يتقدّم التاريخ ببطء نحو منتصف القرن الواحد والعشرين. يتقدّم في خضم تواصل الجوع والمرض والحروب. حيث غابت هذه الآفات حضر الاضطهاد والاغتراب والإحباط. يهدّد الانهيار البيئي الموعود بتعميق وتوسيع الكارثة. يتواصل مع هذا الوضع بصفة طبيعية رفضه الذي يحمل إمكانية تجاوزه ويعبّر عن نفسه في الصراعات الاجتماعية القائمة عالميا. صراعاتٌ لم تتوقف أبدا في الحقيقة رغم ما ادّعته الأوهام الإيديولوجية كـ " نهاية التاريخ". يتواصل في نفس الوقت ضعف الحركة الماركسية، وهي الوحيدة التي قدرت، رغم نقائصها وتشوهاتها وأخطائها، على تشكيل تحدٍّ وبديلِ كلي للرأسمالية.
أدّى هذا الحال إلى جوابين (على الأقل). يقول الأوّل أنّ التاريخ ككل، وبالخصوص في جانبيه المعرفي والسياسي، تجاوز الماركسية أو أنه أثبَت على الأقل خطأها وفشلها. يعني ذلك أنّ تقدّم التغيير الاجتماعي نحو الإجابة على مشاكل الإنسانية والاستجابة لحاجياتها يستدعي مقاربة نظرية وسياسية جديدة. دون الدخول في الجدال مع هذه الأطروحة سنكتفي هنا بملاحظة فشل وعجز وانهزام بعض هذه المقاربات الجديدة الأكثر رواجا. لكن يمكن الاعتراض أنّ هذا الفشل مؤقت وأن خلاصة جديدة يمكن أن تنتج عن هذه التجارب وتنجح في تحقيق المهمة. تقول وجهة النظر الثانية أنّ الماركسية مازالت قائمة وراهنية في أسسها، وأنها تعاني من انحرافات يكفي تعديلها لقيادة الحركة الاجتماعية المناهضة للرأسمالية نحو الانتصار. لا يطرح هذا النص الدخول في هذا الجدال (وهو جدال مشروع ومهم رغم غياب ممثلين جديين لهذه المدارس الفكرية المختلفة في تونس والعالم العربي). يتبنى إذن هذا النص وجهة النظر الثانية وينطلق منها، ولا يدخل الدفاع عنها ضمن نطاقه. إنه مساهمة أولى موجزة ومتواضعة من المجموعة الماركسية الثورية في تحديد هذه الانحرافات والأخطاء التي تعاني منها الحركة الماركسية.
السياق
تمثل تونس نموذجا جيدا لبلورة صورة ملموسة عن عديد المسائل. إذ يعاني شعبها شتى أنواع المشاكل الاجتماعية. شهدت انتفاضة ثورية وصراعا اجتماعيا شديدا طيلة عشر سنوات. وفي نفس الوقت ظلت الحركة الماركسية فيها دون تأثير يذكر.
يمكن أن يساعد تذكير سريع بالسياق التاريخي العربي والعالمي في فهمٍ
أفضل للتطوّرات المحلية. انتهى القرن العشرون بانهيار الاتحاد السوفياتي. لا يمكن
تجاهل التداعيات النفسية لهذا الحدث الذي يصحّ توصيف أثره بالصدمة. وقد كان لها
طبعا آثار سياسية ونظرية جسيمة على جل الحركات الشيوعية في العالم. عربياً، انتهت
مختلف التجارب اليسارية التي وصلت الحكم أو بقيت في المعارضة، بتنويعاتها
الماركسية الثورية (اليمن الجنوبي، ظفار، فلسطين المحتلة، المغرب الأقصى) أو الاصلاحية
الاشتراكية (العراق ولبنان) أو القومية (مصر، ليبيا، الجزائر)، إلى الفشل لأسباب
مختلفة. انحصرت بعض التجارب الوطنية-الشعبية، ولو رفعت لواء الاشتراكية، في أمريكا
اللاتينية (ما سُمِيَ بالموجة الوردية) في أفق ضيق. ولم تحقق بعض القوى الشيوعية
المقاومة في آسيا مثلا اختراقات كبيرة. زاد "انفتاح" الصين على
الرأسمالية و"نجاحها" وتعمق عزلة كوبا مثلا في انخفاض معنويات وقدرات
الحركة الماركسية. لكن بعد أكثر من عشرية من الإحباط وهيمنة خطاب نهاية التاريخ،
أحيَت الأزمة المالية سنة 2008 الحركة المناهضة للرأسمالية عموما. بينما شهد النقد
والنظرية الاقتصادية الماركسيين انتعاشة، بقيت الأحزاب "الشيوعية"
التقليدية في حالة عجز تام. كما لم تحقق أية تنظيمات ماركسية جديدة نجاحات تذكر.
طالت في تونس المعركة مع الاستبداد السياسي. فتصدّرت مسألة الحريات السياسية الأولويات. بقيت التنظيمات والتيارات الماركسية منفصلة نسبيا عن هذه التطورات العالمية. حيث أدّى ارتباطها النظري والسياسي بالتجربة السوفياتية وسقوط "الاشتراكية العلمية" إلى ردّات فعل مرضية مختلفة ستكشف عنها لاحقا الثورة. بين التشبث الدوغمائي بكلّ مقولاتها، في نوع من حالة الإنكار كآخر خطوط الدفاع النفسية، والتصفية التامة للماركسية طغى عموما نوعٌ من التعويم داخل محلولٍ واسع يسمى باليسار أو حتى بـ "الحركة الديمقراطية". انفصلت الإيديولوجيا المجمَّدة عن الواقع المادي، وفي نفس الوقت عن الممارسة والخطاب السياسي. شهدت نفس الفترة على المستوى الاقتصادي تقدم النيوليبرالية واتفاقيات التجارة الحرّة وهجمة التعديلات الهيكلية. لم تكن تونس طبعا بمعزل عن هذا المسار الجديد للرأسمالية العالمية. فشهدت مثل غيرها – خصوصا من البلدان التابعة – تحولات اجتماعية واقتصادية هامة.
انهار الاقتصاد المنتج والمنظَم لصالح الأنشطة الطفيلية والكمبرادورية تحت وطأة اتفاقيات التجارة الحرة (الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي الذي هشّم الصناعة مثلا) وتراجع استثمار الدولة في الإنتاج. تراجعت كذلك الخدمات الاجتماعية، انضباطا لمتطلبات "التوازنات المالية الكبرى"، أي سياسة التقشف. توَّجَت هذه السياسات تونس بمقام التلميذ النجيب للنيوليبرالية العالمية، حسب كلام أحد رؤساء البنك الدولي. تكلف هذا "الانجاز" انتشار البطالة والعمل الهشّ واتساع وتعميق التهميش الاجتماعي بمختلف أبعاده. كانت انتفاضة الحوض المنجمي التي تزامنت تقريبا مع الأزمة المالية العالمية مؤشرا مهما عن هذا التطور الاجتماعي.
الثورة
سعى نظام بن علي بأقصى جهد إلى الحفاظ على التوازنات المالية وامتيازات الطبقات الوسطى، المتركزة في كبرى المدن الساحلية، وإلى ابطاء وتيرة تقهقرها الاقتصادي نتيجة تبعات الأزمة العالمية على حساب المهمشين في الجهات الداخلية والأحياء الشعبية. انطلقت الثورة تحديدا من هذه القطاعات الاجتماعية والجغرافية. اشتعل فتيلها من المناطق الداخلية تحديدا من سيدي بوزيد ثم تالة وانتشر حتى بلغ كبرى المدن الساحلية والعاصمة تونس وخصوصا أحياءها الشعبية قبل أن تتكثف سياسيا في شارع الحبيب بورقيبة أمام وزارة الداخلية.
لا شك في أنّ اليسار (نقابيين وقوميبن وماركسيين وديمقراطيين إصلاحيين)
قاد وأطّر الاحتجاجات المنظمة في مراكز المدن. فـ "شغل، حرية، كرامة
وطنية"، الذي أصبح شعار الثورة، هو شعارٌ يساري بامتياز. على عكس ذلك، كانت
هذه التشكيلات – وخصوصا الماركسيون، المعنيون الأوائل بالصراع الطبقي والثورة –
غائبة عن الأحياء الشعبية والمعتمديات الداخلية الأكثر تهميشا ونضالا. شهدت هذه
الفضاءات الاجتماعية الجغرافية أشرس الصراعات والاشتباكات مع أجهزة الدولة ومهاجمة
مقراتها.
يعود ذلك أساسا إلى انعزال الماركسيين داخل الجامعة واتحاد الشغل. دون نسيان ظروف العمل السياسي الصعبة تحت الدكتاتورية، يمكن تفسير ذلك بالأخطاء النظرية والعلاقات الاجتماعية. يمكن تلخيص الأولى في نوع من الدوغمائية العمالوية، تجعل من جهة اتحاد الشغل الفضاء الأساسي للعمل السياسي والمدخل نحو المشاركة في الصراع الطبقي (بفهمه التقليدي: رأسمال-عمل)، وتعتبر من جهة أخرى المهمشين بروليتاريا رثة. في الحقيقة، يتركز التأثير السياسي والقيادة داخل اتحاد الشغل نفسه في قطاعات الطبقات الوسطى المرتبطة بالقطاع العام، وخصوصا منه التعليم. ما جعله، مثلا وليس حصرا، يساهم في اخماد الاحتجاجات العمالية في القطاع الخاص ويطعن النقابيين المناضلين في الظهر ويهمشهم. بينما تدافع بيروقراطيته بشراسة على الريع الذي تستخرجه من القطاع العام.
يبدو أن المشكلة الاجتماعية هي الأعمق. مَنَع تاريخ البلاد تشكل حركة بروليتارية مستقلة عن الدولة. اتحاد الشغل مثلا جزء لا يتجزأ من الحركة الوطنية، ومن دولة "الاستقلال" البورقيبية. فبقيت التنظيمات الماركسية عموما إيديولوجية وسكتارية، أي منفصلة عن الطبقات الشعبية. في نفس الوقت، أدّت الظروف السياسية والصراع ضد الاستبداد إلى انحلال الحركة الماركسية داخل جسم يسمى باليسار (إلى درجة أنّ البعض يرى أنّ اليسار والماركسية نفس الشيء) أو حتى بالحركة الديمقراطية أو التقدمية، وكمجرد تنويعة من تنويعاتها. انقلبت المقولة الماركسية عن "قيادة البروليتاريا للنضال الديمقراطي" إلى نضال ديمقراطي دون حركة بروليتارية.
كان للارتباط الاجتماعي العضوي للماركسيين بهذه الأوساط الاجتماعية والسياسية للطبقات الوسطى والبرجوازية-الصغيرة أثرٌ جسيم في خطابهم وشعاراتهم وبرامجهم - وعلى ممارستهم السياسية عموما. إذ تشكلت لديهم روح نخبوية أدّت إلى انحراف إصلاحي دولتي. بدل المبادرة والدفع نحو تشكيل مؤسسات شعبية (مجالس أحياء شعبية، كومونات محلية، لجان حماية ثورة قبل أن تشكلها الرجعية...) بقيادتهم أو تحت تأثيرهم والدفع نحو إسقاط مؤسسات الدولة ومزيد تقدم الثورة، ذهب الماركسيون نحو التسويات مع وسطهم الاجتماعي السياسي "الطبيعي": الحركة الديمقراطية، أي النخب البرجوازية-الصغيرة الحداثية. أدّى ذلك إلى المناداة بانتخابات مجلس تأسيسي... وإلى إخماد الثورة.
مسار موت الثورة
في تلك الانتخابات، غمَرت الأغلبية الانتخابية المحافظة (الطبقات المحافظة هي الأكثر ميلا للمشاركة في الانتخابات – نتحدث طبعا عن المحافظة السياسية والاجتماعية، لا الثقافية) الأقلية الثورية (لا نتحدث هنا عن المناضلين، بل عن الجماهير التي كانت في الصفوف الأمامية للاحتجاجات والصراعات الثورية) والطبقات الاجتماعية التي تمثلها وحلفائها. صوتت الطبقات الوسطى المحافظة للنهضة والشرائح الحداثية منها للأحزاب البرجوازية والبرجوازية-الصغيرة التي تحالف معها الماركسيون أثناء الثورة. نفس النزعة النخبوية تجسدت في تبني خطاب ثقافي حداثي وفي التخلي عن خطاب الصراع الطبقي. أدى ذلك إلى خسارة الطبقات الشعبية (المساندة للثورة) لصالح الإسلاميين. إذ اكتسب خطابهم بعدًا، أو على الأقل مظهرًا، شعبياً بفضل تناقض هؤلاء مع الثقافة الحداثية السائدة عند النخب وقربهم من الثقافة الشعبية. هذا دون إغفال السياقين العالمي والإقليمي: انهيار الأحزاب الشيوعية وأمميتها وارتباطات الإخوان المسلمين بالإمبريالية والمحاور الإقليمية، التي تمكنهم من دعم يتمثل أساسًا في موارد مالية كبيرة.
مكن ذلك الإسلاميين من الإخوان والحركة السلفية من بناء قوّة ثنائية. إذ بالإضافة إلى سلطتهم داخل الدولة اكتسبوا كذلك سلطة وتأثيرا داخل المجتمع، وتحديدا ضمن الطبقات الشعبية. تكاد المفارقة أن تكون طريفة إن لم تكن مأساوية. فقد رأينا الماركسيين يدافعون عن "الدولة" ووحدتها إلى جانب "الحدَثوت". لكن الأوان ليكون الماركسيون ماركسيين كان قد فات. إذ يبدو أنّ وطأة الصدمات والسياق العالمي كانت ثقيلة عليهم إلى درجة أنهم لم يعودوا هم أنفسهم مؤمنين بنظرياتهم.
في نفس الفترة، طرح الإسلاميون المسألة الثقافية في قلب الصراع السياسي. نظرا لارتباطاتهم الاجتماعية والسياسية اعتمد الماركسيون استراتيجة انتهازية (لا بالمعنى الأخلاقي المتداول، بل بمعنى تصفية النظرية لتحقيق "مكاسب" سياسية مفترضة). يبدو أيضا أنّ تأثير اليسار الفرنسي (لأسباب تاريخية ولغوية بديهية) وتبني مفهومه للعلمانية قد ساهما أيضًا في اتخاذ التوجه التالي: في ظل غياب (سيتبين أنه مؤقت جدا) لليمين الحداثي – بعد حلّ حزب التجمع – ذهب الماركسيون (عن وعي أو غير وعي) في استراتيجية تطرح خلق "استقطاب ثنائي" بين الإسلاميين واليسار، أو "الحركة الديمقراطية". تصور هذا اليسار (بماركسييه) أنه قادر على قيادة هذا القطب وتجميع كلّ أعداء النهضة ومشروعها حوله. صفّى هذا التمشي الانتهازي الصراع الطبقي (نذكِر بأنّ سياسة صراع طبقي ماركسية لا تعني مجرّد تبني جملة من الإجراءات الاجتماعية والسيادية، بل العمل مع الجماهير الشعبية لبناء وحدتها ووعيها السياسي). اذ أنّ الطبقات الاجتماعية المعادية بنشاط لمشروع النهضة (الثقافي بالأساس) لم تكن الطبقات الشعبية. نتيجة هذه السياسة كانت المراكمة وتعبيد الطريق لصعود نداء تونس، وقد مثل التحالف معه نوعا من استمرارها الطبيعي وأعلى درجات الانتهازية - عندما تنقلب إلى حماقة. رغم الدور الذي لعبه نضالها وسقوط الشهيدين بلعيد والبراهمي في إخراج النهضة من الحكم، انحصرت مساندة الجبهة الشعبية في الطبقات الوسطى التقدمية، وخصوصا في شبيبتها.
لم يتغير شيء بعد انتخابات 2014. ولعلّ تحسن نتائج "اليسار"، مقارنة بانتخابات المجلس التأسيسي، قد منع أيّ نقاش أو مراجعات جدية. إذ يبدو أنّ الماركسيين، بذوبانهم داخل هذا اليسار، قد صفوا تماما النظرية الثورية. لم تعد المشاركة في الانتخابات والبرلمانات تكتيكا يستعمل هذه المنصات للدعاية بأفق القطيعة الثورية معها. بل يبدو أن الماركسيين أنفسهم وقعوا تحت وطأة إيديولوجيا نهاية التاريخ المهيمنة. ومهما اتسمت كتاباتهم بالدوغمائية، لم يمنعهم ذلك من تصفية مركزية الصراع الطبقي واستكمال التحرر الوطني وفكرتيْ الثورة ودكتاتورية البروليتاريا. يجب الاعتراف أنّ الأمر غريب بعض الشيء في بلاد ومنطقة تعيشان صراعا طبقيا ثوريا كبيرا.
ربما يجدر هنا الاهتمام أيضا بالتشكيلات الماركسية التي بقيت خارج الجبهة الشعبية أو قامت بقطيعة معها لسبب أو لآخر. يجب الإقرار أولا بانعدام نتائجها السياسية. إذ لم نرَ امتدادا جماهيريًا، ولو جهويا أو قطاعيا، لهذه التشكيلات. ولا حتى على مستوى الإشعاع الفكري والنظري، فلم نر مثلا صعود أحد عناوينها أو أفكارها بعد انهيار الجبهة الشعبية. طبعا يجب أخذ تشكل الجبهة نفسه بعين الاعتبار. فقد خلق حماسا وأملا لدى المناضلين الماركسيين (واليساريين عموما)، وكانت قياداتها قد راكمت رمزية جعلتها تحتكر تمثيلية الماركسيين و"اليسار" عموما. لا شك في أنّ ذلك قد صعّب المأمورية أمام تلك التشكيلات. لكن يجب القول بصراحة أنّ القطيعة بينها وبين اليسار السائد لم تكن اجتماعية ونظرية وسياسية، بل أساسا أخلاقية. إذ لم يكن فهمها للصراع الطبقي أفضل. أما تشبثها بالخيار الثوري فقد كان نابعاً عموما من منطلقات دوغمائية، ولذلك بقي مجرّدًا غير قابل للتصريف في واقع الصراع الطبقي ولا المراكمة السياسية. نفس الوصف يصحّ بشأن موقفها من الانتخابات والبرلمان والعمل السرّي. حيث اعْتُبِر دخول البرلمان نوعا من الكفر وكانت هناك مبالغة في الطابع السري. يصير هذا التمشي أكثر غرابة عندما نعلم تشبث كل هذه التنظيمات باللينينية وتناقض هذا السلوك مع تعاليم لينين وروح أفكاره وممارسته. يفسر هذا التمشي أيضا جانبا كبيرا من انحسار هذه التنظيمات وعجزها عن التأثير الجماهيري والمساهمة في الصراع الطبقي والتطور معه.
بعد دخول البلاد، والمنطقة العربية، في دوامة الإرهاب وصعود اليمين الحداثي في 2014، ثم تحالفه مع حزب النهضة، يمكن القول أن الثورة انتهت وأنّ الدولة والبرجوازية قد أعادتا ترتيب أوضاعهما. في نفس الوقت راكم الماركسيون، واليسار الذي انخرطوا فيه، الأخطاء وصاروا في موقع سيء للتأثير في الصراع الطبقي، ناهيك عن قيادته. قرّرت السلطة الجديدة إعادة بسط هيمنة الدولة والحسم النهائي في مسألة الإرهاب والحركة السلفية التي بدأ مشروعها، الموظَّف امبريالياً، في نفس الوقت في الانهزام على مستوى كامل المنطقة. في ظل اعتبارهم سكان المناطق والأحياء المهمشة بروليتاريا رثة لم يطرح الماركسيون على أنفسهم استرجاعها بعد تراجع تأثير الإسلاميين عمومًا (تصفية السلفية بوليسيا وتراجع شعبية الإخوان). أدى ذلك إلى انحصار فعلهم السياسي في ميدان الاستعراض في البرلمان والجامعة.
رغم استرداد الدولة لصلابتها ووحدتها، صار الصراع الاجتماعي عارياً واتضح مضمونه الطبقي رغم تراجع طابعه السياسي وأفقه الثوري المباشر. إلى جانب الاحتجاجات الشتوية، التي أصبحت شبه اعتيادية، تكاد لا تتوقف الاحتجاجات طيلة السنة في مختلف المناطق وعلى شتى القضايا. لكنّ الماركسيين كانوا قد تخلوا عن الصراع الطبقي وعن تمثيل الطبقات الشعبية سياسيا. ولعلّ الموقف من اعتصام الكامور والاصطفاف إلى جانب الدولة و"وحدتها" مثال نموذجي على ذلك.
بانتهاء الصراع الثقافي بين "الإسلام" و"الحداثة"، وفي غياب ممارسة وخطاب سياسيين للصراع الطبقي والوطني صعد خطاب مكافحة الفساد. في ظل غياب برنامج ماركسي راهني تذيل اليسار لهذا الخطاب البرجوازي-الصغير الهلامي الديماغوجي. وذلك في نفس الوقت الذي يندّد فيه بشدة بـ "الشعبوية". إلا أن السبب الأعمق يعود لاحتقارٍ نخبوي للجماهير الشعبية. اذ يعتبر هذا اليسار أنّ الشعب غير قادر على فهم مشاكله. فبدل الرفع من مستوى الوعي والخطاب سقط في المناكفات البرلمانية الفارغة. وبدل التركيز على مواضيع مثل السياسات المالية والجبائية والصناعية والفلاحية والتجارية والخارجية، وخوض حملات حولها ومن أجل التعويض عن البطالة والتغطية الاجتماعية الشاملة مثلا، دخل بانتهازية في المزايدة حول الفساد. وعوض أن يستعمل البرلمان كمنبر للدعاية بهدف تطوير الوعي السياسي الشعبي انخرط في تبادل تهم الفساد. ساهمت هذه العملية في تشكيل قناعة شعبية بأنّ كلّ "السياسيين" متماثلون وفاسدون. ما كان ذلك ممكنا دون مساهمة نشطة من الإعلام "المحايد"، الذي ما انفكّ يروج لمقولات فشل "الطبقة السياسية" أو "الأحزاب" أو "السياسيين" ككل. وهو نفس الإعلام، يجب التذكير، الذي دأب اليسار والماركسيون منذ الثورة على محاباته والتودّد إليه بدل فضح طابعه البرجوازي-الصغير وارتباطه العضوي بالبرجوازية التي تملكه. مجدّدا، لا شك في أنّ الانتماء الاجتماعي المشترك محدّد أساسي في هذا الأمر. وليس المقصود هنا المصلحة الاقتصادية، بقدر ما هو ارتياد نفس الفضاءات الاجتماعية والتواجد في نفس شبكة العلاقات وحمل نفس القيم والثقافة وانتهاج نفس أشكال العيش.
مرّت أكثر من عشر سنوات. تدهورت فيها ظروف عيش أغلب الناس. بعد انهزام الحركة السلفية ومشروع الإخوان (إذا افترضنا أن النهضة كانت مؤمنة به وحاولت تطبيقه فعلا) هيمن خلالها استعراض نهاية التاريخ في صيغته التونسية: زمن "الإيديولوجيا" انتهى، "الشعب لا يريد الإيديولوجيا"، حتى صار لا يريدها فعلا، "الشعب سئم الخلافات السياسية والأحزاب" حتى نبذها فعلا، "الحلّ الوحيد في مكافحة الفساد لجلب الاستثمارات الأجنبية"، "لا خيار آخر".
نهاية حقبة، بداية حقبة؟
إنها لمفارقة طريفة أنّ هذه النخب السياسية والإعلامية والجمعياتية التي تندّد اليوم بأقصى قوتها بـ "شعبوية" قيس سعيد هي نفسها التي عبّدت الطريق لصعوده. بدل الجدال وتخيير الشعب ديمقراطيا حول المواضيع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسيادية الكبرى ثابرت هذه النخب على تهميشه والحطّ من وعيه السياسي. سلّمت السيادة على هذه الخيارات الكبرى لـ "الخبراء" و"الكفاءات"، أي للإداريين والتكنوقراط النيوليبراليين الذين لا يعرفون غير الإدارة اليومية للوضع القائم، ما يعني إعادة إنتاجه ضمن الشروط الإيديولوجية والسياسية للإمبريالية. وفي نفس الوقت، وقع اختزال الفعل السياسي، وبالتالي مفهوم السياسة، في المناورات والتسويات والتموقعات خارج أي تصورات وأفكار ومحتويات وأهداف برنامجية... حتى صار الشعب يعبر عن كرهه لـ "السياسة" و"السياسيين".
لم يكن ذلك ممكنا دون دور نشيط للإعلام. باعتباره أن "الإيديولوجيا" انتهت، طرح هذا الأخير كلّ المشاكل كمشاكل "كفاءة" و"فساد". بتراشقهم الانتهازي باتهامات الفساد، أقنع الممثلون السياسيون الناس أنهم جميعاً فاسدون. قناعة زادت في ترسيخها التحقيقات "الاستقصائية" والفضائح المثيرة التي يفضلها إعلام السوق والإشهار (أي إعلام رأس المال) على نقاش المسائل البنيوية. باسم الحياد كرّر الإعلام أن "الأحزاب" فشلت، أن "السياسيين" فشلوا. فطبعا ليست النهضة ونداء تونس من فشلوا، لا اليمين أو النيوليبرالية من فشل في تحسين أوضاع البلاد! فلا وجود ليمين ويسار! لا وجود لطبقات اجتماعية - "لا لتقسيم التونسيين"! إنه لمن المضحك بعدئذ أن تتباكى اليوم هذه النخب المتهافتة لأن قيس سعيد لا يريد التعامل معها كإعلام وأحزاب.
يأتي انتخاب قيس سعيد كتتويج لهذا السياق. إنه النقيض الوحيد الذي قدرت النيوليبرالية على خلقه من داخلها. يحمل قيس سعيد الإجابة على كلّ المشاكل التي طرحتها النيوليبرالية وأعوانها على أنفسهم وعلى الناس. أستاذ قانون دستوري كفؤ لا ينتمي ولم ينتم يوما لأيّ حزب، ويعتبر أنّ زمن الأحزاب قد ولى. هو ليس "رجل سياسة" أصلا. تتسم تصرفاته وخطاباته بطهرانية مبالَغة تجعله نموذجا من الاستقامة ونقيضا لـ "الفساد". بهذه المواصفات، هو يمثل الحلّ المشخصَن لكلّ المشاكل التي طرحتها النخب المشرفة على إنتاج الاستعراض القائم. لكن لا يجب أن نستغرب عداءها له، فهو لا يشبهها من بعض الجوانب. إذ أنه يحتسي قهوته في مقاه شعبية ويتحدّث العربية، عكس النخب الفرنكوفونية المتعالية على ثقافة الطبقات الشعبية، ويعتبر أنّ الشعب يعرف ما يريد وليس "ناقص وعي" ويتحدّث عن ثورة 17 ديسمبر (لا 14 جانفي). مثّل انتخاب قيس سعيد قبل ثلاث سنوات صرخة ساخطة من الطبقات الشعبية في وجه منظومة "الانتقال الديمقراطي" (نحو المزيد من التفقير والتبعية). إلا أن أداء الرجل خلال الفترة المنقضية يؤكد كل يوم أنه "المسخ" الذي أفرزته الرأسمالية النيوليبرالية في تونس من داخلها، في ظل تغيب عدوّها الطبيعي: الحركة الماركسية.
مثّل انتخاب قيس سعيد آخر فعل يحمل روح الثورة وآخر آمال التغيير. يتبين ذلك في القطاعات الاجتماعية التي ساندته واحتفلت بفوزه. ولعلّ أبلغ تمظهر لذلك كان في حملات النظافة التي عبّرت رمزيا عن استرجاع الشعب لسيادته على الفضاء العام، وعلى دولة يعتبرها غريبة عنه، بوضعه واحدا من أبنائه في أعلى مناصبها. طبعا قليلون من اهتموا فعليا بـ "البناء القاعدي" ما عدا ربما لكونه معاد للأحزاب و"الساسة" ويعطي سلطة أكبر للرئيس النظيف. انتُخِب قيس سعيد لكونه قيس سعيد، أي كتتويج لمسار انحدار الوعي السياسي وهيمنة النزعة الأخلاقوية والتكنوقراطية، وحتى بدافع الحنين لصورة "الأب العادل". لا يمكن أن نخطئ إذا قلنا أنّ مجموعة قوى تونس الحرة لو طرحت نفس البرنامج على الشعب التونسي، من دون قيس سعيد، لوقع اعتبار أعضائها مجموعة من الطوباويين. وقد ظلت هذه الحركة بالفعل مجهولة تماما طيلة قرابة عشر سنوات إلى حدود فوز قيس سعيد في الدور الأول من رئاسيات 2019.
بقيَ قيس سعيد طيلة سنتين عاجزا لافتقاده أية صلاحيات. شهدت هذه الفترة أعلى مستويات التعفن والتفكك السياسي، ولعل أهم تمظهراتها كان التهريج البرلماني الذي قاداه عبير موسي وائتلاف الكرامة. زاد فيروس كورونا وما سببه من انهيار اقتصادي في تعكير الأوضاع. أدّت الإجراءات الصحية وآثارها الاجتماعية والنفسية إلى حالة سخط شعبية أصبحت تتكثف عند مختلف الطبقات والحساسيات في قناعة: "هذا البلد لم يعد صالحا للحياة".
يوم خمس وعشرين جويلية خرجت احتجاجات قادتها الطبقات الوسطى والبرجوازية-الصغيرة. طالبت أساسا بحلّ البرلمان الذي نجح في تكثيف كلّ مشاعر الغبن فيه. رغم ضعفها نسبياً تذرّع بها الرئيس لتجميد البرلمان، ثمّ حلّه، وافتكاك السلطتين التشريعية والتنفيذية. قوبلت هذه الاجراءات بإجماع شعبي في جوّ من الوفاق الطبقي والفرحة الاستعراضية الخاوية (من أي محتوى سياسي خصوصا). تعكس الاختلافات في تقييم هذا الحدث، على أهميته، واستتباعاته على المدى القصير، في نفس الوقت نوعا من الوحدة: مواصلة الجري وراء الأحداث وتجاهل الماركسية. فلا حزب العمال قادر على قيادة "المقاومة" ضد "بنوشي تونس"(!)، وهي حركة برجوازية -صغيرة بامتياز. ولا الأطراف المساندة لقيس سعيد قادرة على الاستفادة من تذيلها له، وهو ليس خيارا، في ظلّ افتقادها للانغراس الشعبي والتصور الثوري البديل، وهما أمران مرتبطان ببعض.
يهيمن على البلاد جوّ من اليأس، ويغلب على الطبقات الشعبية وعيٌ رجعيّ،
تشكل طيلة عشر سنوات، ينبذ مثلا المشاركة السياسية. سياق 25 جويلية لم يكن سياقاً مناهضا
للإمبريالية ولا سياق تغيير اجتماعي جذري. اذ لم تطالب "حركة" 25 جويلية
ولا هبة المساندة الشعبية بذلك. لا نرى منذ ذلك الحين أيضا حماسا جارفاً لمثل
هذه التوجهات. قيس سعيد كمنتوج لهذا السياق لا يمكن أن يطرح هذا المشروع. يعني ذلك
مواصلة الانصياع للإمبريالية وتطبيق سياساتها النيوليبرالية (ربما بأكثر شدة
بتزايد تدهور الوضع المالي وضغط الإمبريالية)، وبالتالي حتمية تواصل المقاومة
الاجتماعية الشعبية، أي تواصل الصراع الطبقي. هذه هي نقطة انطلاق تشكيل حركة
ماركسية ثورية جديدة على أساس "صحيح"، أي بديهيا على أساس الصراع الطبقي
والوطني. إن المساهمة في الصراع الاجتماعي، والدفع لتسييسه واتخاذه بوصلة للفعل
السياسي، هي الطريق الوحيد لانتصاره. وهو كذلك الأمل الوحيد لمقاومة النزعات
الاستبدادية الصاعدة ضمن هذا المناخ الرجعي بقيادة جهاز البوليس وعبير موسي
وأشباهها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق