"هذه هي إذن الثمار الجميلة لعملية إنقاذ البرلمانية... اشمئزاز كبير متزايد عند الشعب تجاه أي عمل برلماني، والارتماء في أحضان الأناركية؛ باختصار، هذا هو في الواقع الخطر الأهم الذي يهدد وجود البرلمان والجمهورية بصفة عامة!... ليس هذا هو الطريق الذي يجب أن تتبعه البروليتاريا في تحمل مهمتها في الدفاع عن البرلمانية البرجوازية المتهالكة. الطريق الصحيح يمر، لا بإخفاء الصراع الطبقي البروليتاري والتخلي عنه، بل بالعكس عبر تشديده وتوسيعه الأكثر إصرارا". روزا لوكسمبورغ - الاشتراكية-الديمقراطية والبرلمانية.
صارت الحريات العامة في خطر. هذا ما يشير إليه من ناحية الدستور الجديد، بوضعه الرئيس فوق كل مساءلة. تتوفر من جهة أخرى الاستعدادات النفسية عند قطاعات اجتماعية واسعة للقبول بدكتاتورية جديدة نبذًا لـ "الأحزاب" و"السياسيين" و"الديمقراطية" وإلخ.
يمثّل هذا السياق أرضية خصبة لتقدم غطرسة الشرطة وأخذها حرية أكبر في قمع الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية والانتقام من مختلف المجموعات (الاجتماعية والسياسية) التي أزعجتها طيلة عشرية الحرية السياسية (النسبية). لكونه طليعة التسلط والنزعات الفاشية، سيجرّ جسم البوليس قيس سعيد شيئًا فشيئًا إلى ممارسة أكثر دكتاتورية للسلطة بغض النظر عن نوايا وخيارات الأخير (بالنظر لقناعاته الدولتية والقانونَوِيَّة ونظرته المثالية التجريدية للعالم، أقلّ ما يقال هو أن شخصيته تحمل كل الخصائص المواتية).
يجب هنا الانتباه لطبيعة علاقة قيس سعيد بالبيروقراطية المسلّحة. وإن يدّعي، وربّما يتوهّم، عكس ذلك، قام الرئيس بتهميش الجماهير من الفعل السياسي رغم شعبيته عندها، خاصة في الفترة الأولى من صعوده، ثمّ إثر 25 جويلية. يعود ذلك تحديدا لطبيعته القانونويّة الدولتية. ونظرا لخرقه الأطر القانونية القائمة (دستور 2014 بالأساس) قبل إلغائها، اعتمد من أجل أن يحكم على القوات المسلحة التي مازالت إلى اليوم الأساس المادي الأهمّ لسلطته (رغم قبول أغلبي سلبي بحكمه لا نتصور مثلا قطاعات واسعة من الشعب تهبّ للدفاع عن قيس سعيد في حال إسقاطه بانقلاب من داخل الدولة). يفتقد سعيد أيضا إلى تنظيم سياسي يسانده، ما يجعل جزءًا مهما من معرفته بالواقع يمرّ عبر تقارير مؤسسات الدولة. تُبيّن هاتين النقطتين اختلال ميزان تحالف قيس سعيد مع مؤسّسة البوليس لصالح الأخيرة.
بالنظر للنفسية السائدة في البلاد، يبدو من الواضح أنّ خطاب الحريات السياسية لا يمكن أن يجد آذانا صاغية عند غالبية الطبقات الشعبية؛ خصوصا وأنّ الدكتاتورية ليست اليوم واقعا ملموسا وستحتاج لفترة من الزمن لتصبح كذلك تدريجيا. وعليه، إذا لم يختلف محتوى احتجاجاتهم عن الليبراليين، واقتصرت أو حتى ركّزت بالأساس على مسألة الحريات السياسية أو "الديمقراطية"، سيكون من السهل مساواة الماركسيين ببقية المجموعات السياسية. سيراهٌم الشعب لا محالة كمدافعين عن مصالحهم الخصوصية، مثلهم مثل كلّ "السياسيين" في العودة إلى نظام سياسي مفتوح يمكّنهم من التموقع. بذلك ستُعتَبر أيّ تعلّة تتذرع بها السلطة وجيهة لقمعهم، وستتعاطف أوسع الجماهير مع البوليس والدولة والرئيس في ذلك، إن لم تعبّر عن نوع من الانتقام ممّن تظنّ أنّهم مساهمون كغيرهم في معاناتها خلال فترة "الانتقال الديمقراطي". سيكون هذا الاحتمال أرجح، بقدر ما كانت الشعارات والممارسات الاحتجاجية نخبوية واستفزازية واستعراضية. لكن ليس هذا هو الأهمّ، فالمطروح هو قلب المعادلة. كيف يمكن أن يتقدّم الماركسيون في كسب تعاطف فمساندة الشعب في وجه سعيّد والدولة والبوليس؟
تفرض الوصفة نفسها. يجب أن تعبّر شعارات الماركسيين عن مشاغل الطبقات الشعبية. ما يعني أن تكون المسألة الاقتصادية الاجتماعية والسياديّة في قلب احتجاجاتهم والسياق مواتي لذلك. تطرح هذه النظرة برنامجا احتجاجيا دعائيا يتعلق بالسيادة الغذائية والطاقية في ظل اضطرابات السوق العالمية، والسيادة النقدية في ظلّ أزمة المالية العمومية والاتفاق المنتظر مع صندوق النقد الدولي والميزانية النيوليبرالية التي سيفرضها.. وإلى غير ذلك. بهذا الشكل نضرب عصفوريْن بحجَر واحد. إذ يتم في نفس الوقت، من خلال التواجد في الشارع لتناول القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسيادية، فرض الحرّيات العامة كأمر واقع. كما أنّ قمع مثل هذه الاحتجاجات سيكون أكثر إحراجا للسلطة، وسيكون المشاركون فيها في موقع أفضل للتنديد بتعاملها معهم. وفي نفس الوقت، يراكم الماركسيون بذلك لشعاراتهم الاستراتيجية ويعملون على القُرب أكثر فأكثر من الطبقات الشعبية ويوضحون تمايزهم عن الأطراف الليبرالية.
على أهميتها التكتيكية، لا يمكن أن تغني هذه الاحتجاجات عمّا هو أهمّ : ضرورة التوجّه للطبقات الشعبية في أماكن تركُّزها والعمل صُلبها. يبقى ذلك هو السبيل والميدان الأساسي لتعديل موازين القوى ضد مختلف الرجعيّات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق