"كانت اضطرابات صغيرة لتمكِّن بذريعة الأمن العام من حل المجلس التأسيسي وخرق الدستور لمصلحة الدستور نفسه... لُعبت المهزلة. وكان المجلس التأسيسي نفسه قد قرر أن خرق حرف الدستور ، هو التنفيذ الوحيد المطابق لروحه... رغم كل تجارب المجلس التأسيسي، ألم يفهم... بعدُ أنّ تمثّل الدستور لا يعود لمن كتبوه بل فقط حتى الآن لمن قبلوا به؟ أنْ وجب تمثّل حرفه في معناه الحي وأنّ معناه البرجوازي كان معناه الحي الوحيد؟". ماركس - الصراعات الطبقية في فرنسا.
طرأت على عملية التفكك السياسي التي انطلقت في البلاد (والعالم) منذ سنوات، قفزة نوعية في انتخابات 2019 ثم تواصلت بوتيرة مرتفعة منذ ذلك الحين لتبلغ أوجّها منذ انقلاب 25 جويلية. المقصود بالتفكك السياسي هو عجز التشكيلات السياسية من مؤسسات دولة ومن أحزاب على حفظ مصالح قطاعات اجتماعية واسعة ما جعل دورها يصبح محل سؤال ثم مجرد وجودها محل رفض.
لن تتحرج البرجوازية من الحكم دون الشعب ورغما عنه. فهي تملك الموارد الاقتصادية (المال) والإعلام والسلاح كما يمكنها التحالف مع جزء واسع من الطبقات الوسطى بقيادة البرجوازية-الصغيرة التقليدية (صغار الملاك والتجار...). أما البرجوازية-الصغيرة الحداثية فهي القاعدة الاجتماعية الأولى والأخيرة للبلاهة البرلمانية والأوهام الإرادوية والمعارك القانونية الدونكيشوتية.
يبدو نبذ الطبقات الشعبية للفعل السياسي الأشدّ والأكثر امتدادا: من المؤسسات السياسية للدولة مرورا بأحزاب المعارضة الرسمية إلى الأحزاب التي تدّعي أنها ثورية. في ظل هذا الوضع يمكن التساؤل: كيف يطرح ماركسيون إسقاط الإنقلاب أو الاستفتاء فيما يطرح آخرون "تجذير مسار 25 جويلية"؟
إن معارضة الانقلاب، بالإضافة إلى ضعفها الجماهيري حركة برجوازية-صغيرة بامتياز (بما في ذلك ما تبقى من جمهور حزب النهضة الذي ضعفت شعبيته)، ستذهب كل مراكمتها السياسية، إن لم تتبخر، إلى التشكيلات الليبرالية وعلى رأسها حزب التيار الديمقراطي. ومثلما لا يظن عاقل أن لحزب العمال وزن اجتماعي يساهم به في تعديل موازين القوى ضد قيس سعيد، لا يمكن لأي شخص جدي تَصَوُّر أن بمقدور شعار مناهضة الانقلاب والجبهة التي ترفعه التأثير على العمال (أو عموم الطبقات الشعبية) وكسبهم لصالح الحزب الذي يريد تمثيلهم. إن النتيجة الوحيدة هي مزيد إنهاك المناضلين الصادقين في معارك لا هم قادرون فعلا على المساهمة فيها ولا على الاستفادة منها.
أما من قرروا مساندة قيس سعيد فهم أكثر ضعفا لافتقادهم حتى لعنوان سياسي واضح وأداة تنظيمية (وللمراكمة الرمزية التاريخية التي تمكن حزب العمال مثلا من ولوج أسهل إلى وسائل الإعلام). إذ تأخذ ممارستهم شكلين: إما التقرب من الرئيس ومحيطه ومحاولة التموقع والتأثير عليهم أو الحملات الفايسبوكية التي لا تتجاوز نفس الحلقات الاجتماعية الضيقة بالنتائج التي نشهدها منذ عشر سنوات. في غياب ميزان قوى يمكّنهم من الضغط لا نرى كيف يمكنهم "تجذير المسار"، وهو مسار رجعي بالأساس. أما البرجوازية والإمبريالية فتملكان كل ما تحتاجان لفرض مصالحهما على سعيد.
ستفرض إذن موازين القوى تأويل أي دستور جديد مثلما فرضت أن يتيح الفصل 80 من دستور 2014 للرئيس حل البرلمان وفعل كل ما فعله خلال السنة المنقضية. لذلك فإن الدستور ومحتواه ليسا ذوا أهمية استراتيجية. لكنه يحمل مؤشرات على نزعات قيس سعيد. قانونيا، نصّب الأخير نفسه دكتاتورا، لا يمكن للشعب ولا لمؤسسات الدولة البرجوازية مساءلته. كما لم يطرح حتى إمكانية رفض الدستور ونحن نظن أنه على حق. إن تقدرينا لموازين القوى الاجتماعية-السياسية (ولا نظنه اختراقا معرفيا فريدا) يقول بأن الدستور سيمر لا محالة مع نسبة عزوف كبيرة خصوصا في صفوف الطبقات الشعبية (وسيكون الاستفتاء فرصة لتحيين وتعديل هذه التقديرات). ليس هذا العزوف مقاطعة نشيطة بل هو نتيجة للتفكك والاستقالة السياسيين، ما يجعل الدعوة للمقاطعة نوعا من خلع الأبواب المفتوحة. لكن الأهم من الدعوة هي الممارسة السياسية التي تترتب عنها. فمهما ارتفعت نسبة العزوف لا نعتقد أنها قادرة على إسقاط دستور سعيد وبالتالي حكمه لأنها غير قابلة للترجمة في حركة احتجاجية جماهيرية ضده بعد الاستفتاء هي شرط إسقاطه. إذا أزحنا إذن إمكانية (أو وهم) قيادة الماركسيين للجماهير وقدرتهم على إقناعها بإسقاط سعيد في الفترة الفاصلة عن 25 جويلية يبقى سؤال أخير: هل أن حملة مقاطعة يمكن أن تقرّب الماركسيين من الطبقات الشعبية وتمثل بذلك فعل مراكمة؟ تدفعنا حالة التراجع السياسي التي تعيشها هذه الطبقات للإجابة بالنفي.
بناء على ذلك وبالنظر لحالة التفكك السياسي للحركة الماركسية في البلاد، تستدعي المرحلة حسب رأينا التوقف عن التخبّط في الإرادوية والركض وراء أحداث لسنا قادرين على التأثير فيها والشروع بدل ذلك في مسار إعادة تأسيس شاملة، تنطلق من المهام الثلاثة التالية:
- نقاش نظري واستراتيجي
- عمل قاعدي ضمن الطبقات الشعبية ينطلق بالضرورة من
العمل الاجتماعي (عمل اتحاد القوى الشبابية في دوار هيشر مثالا) والثقافي،
يمكّن من الانغراس صلبها ومزيد فهمها ومن تطوير النظرية.
- الدعاية للأفكار والبدائل الاشتراكية في الأوساط
الشعبية بالأساس وعلى أوسع نطاق متى أمكن، خصوصا في علاقة بالأزمة
الاقتصادية، بدل رفع الشعارات التحريضية التي تنفر الجميع ولا تحرّض أحدا في سياق الإحباط السائد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق