمية أفضل سنسّمي هؤلاء بالهامشيين - من الهامش الاجتماعي، أي وبالتالي الهامش الاقتصادي والجغرافي والسياسي.
طيلة عشر سنوات عبّرت هذه الجماهير عن نفسها كطبقة باحتجاجات متواترة. مهما كان سبب ومكان اندلاعها كانت تنتشر في نفس المساحة الاجتماعية والجغرافية. تستهدف نفس الأعداء وتنتهج ممارسات متشابهة. لا تعبر عادة عن مطالب مقبولة من المجتمع السائد وبقية الطبقات المهيمنة والمضطهدة التي تشكله بل عن رفضها التام وحتى الأصمّ له. نتحدث هنا عن ذات تاريخية حيث صنعت تاريخ العشر سنوات الماضية: انتفاضها أولا ثم بتواصل تعبيرها عن نفسها كأهم فاعل خارج النظام القائم على هزيمتها. هذه هي بروليتاريا تونس في بداية القرن الواحد والعشرين.
وإن بدت هذه الأطروحة وتقديمها كتجديد نظري أو كتحريف لمقدسات الماركسية في تونس فإنها ليست بالجديدة وليست بالغريبة عن الماركسية. منذ السبعينات لاحظ بعض أهم الماركسيين تشكل هذه الطبقة، خاصة في أطراف الرأسمالية العالمية. لعل ڤوندر-فرانك هو أكثر من أكد على أهمية هذه الطبقة تحديدا في أمريكا الجنوبية: "في الواقع، "الريفيون" هم البروليتاريا الحقيقية، [سواء] كانوا ما يزالون على الأرض أو مرميّين كما هو الحال الآن في الأحياء العشوائية للمدن"[3]. التحق بمنظري التبعية بعض الماركسيين من مراكز الرأسمالية مثل المؤرخ الإنڤليزي إريك هوبزباوم[4]. لكن لعل أهم عمل ممنهج حول هذه الأطروحة هو في رصيد الجغرافي الماركسي الأمريكي مايك ديفيس[5]. يبيّن هذا الأخير أن هذه الطبقة متشكلة في ذاتها على مستوى عالمي؛ وإن بصفة خاصة في البلدان الطرفية فهي موجودة كذلك في مراكز الرأسمالية. كما يناقش مطولا صفتها كذات تاريخية بمقارنتها بتشكل البروليتاريا الصناعية الغربية كذلك[6].
هذا الهامش، هذه البروليتاريا الجديدة ليست إذن خصوصية تونسية. فقد عبّرت عن نفسها بصفة تلقائية على نطاق العالم العربي: في المغرب ومصر وسوريا الخ بعد تونس. أما في أمريكا الجنوبية فقد وصلت إلى التشكل كقوة سياسية منظمة وإلى تحقيق ثورات وإصلاحات لصالحها، ما يجعل هذه التجارب أولوية للدراسة. تعد الثورة البوليفارية أحد أهم الأمثلة على ذلك: "يسكن اليوم حتما أكثر من 90% من سكان فنزويلا في المدن [...] منذ اكتُشِفَ النفط في أوائل القرن العشرين [...] تغير وجه كل البلاد، بابتعاد الحياة السياسية عن حاجيات المجتمع لمواجهة السوق العالمية خلقت بذلك اختلالا جغرافيا واسعا في خضم هذه السيرورة. تخلى الفلاحون على مناطق ريفية خصبة من جهتها من أجل المدن، حيث أتت الأغلبية لتسكن الباريوس [الأحياء العشوائية في فنزويلا] المتضخمة التي تطوق المدن. باندفاع الفنزويليين إلى المدن تهاوى الإنتاج الفلاحي - في الحقيقة كل الإنتاج المحلي [...] في كراكاس تعظّمت هذه السيرورة التمدينية باقتصاد النفط: كنقطة العبور لكل الثروة المستخرجة من باطن الأرض أغوت العاصمة الملايين من الريف بالبريق الرمزي لوعودها الزائفة غالبا بالحصول على حصة من ثروة النفط. إن هؤلاء السكان الجدد للباريوس - الذين بنوا مساكنا غير نظامية في الهضاب [التي تحيط بالعاصمة كاراكاس] والذين يدبّرون عيشهم عبر عمل غير نظامي على سطح السهل [وسط المدينة] - هم من قادوا انتفاضة الكاراكازو في 1989. الهوية والصراعات الجماعية التي انبثقت من الميدان الفوضوي للباريوس بسطت الأساس لتجارب جديدة في الديمقراطية الجذرية. ليس هؤلاء، في الغالب، عمال مصانع يتصدون لعرف في مكان العمل، بل عمال غير نظاميين يسدون خدمات أو يروجون البضائع المستوردة التي غمرت اقتصاد النفط. لم يواجهوا عَرفا فيزيائيا بل السوق نفسه، وتمحورت مطالبهم السياسية حول مكان سكنهم أكثر من مكان عملهم [...] شكلت الأحياء جمعيات ومجالسا تلقائية ومليشيات دفاع ذاتي شعبي في السنوات 1980 و1990 خصوصا بعد الكاراكازو. بدأوا يحكمون ويدافعون عن مجتمعاتهم - في مناطقهم - بأنفسهم [...] بالضبط مثلما لم يخلق شافاز الثورة البوليفارية - بل كانت السيرورة الثورية الطويلة التي "خلقت شافاز" - نفسه الأمر مع الكومونات. قبل أن تأخذ الدولة الفنزويلية مهمة بناء الكومونات من الفوق كان الثوريون يبنونها من الأسفل. كنتيجة، العلاقة بين الكومونات - بذرات اللادولة المستقبلية - والدولة الموجودة بعيدة على أن تكون سلسة"[7].
إن كان مايك دايفس لا يزال يتساءل على مقامها (هل هي طبقة أم فئة؟ هل هي قادرة على الوعي بذاتها ومهمتها التاريخية؟ هل هي قادرة على إسقاط الرأسمالية؟…) كذات تاريخية فهي في تونس وعديد البلدان العربية كذلك فعلا.
تشير هذه المعطيات التجريبية إلى وحدة بنيوية. إن كنا انطلقنا من الصراع الاجتماعي لتعريف مفهوم الطبقة وتحديدها اجتماعيا في الواقع، فذلك لا يعني أن هذا الصراع الاجتماعي يقوم بصفة عشوائية. يندرج تَشَكُّل هذه الطبقات وعلاقاتها وممارساتها ضمن تاريخ نمط الإنتاج الرأسمالي المهيمن عالميا. فهذه الطبقات تُنتِج تناقضات قوى وعلاقات الإنتاج وإعادة-الإنتاج والتقسيم الاقتصادي للعالم والمجتمعات والبنى الثقافية والسياسية وتَنتُج عنها.
إن كنا أهملنا هذا الجانب البنيوي حتى هذه النقطة فذلك - إلى جانب نية التمايز وإبراز المسافة من التحليلات الاقتصادوية - للتأكيد على كون حركة الواقع الملموس، لا أية أفكار مسبقة، هي منطلق التحليل الماركسي. كما يسهِّل ذلك توضيح الفرق بين تعريف الطبقة من ناحية والأساس المادي لتشكّلها من ناحية أخرى. لكن إذا توقفت النظرية المادية التاريخية عند تفسير الوقائع بعد حصولها فهي لم تتجاوز الإيديولوجيا. إن المطروح هو تقدير تطور الواقع بهدف التأثير فيه. هذه هي غاية دراسة حركة أنماط الإنتاج والتشكيلات الاجتماعية.
على ضوء انتفاضة 2010-2011 ونضالات العشر سنوات التي تلتها حكم التاريخ على أهم عائلتين ماركسيتين في تونس. فلم نرَ ثورة ديمقراطية للفلاحين ضد شبه-إقطاع غير موجود أصلا ولا برجوازية وطنية تناهض شبه الاستعمار لتطوير إنتاجها المحلي. من الجهة المقابلة لم نر "الطبقة العاملة" ومجالسها في طليعة الحراك الثوري. بل أنّه في بعض الفترات تميز سلوك العمال بالانتهازية، إذ استغلوا المناخ الثوري لتحقيق بعض المكاسب القطاعية عن طريق وساطة أحد أجسام الدولة البرجوازية (اتحاد الشغل) بعيدا عن أي أفق ثوري.
إنه من الغريب أن يتشبث من يصفون نمط الإنتاج المهيمن بالرأسمالي التابع بـ "الطبقة العاملة". إن كنا لا نعرف النصوص التي يعتمد عليها حزب العمال، فإنّنا نعرف أنّ أهم منظري التبعية انتقدوا هذه الدوغمائية وأكدوا في دراساتهم للتركيبة الطبقية للبلدان التابعة على أهمية الهامش.
حول "الطبقة العاملة"
كان يمكن ألا يتطرق نص حول الذات الثورية في تونس 2022 لـ "الطبقة العاملة". فقد كانت كما قلنا متخلفة عن المسار الثوري، أي لم تعرب عن ثوريتها المفترضة وبعد عشر سنوات يمكن حتى التساؤل إن كانت طبقة متشكلة فعلا أي تقوم بممارسات طبقية موحدة تعبيرا عن ذاتها أو دفاعا عن مصالحها. فقد رأينا طيلة العشرية الفارطة الكثير من النضالات العمالية لكن لم نر نضالات للطبقة العاملة. اتسمت هذه النضالات عموما بالفئوية الضيقة. إذ توجد اختلافات مهمة بين عمال القطاعين العام والخاص وبين عمال الشركات (المرتبطة بالسوق) الوطنية والشركات المرتبطة مباشرة بالإمبريالية وبين مختلف العمال والبيروقراطية النقابية التي تهيمن عليهم.
لكن إن كانت طبقة عاملة ثورية ليست جزءا من واقعنا فإن وهم وجودها جزء منه على الأقل في الأوساط الماركسية. هذه الفكرة مبنية على إسقاط بعض النتائج التي توصل إليها ماركس في زمانه على واقع مغاير وعلى بعض تقديراته التي أثبت التاريخ خطأها. أخطاء يمكن تفسير الكثير منها بأورومركزيته.
يراهن ماركس في البيان الشيوعي على تبسيط الرأسمالية للمجتمع باختزاله في طبقتين: العمال والبرجوازية. وبذلك تصبح الطبقات تحت الرأسمالية مطابقة تماما لتقسيم العمل ولا تغدو انعكاسا (ليس بالضرورة مباشرا) له كما كان الحال في المجتمعات السابقة. إن بقيت هذه النزعة التاريخية صحيحة لفترة معينة - أساسا فترة صعود الرأسمالية وتصفية بقايا الإقطاع (أو المرور من الهيمنة الشكلية إلى الهيمنة الحقيقية لنمط الإنتاج الرأسمالي)، فإنه سرعان ما تبين خطؤها على المدى الطويل وعلى امتداد جغرافي أوسع.
خلق التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج إضافة إلى الصراع الطبقي جملة من الطبقات الاجتماعية والأنشطة الاقتصادية الجديدة، ولم تعد الطبقة العاملة كما عرفها ماركس حتى أغلبية عددية في كل المجتمعات المعاصرة. كما أن الإصلاحات التي نجحت في فرضها حسّنت ظروف عيشها فلم تعد بروليتارية وأصبح لديها ما تخسره إلى درجة أن صراعاتها الأساسية أصبحت تتمحور حول الحفاظ على مكاسبها ضد الهجمة النيوليبرالية. يمكن حتى القول أنها في عديد الأحيان أصبحت طبقة محافظة.
في نفس الوقت خلقت النيوليبرالية طبقة من الهامشيين لم يعد ممكنا وصفهم بجيش الاحتياط في ظل البطالة الهيكلية التي تميز هذا الطور والانحدار التاريخي للطبقة العاملة أمام التطور التكنولوجي. إن حركة الرأسمالية النيوليبرالية ليست سيرورة تشكيل طبقة عاملة صناعية (مثلما كان الحال في زمن ماركس) بل هي عملية تهميش لهذه الطبقة وغيرها أي تشكيل طبقة الهامش. الهامش هو مستقبل الرفض الاجتماعي.
هذه الحركة التاريخية موجودة بأكثر وضوح وشدة في البلدان التابعة. منذ البداية لم يهتم ماركس بالمستعمرات إلا في علاقتها بتطور الرأسمالية في المراكز. تطور افترض أنه سيجتاح العالم وينحته على صورة أوروبا. إذ لم يفهم أن تطور المراكز الرأسمالية لا يمكن أن يحدث إلا بخلق أطراف أو هوامش لها. شيّد هذا التطور الطرفي التابع بنى اجتماعية أكثر بعدا عن ثنائية برجوازية-عمال الاختزالية التي اقترحها ماركس. ثنائية لم تكن ولن تكون في هذه البلدان. ورغم ذلك أو نظرا له كانت هذه الأطراف وأشباه/أنصاف-الأطراف مسارح الثورات الاجتماعية والوطنية بينما انهزمت وتراجعت الطبقة العاملة في المراكز الإمبريالية.
نشأت الطبقة العاملة الصغيرة والضعيفة في تونس بالأساس بعد الحرب العالمية الثانية. حققت الرأسمالية، بنموها السريع خلال هذه الفترة، فوائض إنتاج كبيرة كانت الإمبريالية تقبل باستحواذ الأطراف على جزء منها. تمتع إذن العمال منذ بداية وطيلة هذه الفترة الديمقراطية الاجتماعية، بقوانين شغل وتمثيلية نقابية (في فترة أصبحت فيها النقابات من بين مؤسسات الإدارة البيروقراطية للمجتمعات) وتغطية اجتماعية وصحية. تبين مقارنة سريعة مع "ظروف الطبقة العاملة في إنڤلترا" التي وصفها إنڤلز في القرن 19 مثلا ومع أوضاع الهامشيين أن لهذه الطبقة عدة امتيازات لا يمكن أن تجعلها ثورية. بعد فترة قصيرة من رأسمالية الدولة أتت النيوليبرالية وسياسة الاندماج الكمبرادوري في الاقتصاد العالمي بضربة قاضية لا لأمل تشكل طبقة عاملة ثورية بل لمجرد تشكل العمال كطبقة تاريخية.
الكتلة التاريخية أو الطبقات الشعبية
إن القول بأن العمال باختلافهم يحظون بامتيازات مقارنة بطبقات أخرى لا يعني طبعا أنهم طبقة مهيمنة. كما أن القول بأنهم لا يشكلون طبقة ثورية لا يعني أنهم أعداء الثورة. فإلى جانب الاستغلال الرأسمالي العادي، يتميز الشغل في الفترة النيوليبرالية بهشاشة كبيرة لا سيما في البلدان التابعة، وخاصة في تلك القطاعات المرتبطة مباشرة بالخارج عبر الاستثمارات أو مثلا في شكل المناولة. هذا ما يجعل قسطا كبيرا من العمال مؤهلين للالتحاق بروليتاريا الهامش في كل لحظة (ربما مثلما كانت البرجوازية-الصغيرة التقليدية مؤهلة للالتحاق بالبروليتاريا الصناعية عند ماركس). ليست هذه مجرد فرضية بل هو واقع جار منذ أكثر من عشر سنوات. وإن كان العمال يقضون غالب وقتهم في العمل فإنهم عادة ما يسكنون الأحياء الشعبية حيث يتركز الهامشيون.
لكن العمال ليسوا الاحتياطي الوحيد للهامش. إن صغار الفلاحين هم الآخرون مقدمون على صراع، ربما يكون حاسمًا، مع البرجوازية الكمبرادورية والمستثمرين الفلاحيين المحليين والأجانب. أمام الهجمة التي تشنها الإمبريالية باسم التبادل الحر والأفضليات المقارنة لم يعد لهم الخيار: إما الالتحاق بالهامشيين في تكتل سياسي أو الالتحاق بهم اجتماعيا بعد إفلاسهم وبيع أراضيهم.
بعد تبدد وهم المجتمع الثنائي (برجوازية-عمال أو في صياغة أحدث 99% ضد 1%) على محك التاريخ والواقع يجب ألا نعيد إنتاج نفس الأوهام الاختزالية. إن بروليتاريا الهامش ليست بالطبقة الكونية (مثلما توهم ماركس البروليتاريا الصناعية الأوروبية) ولا نرى حتى أنها يمكن أن تشكل يوما أغلبية عددية (فمجتمع يهمش أغلبيته ساقط لا محالة). هذا لا يعني التنازل تماما عن الكونية أي فعليا عن تجاوز الطبقات وبناء مجتمع موحد. لكنه يعني الإقرار بأنها جدلية معقدة تشقها تناقضات وصراعات أعقد مما تخيل ماركس والماركسيون الأوائل على اختلافهم.
بناء على ذلك يمكن أن نستنتج نقطتين مهمتين على المستوى السياسي: أولا، لا مفر من دكتاتورية البروليتاريا. وإن كان من المهم نقاش أشكالها ومؤسساتها لتجنب المناحي الرجعية التي اتخذتها في تجارب الحركة الماركسية، فلا سبيل للتنازل للأوهام التلقاءوية والعفوية حيث يتبدد المجتمع الطبقي بمجرد إعلان تبدده. ستهاجم الثورة مصالح وامتيازات قطاعات واسعة من البرجوازية-الصغيرة والطبقات الوسطى إلى جانب البرجوازية والإمبريالية وستحتاج بالتالي لقمع هؤلاء (القمع لا يعني فقط العنف المادي المباشر لكنه يعني ذلك أيضا). لكن طبقة تطرح نفي نفسها كطبقة (لا إعادة إنتاج نفسها) وإلغاء الطبقات تستجيب بالضرورة لمطالب وحاجيات أغلبية المجتمع. تأتي بهذا للنقطة الثانية: تشكل البروليتاريا كتلة تاريخية تحت قيادتها. تكفي نظرة سريعة لتجارب حكم الحركة الاشتراكية حول العالم لتبين التناقضات التي تشق طبقتي العمال والفلاحين والصعوبات التي تطرحها. بعيدا إذن عن وهم الوحدة التامة بين المصالح الهامش والعمال والفلاحين يعد تحالف الطبقات الشعبية شرط صمود وديمومة الثورة والتقدم في بناء الاشتراكية.
يمكن أن يكون تمفصل هذا التحالف متحركا فتطرح بعض الصراعات طليعة تكتيكية (تجعل مثلا هجمة امبريالية مرتقبة على الفلاحة الفلاحين في الصف الأمامي للمعركة). لكننا لا نظن أن الثورة القادمة ستقوم على الإضراب العام ومجالس العمال ولا بمحاصرة المدينة بالريف. بل ستقوم على الأرجح بمحاصرة المدن الكبرى ولا سيما العاصمة بأحزمتها المهمشة مع فقدان الدولة البرجوازية لسلطتها على الهوامش الداخلية. هذا هو الميدان الاجتماعي والجغرافي للثورة ومنه تنطلق المراكمة لها.
الرفيق بالضيافي عضو المجموعة الماركسية الثورية
________________________________________
[1] أنظر: "الصراعات الطبقية في فرنسا" و"18 برومير لويس بونبارت".
[2] مبدئيا ليس هنالك ما يوجب أنها طبقة واحدة لا عدة طبقات.
[3] Andre Gunder-Frank - Capitalist Underdevelopment or Socialist Revolution, in Latin America: Underdevelopment or Revolution
أنظر أيضا في نفس الكتاب المقالين:
Instability and Integration in Urban Latin America
Destroy Capitalism not Feudalism
[4] History in the “Age of Extremes”: A Conversation with Eric Hobsbawm (1995)
[5] Mike Davis - Planet of Slums
[6] Mike Davis - Old Gods, New Enigmas: Marx's Lost Theory
[7] George Ciccariello-Maher - Building the Commune: Radical Democracy in Venezuela
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق