منذ 25 جويلية الماضي شهدت مواقف المجموعات اليسارية الثورية تغيّرات مثيرة للاهتمام، انقسمت بين متحمّسين للمسار ورافضين له ومنتظرين لما سيفرزه. ولكنّ الجميع يتشاركون في أمر تشبثوا به على مدى سنوات، ويكاد يكون هو العنصر الوحيد الجامع بين كلّ من ينسب نفسه الى هذا اليسار الثوري، هو غياب القدرة على الفعل السياسي المؤثر في حركة الصراع الطبقي والوطني.
انّ المتحمّسين
لمسار 25 جويلية والمدافعين الآن عن دستور قيس سعيد ينقسمون الى أفراد مستقلين
ومجموعات سياسية. ولسنا هنا بصدد مناقشة المواقف الفردية، فرفاقنا هؤلاء لا
يمتلكون نفس قدرة المجموعة على تبادل الآراء وادارة الجدل الداخلي للوصول الى موقف
مبني على تفاعل ومعطيات من مصادر مختلفة. ولا نعتقد أنّ صورة "المثقف الموسوعي
الملمّ بكلّ شيء" مازالت قابلة للتطبيق في هذا القرن الذي يشهد انفجارا
معلوماتيا يعجز عقل واحد عن الوعي به مهما كان جبّارًا.
ما يهمنا هنا
هو مواقف المجموعات السياسية. فالتنظّم في إطار مجموعة سياسية يسارية أو شيوعية
يفيد مباشرة إقرارًا بحمل تصور استراتيجي يفرض تكتيكات تساعد ذلك التصور على التحقّق.
ما حدث عند
رفاقنا هؤلاء هو انتفاء أي حديث عن هذه التصورات الاستراتيجية داخل خطابهم الدعائي
والتحريضي (أداة فرض سلطتهم الايديولوجية على الجماهير، أي سلاحهم الوحيد اليوم)
والذوبان الكامل في حشود المدافعين عن الرئيس المنقذ وتصوراته.
يبدو أنّ
المبدأ الذي قاد الرفاق في هذا السياق هو الابتعاد عن التصورات الدغمائية المعتادة
والاجابات الجاهزة التي تربّيْنا عليها داخل أطرنا النضالية، وهذا سليمٌ جدا من
حيث المبدأ. فلا أحد منّا مازال ينظر باحترام إلى الرفيق الذي يُخرج موقفه السياسي
من ثلاجة ماركسية مُجمَّدًا بلا طعم ولا رائحة ومعرَّضًا للتعفّن بسرعة بعد أيّام.
المبدأ الثاني
الذي يقود هؤلاء هو حُبٌ قائم على نزعات رومنطيقية للجماهير. نعني بذلك تصورا
للجماهير على أساس كونها حين تتحرّك بأعداد واسعة في اتجاه سياسي ما فهي دائما
صحيحة. ويجب على الشيوعي الحقّ واليساري المقاوم أن يكون مع أبناء شعبه وفي مقدّمتهم
مسلِّحا اياهم بحكمته وقدراته القيادية وحاميا لهم من مختلف المتربصين بهم ممن
يريدون إعادة توجيه مسار حركتهم. وطبعا ينسى الرفيق هنا أنّ أبناء شعبه مُهَيْمَنٌ
عليهم ثقافيا على مدى عقود ومهيَّؤون لتبنّي أكثر الأفكار بساطة وتخلّفًا.
المبدأ الثالث
الذي أدّى الى مثل هذا الذوبان الكامل هو الاحباط. احباطٌ من عقد بلا ثمار ودون أيّ
مراكمة حقيقية في اتجاه بناء الرافعة التنظيمية لأفكار تخدم مصالح هذا الشعب. ونحن
مقتنعون أنّ هذا الاحباط يأتي من كون الكثير من الرفاق يريدون دون وعي منهم أن
تحدُث الثورة في عهدهم دون غيرهم وفي أسرع وقت ممكن، ودون بذل الكثير من التضحيات
ومع الحفاظ على نمط حياة مريح في أغلب ردهات ما نسمّيه نضالًا. هذا قد يدفع البعض
الى التشبّث بقيس سعيد كتشبّث سام بتلابيب أبيه نوح وهما وسط الطوفان. فهو الملاذ
الأخير والفرصة الباقية للبقاء دون وجود "خوانجية " يعكّرون صفوْ عملنا الثوري
ويهدّدون وجودنا بحدّ ذاته.
طبعا لن نتحدّث
عن حالات الرغبة في التموقع وسيَلان اللعاب مع أوّل فرصة وهمية للتواجد في السلطة.
فذلك الأمر كان حاضرًا معنا منذ تأسيس النواة الأولى للأمميّة الثالثة في تونس الى
حدود اللحظة.
إنّ كل هذه
العناصر تجعلنا اليوم أمام أنصار متحمّسين للرئيس مدافعين عنه بلا هوادة، وطبعا
مدافعون عن دستوره الجديد الذي لم يشُذّ عن غيره من دساتير دول الجنوب المستباحة
من الامبريالية المعولمة:
- كثير من الأحاديث الجميلة عن السيادة والمساواة والعدالة، وهي لن تُطبَّقَ لأسباب بنيوية تخصّ طبيعة النظام القائم.
- محاولة الجهة التي كتبت الدستور تأبيد سلطتها، سواء عبر اعطاء كل السلطات لرمزها أو عبر النكوص الى تقاليد مؤسساتية تمنع المنافسين من المنافسة.
- بعض الفصول المُعَدَّة لإثارة جدل هوويِّ عقيم حتى تجد "نخبتنا" ذات القلب الشرقي والعقل الغربي عضما تقضّي وقتها في عضعضته.
الموقف الثاني
للمجموعات اليسارية الموجودة في تونس الآن هو موقف على النقيض من الأوّل، لكن
المبادئ التي تقوده لا تجعله مختلفا جدا رغم الإحتراب الظاهر. وهو موقف قائم أيضا
على تصورات لا علاقة لها لا باستراتيجيا ولا بتكتيك.
إنّنا هنا
نتحدث عن مرض هجين عضال استولى على عائلة يسارية كاملة تأثرت ببرنامج الحريات
السياسية الذي قدمه حزب العمال الشيوعي التونسي في أوائل التسعينيّات. ايديولوجيا
الحريات السياسية واستحضار فهم مشوَّه للتناقضات مع خلطة مُعَدَّة ممّا كتبه
ديميتروف عن الجبهة ستجعلنا أمام تكتيكات تذكرنا بقصة الغراب الذي أراد التحول الى
حمامة فلوّن نفسه بالأبيض.
قوام هذه
التكتيكات هو التالي:
- نحن شيوعيون ولكنّنا في نفس الوقت ندافع عن الديمقراطية و نريد انتخابات يشارك فيها زعماؤنا، حتى بقواعد مُعَدَّة سلفا من قبل الكمبرادور.
- الحرية
السياسية هي أهمّ أهدافنا في هذه اللحظة لأنّها ستكفل لنا الحديث بحرية. صحيح أنّ
ذلك سيكون بمرافقة جهاز دعائي جبار يفرض هيمنة ثقافية لا قبل لنا بها، ولكننا مع
ذلك لنا أمل في قدراتنا الشيوعية الخارقة التي لم نعرفها بعد.
- نحن لا نختار حلفاءنا انطلاقا من طبيعتهم ومواقفهم التاريخية وأفق تطورهم الذي قد يؤدّي الى افنائنا. بل نختارهم انطلاقا من مواقفهم الآن وهنا. فنحن لا ننظر الّا الى أقدامنا ولا قدرة لنا على استشراف ما يحمله المستقبل مع حلفائنا هؤلاء.
- أيّ زعيم عدا زعيمنا هو دكتاتور بالضرورة ولا مصلحة للشعب فيه.
إنّنا أمام
كتلة غريبة من الديمقراطيين الليبراليين الذين ينطقون جملا من كتب ماركس وانجلز
ولينين وستالين كي يبرّروا بها خيارات لو طُبّقَت في وقت ستالين لاختفى أصحابها في
قاع نهر الفولغا.
وخيارات هؤلاء
اليوم هي خيارات أقرب للجذل الفكري. ونحن نشعر بهذا الفرح والجذل حين نستمع الى
مواقفهم السريعة من كلّ ما يفعله قيس سعيّد. فالرجل بالنسبة لهم لا يمثل ظاهرة
معقدة تستوجب التفكيك والفهم وفق معايير علمية. بل هو بالنسبة لهم عودة لنموذج بن
علي أين كانت حياتهم أسهل من زاوية اصدار المواقف. إنّه الفرح بعودة البساطة، أي
بعودة الكسل الفكري. كأنهم المتخصصون في مقاومة الدكتاتورية وحدهم دون غيرهم، وحين
عاشوا فقدانا كاملا للبوصلة دون بن علي استعادوها أخيرًا عبر استحضار روح الجنرال
في جسد قيس سعيّد.
حتى لو عبّر قيس سعيد عن أكثر المواقف جذرية ستجدهم في الطرف الآخر. فما بالك بهذا الدستور الذي اعتُبر من قبل هذه الطائفة حراما بعد ثانيتين من نزوله في الرائد الرسمي. هو الكسل في التفكير ومرض ايديولوجيا الحريات السياسية العضال.
نحن نعتقد أنّ
تاريخ اليسار الماركسي في تونس لم يشهد لحظة كانت فيها الأمراض والنزعات العاطفية
الذاتية هي المحدّدة للمواقف كمثل هذه اللحظة.
وبين الوهم
والكسل نجد أنفسنا مطالبين بموقف من هذا الدستور وما أوصلنا اليه وما قد يُفرزه.
إنّ مسار 25 جويلية منذ انطلاقه لم يكن بأي حال مطمئنا الا من زاوية واحدة. فحالة التعفن غير المسبوقة التي شهدتها البلاد في تلك اللحظة كانت محتاجة لحجر يُلقى في البركة. وقد دفع هذا الحجر بكلّ العفن الى الخارج وصار مرئيا ومعترَفا به لا مسكوتا عنه من قِبل كلّ البُنى التي تشكّل مجتمعنا. وهو أيضا ما دفعنا الى الأمل لا في ظهور مخلّص بل في نقلة كمية في وعي شرائح واسعة من أبناء شعبنا، لعَلّ انطلاق مسار 25 جويلية يدفعها خطوة أخرى في طريق التنظم من أجل مصالحها. هذا الأمل بدأ في الخفوت تدريجيا لسببين رئيسيّين:
- تم حصر المسار في شخص المخلّص قيس سعيد. وقد تم تأكيد هذه الفكرة مرارا وتكرارا عبر العنف الرمزي الذي تحدّث عنه بورديو. وقد استعمُلت لذلك كل أدوات الهيمنة الثقافية للنظام. (بعض الرفاق مشكورون أيضا على اسهاماتهم الشغوفة غير المؤثرة في هذا الاتجاه).
- مرة أخرى لم تكن هنالك أيّ جهة مستعدة للاستثمار والبناء على حدث من هذا النوع، لا سياسيا ولا تنظيميا.
وهكذا وجدنا أنفسنا
في مسار يُغتال فيه العقل الجمعي ليوم 24 جويلية ليحلَّ مكانه عقلٌ جمعيّ آخر مهيمَن
عليه بنفس الوسائل ومن قِبل نفس المؤسسات، وبخطاب جديد شكليا لكن دون مضامين
جديدة.
قد يجيبنا هنا
البعض بأنّ مسار قيس سعيد حمل وعودا بتغيير شكل السلطة السياسية ومؤسساتها ممّا
يسمح لنا بعمليات اختراق قد تساعدنا في حرب المواقع مع النظام.
الاجابة على هذا
أنها كانت وعودا فقط لكن مقترح الدستور الجديد يحمل مؤشرات خطيرة فيما يتعلق بهذه
المسألة. فمن الصحيح أن هنالك مجلسا جديدا للأقاليم والجهات قد يُستحدث في
المستقبل، لكن الفصول التي تجعل من رئيس الجمهورية هو مرجع النظر الأكبر وزنا في
مؤسسات الدولة تنسف أي إمكان للتحريض والدعاية لبرامج عبر مؤسّسة من هذا النوع.
وان تعمقنا أكثر في النقاش قد يقول أصحابنا هؤلاء أنّ ضمان دور المؤسسات الشعبية الجديدة هو النزعة الايطيقية لدى قيس سعيد. هنا تحديدا ندخل في منطقة أقرب للرجم بالغيب، والثوريون لا يبنون تكتيكاتهم على النوايا الطيبة طبعا. ولكن حتى هذه الحجة قد تسقط مباشرة لو رأينا مجموعة من الأحداث المرتبطة بهذا الشخص، مثل اختياراته للمسؤولين (المشيشي، نادية عكاشة والخ) أو تعامله مع كاتبي دستوره الذين ألقي بعملهم في ملحق جريدة الصباح. والأهم من ذلك: هل وضع أصحابنا فرضية ما بعد قيس سعيد؟ انتخاب رئيس آخر مثلا أو فنائه البيولوجي ببساطة؟ الفرضية الأخرى المرتبطة بشخص قيس سعيد الضامن للمشروع لدى أصحابنا تتمثّل في بقائه على رأس هرم السلطة لفترة أطول من مدتين انتخابيتين، وهو ما يعني أنّ الرجل لا علاقة له ايطيقيًا بما يعبّر عنه من مبادئ قائمة على طقوس عبادة القانون وقيم المواطنة، كما يراها هو.
إنّنا نريد من
رفاقنا المساندين، دون نقد في اغلب الأحيان، أن يستوعبوا أنهم قد ربطوا مصير
رؤيتهم لمجتمع أجمل بمشروع لا أفق له الا الرضوخ للفساد والاستبداد والتبعية
والعمالة أو العودة الى الأنظمة ذات التوجه الوطني على شاكلة عبد الناصر وصدام
حسين وحافظ الاسد. ونحن نعرف ما انتجت تلك الأنظمة حين عمّها الفساد، مع مراعاة
الفوارق الكمية بينها. ونعرف أكثر من ذلك أثرها على الحركات التحررية الحقيقية في
الوطن العربي، وكيف وُئدَت وأُجهضَت كل المجهودات للبناء تحت وطأة عبادة الفرد
وفساد الحاشية والشعوذة السياسية المعمَّمة.
انّ الموقف من
مسار 25 جويلية يجب ألّا يتجاوز فكرة كونه ساعدَنا عبر خلقه لتناقضات جديدة داخل
النظام. هذه التناقضات تمثل لنا متنفسا من سطوة الرجعيين خلال ما أسموه انتقالا
ديمقراطيا. لم يكن من المفترض أن نعتنق مسار 25 جويلية كما لم يكن من المفترض رفضه
بطريقة بافلوفية. كان من المفترض أن نتنفس الصعداء ونضع برنامجا جديا للعمل الثوري
بشروط نضال أفضل. والفرصة لذلك مازالت موجودة لحدّ اللحظة.
إنّ الجدل حول
الدستور لا يمثّل الّا فصلا جديدا لنقاش هذه الفكرة تحديدا. فهذا الدستور ليس سوى
عقد قانوني يتغير إن تغيرت موازين القوى. وعلى هذا الأساس فإننا نرفض انحراف
النقاش الى مستوى قانوني يجعلنا في مشهد طالب قانون فاشل يرى وجوده مرتبطا
بالقوانين حصرا، فقط لأنه يمكن له الثرثرة في هذا المجال أكثر من غيره. اننا نريد أن
نناقش موازين القوى التي أنتجت هذا الدستور وطبعا طرق تغيير معادلاتها.
أمّا بالنسبة
للاستفتاء فإننا لا نرى الدعاية من أجل مقاطعته أو المشاركة فيه أمرا مجديا.
إنّ أحد أهم
الدروس التي يمكن استخراجها بعد سنوات من انتفاضة 2011 هو أن الموقف السياسي سلاح
مهم. وهو يراكم دائما لمصلحة الجهة التي تعبّر عن نفس الموقف الأقدر على الدعاية،
ويعود عليها بالمنفعة. فإن دعونا الى المقاطعة فلن يستفيد من ذلك الا دعاة
المقاطعة الجدد من حثالة "مواطنين ضد الانقلاب" وجثث سياسية أخرى على
غرار نجيب الشابي وغيره. أمّا إن دعونا الى المشاركة فسنُساهم في زرع الوهم وفي
تبرير استعمال أدوات الهيمنة التي يستعملها النظام الآن.
على هذا الأساس فإننا ندعو الى نقل الجهود والتفكير الى مجال آخر يقوم على الثنائية التالية: كيف نفهم التغيرات التي نشهدها الآن وماهي الخطة السياسية والتنظيمية التي تجعلنا قادرين على الفعل والتأثير في المستقبل القريب خارج التموقع مع أجنحة النظام؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق