العنصرية: منتوج إيديولوجي للإمبريالية

في سياق أزمة شاملة وممتدة يمرّ بها المجتمع التونسي، شرعت جماعة شوفينية تُدعى بالحزب القومي التونس  في الترويج لأكاذيب حول مؤامرة استيطانية وخطاب عنصري ضد المهاجرين السود. كعادته قام إعلام السوق والبرجوازية بتغذية هذا الخطاب وتضخيم الموضوع، طبعا بكل حياد، ليصبح بسرعة صاروخية مركز الاستعراض السائد. في إطار مناوراته لإنقاذ شعبيته المتراجعة ركب قيس سعيد الموجة بعقد مجلس أمن قومي حول المسألة (لم تقم بذلك حتى حكومة أقصى اليمين الإيطالية!). تبنّت فيه الدولة رسميا سردية المؤامرة الاستيطانية وأعلنت انطلاقها في سياسة قمع عنصري ممنهجة ستُوسّع من السيطرة البوليسية على المجتمع.

فهم مادّي للعنصرية

الّا أنّ المشكلة الحقيقية التي تواجه الماركسيين هي نجاح هذه القوى، على ما يبدو، في إقناع جماهير واسعة من الشعب بهذه السردية. فتصدرت مسألة المهاجرين السود حديث الساعة وانتشر الخطاب العنصري حولها على نطاق اجتماعي واسع بما في ذلك وسط الطبقات الشعبية.

أدانت الفئات التقدمية والأوساط اليسارية موقف الدولة والخطاب العنصري المتصاعد في موقف مشرف ليس بالغريب عن أصحابه. أنتجت في نفس الوقت حالة الاستياء خطابا جوهرانيا مضادا: "نحن شعب عنصري". هذا صحيح، لكنه خاطئ لأنه منقوص: كل شعوب العالم عنصرية. ليست العنصرية خصوصية تونسية ولا عربية ولا هي جوهر أو "طبيعة" إنسانية. كما أنها ليست مجرد فكرة خاطئة أو متخلفة تنمّ عن جهل يمكن إصلاحها فقط بالتعليم والإقناع. إنّ العنصرية متجذّرة في الأساس المادي للحداثة، أي في الرأسمالية العالمية.

انطلقت الرأسمالية استعمارية عنصرية وتطورت كذلك وستنتهي كذلك. من اكتشاف القارة الأمريكية وإبادة سكانها الأصليين إلى العبودية، من الاستعمار المباشر إلى الإمبريالية المعاصرة. بعد أكثر من نصف قرن من الدحض العلمي للأفكار العنصرية واستمرار مقاومتها الثقافية، مازالت هذه الإيديولوجيا قائمة، بل أن القوى السياسية التي تحملها تبدو في صعود في كل مكان.

منذ انطلاق حركته المجنونة وتحوله إلى محرك إنتاج الحياة (والموت)، يتراكم رأس المال في البلدان "البيضاء" من خلال استلاب واستغلال بقية البلدان والشعوب. منذ أكثر من نصف قرن تعيد الرأسمالية إنتاج هذا الاضطهاد والاستغلال داخل حدود كل دولة عبر الهجرة وإعادة الانتاج الإجتماعية.

تنعكس هذه البنى الدولية والاجتماعية على المستوى الرمزي في تراتبية أرقاها الأبيض وتتدرج نزولا إلى الأسود. إن من ينظر للوهلة الأولى ويرى حالة البلدان "السوداء"، والسود (كمجموعة) في بلدان أخرى، سيلاحظ أنها عموما أسوء من حالة البيض (كمجموعة). بالنظر للهيمنة الإيديولوجية للرأسمالية ولطبيعتها العنصرية فإن التفسيرات السائدة لهذا الواقع تُرجع أسبابه للسود أنفسهم لا لنمط الإنتاج المهيمن وسلطة القائمين عليه. من جهة أخرى، وعلى نفس المستوى، فإنّ الضعف الاقتصادي والسياسي للسود يجعلهم ضحية سهلة للاضطهاد والاستغلال.

فقط بالنظر للتاريخ المادي للرأسمالية يمكن فهم حالة فقر واستضعاف السود وظاهرة العنصرية في عموميتها. بنفس المنطق المادي التاريخي من السهل مثلا فهم العنصرية الجهوية داخل البلاد التونسية ويمكن مزيد تفصيل سلّم التراتبية العنصرية عالميا ووطنيا. وحده التحليل المادي يفسر فشل نصف قرن من مناهضة العنصرية في كل أنحاء العالم.

لن تتبدد العنصرية إذن إلا بتبدد أساسها المادي، أي بتحرّر إفريقيا وبلدان الجنوب التابعة من الإمبريالية.

رد سياسي على العنصرية

لا يعني هذا أن نقف مكتوفي الأيدي في وجه ما يحدث أو أن نعتبره لا-حدثا. في الحقيقة، وهذا قول بديهي، لم يصبح التونسيون عنصريين فجأة بعد تدخل الحزب القومي  التونسي وقيس سعيد. ما يحدث هو توظيف العنصرية الكامنة سياسيا أو ظهور عنصرية سياسية (بالمعنى الضيق للكلمة) في تونس. بشكل ملموس هذا يعنى تعبئة الجماهير وكسبها لفكرة مركزية: المهاجرون السود هم المشكلة الأساسية للشعب التونسي أو سبب مشاكله.

إن التوقف عند الإدانة الأخلاقية لهذا الخطاب ووصمه بالعنصري لن يغير موازين القوى في الصراع مع السلطة التي تحمله، بل سيكون له على الأرجح الأثر العكسي. إن الصراع السياسي يستدعي تعبئة الجماهير وكسبها لخطاب سياسي، لا وصمها بالعنصرية والجهل وإلى غير ذلك.

هذا الخطاب السياسي المقاوم هو خطاب الصراع الطبقي المناهض للإمبريالية، بمختلف تعبيراتها الايديولوجية بما في ذلك العنصرية، ويمكن تكثيفه في الفكرة التالية: سبب تفقير الطبقات الشعبية هو البرجوازية الكمبرادورية والدولة التابعة والهيمنة الإمبريالية وليس المهاجرين السود الذين يعانون من نفس النظام في تونس وفي بلدانهم الأصلية.

ويمكن في هذا الصدد التذكير بتاريخ النضال الجنوبي المشترك بين الشعوب والأمم المضطَهَدة ضد الامبريالية، والتأكيد على راهنيته المستمرة في هذه للمرحلة التاريخية.

أما المناهضة الليبرالية للعنصرية فتؤدي دائما إلى نتائج عكسية، لأنها لا تتناقض مع أساسها المادي في الرأسمالية بل تتبناه وتدافع عنه.

إنّ السبيل الوحيد للقضاء على العنصرية هو تناولها في علاقة بالصراع الطبقي المناهض للامبريالية، حتى لا تكون بدورها حاجزا دون تشكل وعي الطبقات الشعبية بمهامها التاريخية الثورية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق