اليسار والشيوعية والماركسية: توضيحا لبعض الأمور


كُتبت الصيغة الأولى من هذا النص في 28 أفريل الفارط كمداخلة في حلقة نقاش بعنوان "ما معنى أن نكون ماركسيين الآن وهنا؟". يتوسع النص أسفله ويفصل ويوضح بعض النقاط التي وردت مكثفة في المداخلة.



يعود الحديث عن أزمة الماركسية إلى سبعينيات القرن الماضي مع ولادة اليسار الجديد ويمكن إرجاعها حتى إلى العشرينيات والثلاثينيات مع انحسار الثورة العمالية الأوروبية في روسيا وتخييبها لبعض الآمال. لكن سقوط الاتحاد السوفياتي (بعد "انفتاح" الصين) مثّل رجّة دون مثيل ضيّعت بوصلات لم تُعَدَّل إلى اليوم. اليوم وبعد 30 سنة أو أكثر من الفشل المستمر لـ "المقاربات الجديدة" في تشكيل تحدٍ جدّي للرأسمالية، نظن أنه يجب العودة إلى الأساسيات وتوضيح بعض البديهيات. اليوم بمرور عشر سنوات من الانهزام التدريجي للثورة في تونس وصل التخبّط وخلط المفاهيم إلى درجة أننا أصبحنا لا نعرف حتى من نحن. ما معنى أن نكون ماركسيين الآن وهنا؟ هذا طبعا سؤال كبير، لا يمكن الإجابة عنه في حدود هذا النص، الذي سيكتفي بالتأكيد على بعض الشروط الضرورية، غير الكافية في حد ذاتها. سنؤكد فيه على النقاط التي تبدو لنا حاسمة من أجل إعادة البناء على أسس صحيحة وتجاوز أخطاء من سبقونا. هذا يعني ضمنيا اعتبارنا كل المجموعات اليسارية التاريخية منتهية افتراضيا.

اليسار

من الأسهل دائما الإنطلاق من رفض الموجود ومنه التعريف بالنفي. لنوضح أولا من لا نكون. لماذا لسنا يسارا ولا نتحدث عن وحدة اليسار ولا عن حزب اليسار. لنذكّر أن اليسار مفهوم ما-قبل-ماركسي وأنّ ماركس وانجلز وروزا لوكسمبورغ ولينين وبانيكوك وتروتسكي وماو لم يعتبروا أنفسهم يساريين. لكن المشكلة الأساسية مع هذا المفهوم تكمن في فهمه المثالي والليبرالي (ليسا نفس الشيء) للسياسة. إذا كانت السياسية معركة اليمين ضد اليسار فهي اذن معركة فكرية صرفة، ولا يمكن بالتالي فهم مأتى هذه الأفكار أو تلك ولا انتماء الناس لهذه الجهة أو تلك. اذ سيعتبر اليساريون أن المنتمين لليسار هم الأكثر ذكاء أو "تقدما" أو ثقافة ومعرفة أو إيمانا بـ "المبادئ الكونية" والخ. من الطبيعي بالتالي أن لا يبالي الكثيرون منهم بطبقة أو طبقات أو بصراع طبقي، وأن يدافعوا أولا عن مبادئ وأفكار. من هنا يمكن تفسير النزعات النخبوية والإزدراء والاحتقار الطبقيين المنتشرة في اليسار (بما في ذلك ضمن جزء من الشيوعيين) التي لا نتصور أنّ أحدا ينكرها. حتى عندما يتحدث هؤلاء عن الطبقات فيكون ذلك بمنطق اقتصادوي: "يجب محاربة الفقر وإعادة توزيع الثروة"؛ أو بمنطق الشفقة الأخلاقية على الفقراء. لا يمكن أن تكون الطبقات الشعبية عند هؤلاء فاعلا سياسيا (كي لا نقول تاريخيا) بل فقط ضحية. لا نظن أنه بإمكان الماركسيين خوض ممارسة سياسية استراتيجية مع هؤلاء. يعكس الصراعين الفكري والسياسي، بالنسبة للماركسيين والماديين عموما، الانقسام والصراع الاجتماعيّين. نتحدث هنا عن السياسة بالمعني القوي، عن قرارات وأفعال تُحدث تغييرات هيكلية أو تاريخية على المجتمع أو على الأقل ذات أثر واسع، ولا نقصد خزعبلات الاستعراض شبه-اليومي في البرلمانات والتلفزات. نقول صراعا اجتماعيا ولا نقول طبقيا، لأن الطبقة ليست معطى وأيضا لوجود انقسامات وصراعات أخرى. لا يمنع ذلك أنّ الصراع الطبقي يهيكل بشكلي أوّلي السياسة وتاريخ المجتمعات، إلى جانب الصراعات بين الدول. لتجنب بعض الأخطاء الشائعة حول مفهوم الصراع الطبقي سنسوق هنا بسرعة بعض الملاحظات التي سنعود على بعضها بأكثر تفصيل لاحقا في النص: 1) يجب النظر للتاريخ القريب والبعيد وطبيعة الصراعات المحدِّدة فيه. 2) الانقسام والاضطهاد والاستغلال والصراع أشياء مختلفة، وليس أي انقسام أو اضطهاد أو استغلال يعني ويوَلِّد صراعا. نتحدث هنا على أهمية الذاتية أو الوكالة، أي عن الأفراد والمجموعات كفاعلين لا كضحايا أو كمواضيع بحث أو تحليل نظري أو بنيوي. 3) الصراعات سابقة للثوريين وليسوا هم من يفتعلونها. ليس مفهوم السياسة والصراع الطبقي الخلاف الوحيد. إذ نجد ضمن هذا الكائن الهلامي المسمّى باليسار: الاجتماعيين-الديمقراطييين والأناركيين والحركات النسوية والحقوقيين ويمكن مواصلة التعداد طويلا. هنالك أيضا الشيوعيون الذين يختلفون بدورهم فيما بينهم. نظن أن محاولة جمع كل هؤلاء حول استراتيجيا سياسية أمر غير ممكن: فلا هم يتحدثون نفس اللغة ولا يحللون بنفس النظرية ولا يرمون إلى نفس الأهداف. يدفعنا كل هذا الاختلاف والتنوع إلى التساؤل أصلا حول معنى تقسيم يسار-يمين. لإيجاد أيّ معنى موحّد لهذا اليسار لا يجب البحث في الواقع، بل التفكير من داخل المنطق المثالي لهذا التقسيم، أي بمنطق المبادئ. اليسار هو جهة التقدم أو التغيير والمساواة والحرية والعلم، واليمين هو جهة المحافظة والتراتبية والتسلط والأسطورة. لكن التقدم مثلا يمكن أن يكون نحو الاشتراكية أو نحو جمهورية الستارت-آب والمنافسة الحرة والنزيهة، والمساواة يمكن أن تكون في الفرص أو في المدخول أو أمام القانون، والحرية يمكن أن تكون تحررا من السلطة الأبوية ويمكن أن تكون كذلك حرية السوق والمبادرة [1]. نعود بالتالي إلى النقطة الصفر، هل لتقسيم يسار-يمين من معنى؟ يعود في تونس النظر للسياسة عبر هذه الثنائية إلى الهيمنة اللغوية-الثقافية الفرنسية التي لم تبدأ في التراجع إلا في العشرية الأخيرة. انقسمت السياسة في بريطانيا مثلا إلى هويغيين (Whigs) وتوريين (Tories)، ثم إلى ليبراليين ومحافظين، وانضاف حزب العمل بعد تأسيسه في نهاية القرن 19. إلى اليوم تنقسم السياسة إلى عماليين ومحافظين وليبراليين-ديمقراطيين. لا يتحدث السياسيون عادة عن يمين ويسار بل عن العمل والمحافظين. لا يرى ذَوُو الانتماءات السياسية الواضحة أنفسهم كيمينيين أو يساريين بل كعماليين أو كمحافظين بالأساس. نفس الشيء في الولايات المتحدة الأمريكية حيث ينقسم الحقل السياسي أولا إلى ديمقراطيين وجمهوريين ثم إلى محافظين ومعتدلين وليبراليين وتقدميين. حتى متى استُعْمِلت كلمة يسار قد يختلف معناها. توجد توجهات يسميها الفرنسيون باليسارية والأمريكيون بالليبرالية، في نفس الوقت تُصنَّف الليبرالية في فرنسا يمينا (على الأقل من بعد الحرب العالمية الثانية). فقط في فرنسا تُستعمل ثنائية يسار-يمين بوتيرة كبيرة ويعبر السياسيون وحتى الكثيرون من عموم المواطنين عن انتماءاتهم بالأساس داخل هذا المعجم الثنائي. لكن حتى هناك، حيث نشأت هذه الثنائية، تجدر الإشارة للطابع التاريخي لتكرّسها. فمن يقرأ مثلا نصوص ماركس وانجلز حول فرنسا القرن 19 يعرف أنّ الحقل السياسي كان ينقسم حسب مسميات أخرى، رغم ظهور اليسار واليمين منذ الثورة الفرنسية [2]. لم يبدأ الاستعمال الفرنسي المعاصر لهذا التصنيف السياسي في التشكّل إلا مطلع القرن العشرين، في إطار تحالف دفاعي بين الاشتراكيين (بقيادة الجناح الإصلاحي) والبرجوازية الجمهورية أمام خطر انقلاب ملكي أو "امبراطوري" من قوى الإقطاع والكنيسة. لم ينشأ إذن مفهوم اليسار المعاصر كأداة للتفكيك والتحليل، بل بالعكس كتسمية جامعة لأوسع ما يمكن من قوى "التقدم" و"الحداثة" والجمهورية ضد قوى الماضي والرجعية والإقطاع [3]. من المهم هنا أن نلاحظ أن الصراع الطبقي داخل الرأسمالية ليس مطروحا في هذه النشأة لفكرة اليسار. كما أنه من الطبيعي أن تكون هذه التسمية، التي ولدت لبناء تحالف وتجميع مختلفين، اختزالية وضبابية وهلامية وأن يخفي التحليل على أساسها أكثر مما يظهر. لكل هذه الأسباب علينا تجاوز هذه النظرة الفرنكو-مركزية للسياسة واستعمال وتطوير مفاهيم ومصطلحات أكثر ملاءمة لواقعنا. لعله في الأخير من الضروري التذكير بدور اليسار في سحق كومونة باريس وبمواقف المثقفين اليساريين منها. يكتب المنفيون من أعضاء الكومونة في بيانهم: "ونحن بالكاد خارجون من مجازر الكومونة، لنذكِّر من يمكن أن يغويهم نسيان أنّ اليسار الفرسايْيِّ [نسبة لقصر فرساي مقر حكومة البرجوازية]، لا أقل من اليمين، أمر بمجزرة باريس، وأن جيش الجزارين تلقى التهاني من هؤلاء مثلما تلقاها من الآخرين. يجب أن يكون الفرسايْيُّون اليمينيون واليساريون متساوين أمام حقد الشعب" [4]. أما بالنسبة للمثقفين اليساريين، فكتب فيكتور هوجو أن "هذه الكومونة غبية بقدر شراسة المجلس [مجلس النواب]. من الجهتين، جنون". أما إيميل زولا فقال أن: "حوض الدم الذي استحم فيه [شعب باريس] كان ربما من الضرورة الشديدة لتهدئة بعض الحُمَّيات. سترونه الآن يكبر حِكْمةً وروعة" [5]. لا حاجة لتعليق وسنكتفي بالتذكير بما كتبه ماركس من جهته لا بصفته "مثقفا" طبعا بل عضوا في الجمعية الأممية للعمال: "إن باريس العمال، و كومونتها، ستظلان إلى الأبد موضع التبجيل، بوصفهما البشير المجيد بمجتمع جديد. وشهداؤها مثواهم الأبدي قلب الطبقة العاملة الكبير. وجلادوها سمرهم التاريخ الآن على خشبة العار التي لن تجدي في تخليصهم منها جميع الصلوات التي يرددها كهنتهم" (الحرب الأهلية في فرنسا). إن هذين الموقفين المتباينين من الكومونة يكثفان الفرق بيننا وبين اليسار في أعمق أبعاده في الوجدان والنفسية والانتماء. ليس ما سبق طبعا إدانة أخلاقية لليسار. ليس الأفراد والمجموعات المنضوون تحت هذا المسمى أناسا سيئين أو أشرارا. كما لا يعني أن اليسار عدونا (وحتما ليس أكثر من اليمين) وأن لا نتعامل معه. هناك داخله أفراد ومجموعات وتيارات يمكن أن نتفاعل ونتقاطع معها لكن دون أوهام حول الوحدة والانصهار. ما نعنيه بما سبق من القول ونريد التأكيد عليه هو شيء بسيط: نحن واليسار (مهما كان تعريفه) شيآن مختلفان. لسنا يسارا.

الجذرية والثورية

كذلك، لسنا "أقصى يسار" ولا يسارا متطرفا كما يصفنا البعض. أولا وكما بيننا وسنبين بأكثر تفصيل، لسنا صيغة قصوى من اليسار بل هناك فرق نوعي وأصلي ومنهجي بيننا. ليس لنا نفس النظرية ولا نفس طرق التفكير أو التركيبة النفسية. ثانيا، من الواضح أن دور هذه التصنيفات والتسميات هو تهميشنا اجتماعيا وسياسيا كمتطرفين قصوويين غير عمليين وغير عقلانيين. لتجنب هذا الفخ يستعمل البعض عن حسن نية مصطلحات مثل يسار ثوري أو يسار جذري. في إطار هيمنة الإيديولوجيا والخطاب الليبراليين والمحافظين على الحياة اليومية، لا يُحدث استعمال هذه المصطلحات فرقا كبيرا في ذهن الجماهير الشعبية. فالجماهير لا تصبح ثورية إلا في السياقات الثورية أو مع انطلاق الثورة. بالتالي فإن صفتيْ الثورية والجذرية خارج السياقات الثورية تؤدي إلى نفس التهميش السياسي. هل يعني ذلك أننا لسنا ثوريين وجذريين؟ بتوضيح مفهومي هذين المصطلحين تتضح الإجابة من تلقاء نفسها. إذ يبدو أن العديدين في اليسار يظنون أن الثورية مرتبطة بالتحريض المستمر والدعوة لإسقاط "المنظومة" أو "النظام" أو مختلف حكومات اليمين أو مختلف البرلمانات. قد يخال آخرون أن الثورية هي الاحتجاج المستمر في الشارع على شتى القضايا، وربما عدم الاكتفاء بالاحتجاج "السلمي" والدخول في مناوشات مع البوليس. في سياقات الركود أو الرجعية السياسيين لا تنجح هذه الممارسات إلا في تأكيد الأحكام المسبقة وتُهم التطرف التي تروج لها الدولة والبرجوازية وموظفوهما الإيديولوجيون. تعود هذه الممارسات جزئيا لغياب برامج واضحة ومقترحات بديلة. ما يعود بدوره لغياب جذرية الفهم والتحليل في مختلف المسائل: من الخطاب الاقتصادي المتهافت [6]، إلى فهم التدين والعنصرية [7] والذكورية كمسائل ثقافية، مرورا بخطاب مكافحة الفساد [8] الخاوي. كما لا تعني الثورية رفض الإصلاحات أ و حرب المواقع، ولا مقاطعة كل الانتخابات ووسائل الإعلام أو رفض العمل القانوني والتعامل مع المؤسسات الرسمية أو الإصلاحية، ولا الإغراق في السرية. بالنسبة للماركسيين، يتميز الطابع الثوري عن الإصلاحي ببساطة بموقفه من مسألة الدولة. يمكن بالنسبة للإصلاحيين أن تمر السلطة من طبقة إلى أخرى بشكل سلمي. يعتبر الثوريون أن ذلك غير ممكن (ما لا يعني أنه غير محبذ لكن السياسية والتاريخ ليسا ميدان الشهوات). يريد الإصلاحيون بناء الاشتراكية بالدولة القائمة التي يعتبرونها جهازا محايدا يمكن أن يشتغل تحت أوامر حكومة اشتراكية لفرض سلطة العمال وسحق البرجوازية. يرى الثوريون أن ذلك مستحيل، لأن الطبقات الحاكمة والدولة المرتبطة بها عضويا لن تتنازل عن السلطة والثروة دون حرب، لذلك يعتقدون أنه من الضروري كسر أو إسقاط الدولة وقلب علاقة السلطة أي عنف، عبر تمرير أدواته من طبقة لطبقة. وفي نهاية المطاف، لا يتم فرز الثوريين من الإصلاحيين، إلا عندما تُطرح الثورة على أرض الواقع كما هو الحال في السوادن اليوم أو في تونس 2010-2011.

الشيوعية والماركسية

لكن عن أي ثورة نتحدث؟ ولماذا هي ممكنة؟ وماهو المسار الذي يؤدي إليها؟ مرة أخرى، عندما نتحدث عن ثورة فنحن نتحدث عن المرور العنيف للسلطة من طبقة إلى أخرى، لا عن المرور من هيمنة نمط إنتاج إلى آخر داخل تشكيلة اجتماعية معينة. فذلك يمكن أن يحدث دون ثورة، تحت ضغوطات خارجية وداخلية: يكفي النظر مثلا لتاريخ ألمانيا وروسيا واليابان. يقول ماركس وانجلز في البيان الشيوعي أنّ الشيوعيين: "لا يضعون مبادئا خصوصية يريدون قولبة الحركة العمالية بها […] لا تستند التصورات النظرية للشيوعيين بتاتا على أفكار، مبادئ اخترعها أو اكتشفها هذا أو ذاك من مصلحي العالم. ليست إلا تعبيرا عاما عن الظروف الحقيقية لصراع طبقات موجود، عن حركة تاريخية تجري أمام أعيننا". إن الثورة ممكنة لوجود صراع طبقي يعبّر عن رفض المجتمع القائم. من هنا تعود النظرية الماركسية إلى الأسباب الجذرية لظهور هذا الصراع وتستخلص، ليس دون عناء، أفق إلغاء هذه الأسباب. هكذا تتبين من جهة الهيمنة العالمية لنمط الإنتاج الرأسمالي، وأساسها في الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج سبب الصراعات القائمة في عصرنا، ومن جهة أخرى الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج كأساس تجاوزها نحو الشيوعية. في هذه المنهجية من التفكير بالذات تتمثل خصوصية شيوعية ماركس وانجلز. إذ يجب التذكير أن فكرة الشيوعية أو الإشتراكية سابقة لهما. كانت إضافة ماركس وانجلز في المجال السياسي تأسيسهما نظرية لسلك الطريق نحو الشيوعية على أساس دراسة التاريخ والتجارب المعاصرة. ولهذا سمياها بالعلمية [9]. فهي لا تنطلق من مبادئ أخلاقية أو رغبات بعض الأفراد، بل من دراسة الواقع الملموس والتاريخ. يسبق إذن وجود الصراع الاجتماعي وجود الماركسيين، ولا يطرح هؤلاء قولبته بمبادئ مسقطة من خارجه اكتشفوها في هذا الكتاب أو ذاك، أو خلال ابحارهم على الإنترنت، أو وهم يتفكرون ويتأملون في مقهى أو في جامعة أو في فراش النوم، ويتوهمون أنها المفتاح السحري لحل مشاكل البشرية. هذا ما يسمى في المعجم الفلسفي بمحايثة التغيير الاجتماعي (والمجتمع ككل في النظرية الماركسية)، أي أن إمكانية وآلية وديناميكية تغيير المجتمع يخلقها المجتمع نفسه. فليس التغيير الاجتماعي فبركة إرادوية واعتباطية من أفراد أو مجموعات ضيقة متعالية أو منفصلة عنه. من الغريب حقا أن ماركس وانجلز رفضا فكرة المبادئ، كشيء فوق الواقع المادي وسابق له، في أشهر نصوصهما، وأنها في نفس الوقت من الأفكار الأكثر رواجا في الأوساط الماركسية (أو بالأحرى اليسارية؟). نرى اليوم اليساريين يزايدون على بعضهم البعض بالمبدئية، أي بالوفاء لأفكار مسبقة غير قابلة للمساءلة، بل بالوفاء لمبادئ خصوصية يريدون قولبة الحركة البروليتارية بها، وطبعا يتواصل فشلهم في ذلك. لكنهم مع ذلك يبقون متشبثين بالمبادئ، وفي ذلك فخرهم. وعادة ما تكون مبادئا تعبّر عن ثقافة (حتى لا نقول إيديولوجيا) الطبقات الوسطى التقدمية والأوساط اليسارية، مبادئ يستند إليها هؤلاء المناضلون والناشطون اليساريون كأفراد ومجموعات. هي ليست مبادئا سيئة في حد ذاتها، لكنها تحديدا مبادئ خصوصية مرتبطة بظروف عيش مجموعات اجتماعية معينة، ينتمي إليها العديد منا. إلّا أنها ليست "مبادئ" الحركة البروليتارية، أو بأكثر دقة ليست أفكارا مرتبطة بها. وهذه تحديدا، مثلما بيّنا أعلاه، ممارسة يسارية لا ممارسة ماركسية. ينطبق نفس المنطق على البرامج والشعارات. اذ يمكن أن نجد في الأدبيات الماركسية أحسن البرامج وأحلى الشعارات، ويمكن أن تحرر لجنة خبراء أفضل برنامج لحلّ (وهميا) مشاكل تونس والعالم. لكن الطبقة الثورية والجماهير الشعبية لن تتبنى هذا البرنامج، لأنه منفصل عن صراعاتها ومدى رؤيتها والمهام التي هي قادرة أن تطرحها على نفسها في سياق تاريخي اجتماعي معين. لا يمكن بالتالي أن يكون مثل هذه البرامج ماركسيا، ولو كان شيوعيا بمعنى طرحه إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. إذ يعرّف ماركس وانجلز شيوعيتهما بأنها "ليست إلا تعبيرا عاما عن الظروف الحقيقية لصراع طبقات موجود، عن حركة تاريخية تجري أمام أعيننا". إذا نظرنا إلى تونس 2023، فلا وجود لصراع طبقي مهم. لكن لا يجب أن ننسى أننا نتحدث عن حركة تاريخية. فبالنظر إلى السيرورة الممتدة من 17 ديسمبر 2010 إلى اليوم، نرى صراعات عنيفة وحركة تاريخية مهمة. بالعودة إلى الحوض المنجمي أو إلى انتفاضة الخبز أو حتى إلى الاستقلال، يتوضح أكثر امتداد وعمق هذه الحركة. يطرح السؤال نفسه على الماركسيين: هذا الصراع، هذه الحركة اللذين دارا أمام أعيننا لأكثر من عشر سنوات منذ الثورة، هل نظرنا لهما جيّدا وحاولنا فهم جذورهما الاجتماعية والتاريخية، حتى نتمكن من التعبير عن شروطهما الحقيقية مثلما حاول ماركس وانجلز التعبير عن الصراع والحركة اللذين رأياهما أمامهما في أوروبا القرن 19؟ يحتاج فهم تاريخ حركة الصراع الطبقي في تونس منذ الاستقلال لمجهود بحثي حقيقي. لكن بعض الظواهر حدثت أمام أعيننا طيلة عشر سنوات تقريبا. يتحدث مثلا ماركس وانجلز عن "حركة عمالية". الثورة التونسية لم تكن عمالية [10]، لكن العديدين واصلوا، وفاءً للمبادئ، اجترار نفس المقولات التي كتبها ماركس وانجلز في زمانهما ووسطهما الجغرافي، بدل الاستئناس بمنهجيتهما والنظر للحركة التاريخية القائمة أمامنا ومحاولة فهمها كما هي والتعبير عن ظروفها الحقيقية. من المهم هنا الإشارة إلى مثال الماوية كتجربة ملموسة في التطبيق المثمر للمنهجية للماركسية، يمكن أن نتعلم منها الكثير. وجد الماركسيون الأوروبيين الأرضية النظرية مفروشة، بما أن الفعل الثوري كان مطروحا عليهم في المجتمعات التي وصفها ماركس وانجلز تقريبا. لذلك تكمن أهمية الماوية في كونها تجربة في تطبيق الماركسية، كمنهجية لتحديد استراتيجية ثورية لا كوصفة جاهزة، في ظروف مغايرة تماما للتي وصفها ماركس وانجلز: ثورة بقيادة الفلاحين تحاصر المدينة بالريف ليس هدفها المباشر إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. للأسف عوض أن نستلهم من ماو تطبيقه المنهجية الماركسية بشكل محايث لواقعه ونقوم بنفس الشيء على واقعنا، قرر البعض أن تونس في 1970 (وربما في 2023 !) هي نفسها الصين في 1930 تقريبا: شبه-اقطاعية، شبه-مستعمرة (وربما يريدون محاصرة المدينة بالريف وشن حرب شعبية طويلة الأمد). لكن فكرة محايثة المجتمع وحدها قد تغذي النزعات التلقاءوية. لذلك يجب تعديلها بجانب الوعي ودوره: "في مختلف المراحل التي يجتازها الصراع بين البروليتاريين والبرجوازيين، يمثلون دائما مصالح الحركة في كليتها [...] نظريا لديهم [الشيوعيون] على بقية البروليتاريا أفضلية فهم واضح لشروط ومسيرة وللغايات العامة للحركة البروليتارية" يتحدث هنا ماركس وانجلز عن الكلية التاريخية أو الزمنية، أي عن الحاضر والمستقبل بمختلف مراحله المتوقعة. لأنهما يتحدثان بعد ذلك بفقرة عن الكلية الجغرافية، أو مسألة الأممية، المهمة في حد ذاتها والمحددة في فرز الماركسيين، لكن نقاشها يتطلب مساحة تتجاوز هذا النص. إذن، من أهم ما يميز الماركسيين عن عموم البروليتاريا هو فهمهم لكامل سيرورة حركة الصراع الطبقي بمختلف مراحلها. كان هذا غائبا منذ بداية عشرية الثورة في تونس حتى انهزامها. منذ نادى الماركسيون بمجلس تأسيسي خلال اعتصام ممثلي البروليتاريا في القصبة إلى الدعوة لإسقاط الانقلاب وقت انهزام البروليتاريا وتشتت صفوفها في كل اتجاه (خاصة في اتجاه إيطاليا). من المهم جدا أن لا يطرح الماركسيون على البروليتاريا أكثر، ولا أقل، مما يمكنها تحقيقه وفهمه والانصات إليه والإحساس به في مرحلة معينة. هنالك مراحل صعود ومراحل تراجع، مراحل هجوم ومراحل دفاع، مراحل ثورة ومراحل إعادة بناء، مراحل دعاية فكرية ومراحل مبادرة بالفعل المباشر ودعوة له. من الجهة الأخرى، يصور الماركسيون مستقبل الحركة وأفق الصراع والانعتاق. يكون ذلك في شكل برنامج اشتراكي، إلى جانب مختلف الأشكال الرمزية والخطابية. على ذلك الأساس، في كل مرحلة يدفعون الحركة نحو هذا الأفق، ولا يكتفون بالوعي التلقائي لجمهور البروليتاريا. يمثل الإقرار بهذا التطور اللامتكافئ للوعي أساس مفهوم الطليعة والتفرقة بين الماركسيين وعموم البروليتاريا التي يمثلون جزءا منها. فالطبقة ليست مجرد معطى اقتصادي وسوسيولوجي، و"الهدف الفوري للشيوعيين هو […] تشكّل البروليتاريين كطبقة والإطاحة بهيمنة البرجوازية واستيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية". فهي إذن تشكيلة تتشكل عبر سيرورة الصراع [11]. لا يقوم هذا الصراع طبعا بشكل عشوائي، بل على أساس، وفي إطار، ظروف اقتصادية-اجتماعية معينة. وبنفس المنطق، ليست كل المجموعات التي تتبنى الماركسية طليعة الطبقة الثورية، إلى أن تلتحم بهذه الطبقة وتصبح فعلا قادرة على التأثير فيها والتأثر بها. يمثل إذن تشكيل البروليتاريا كطبقة، أو تحويلها من طبقة في ذاتها، تصارع بشكل تلقائي أو عفوي، الى طبقة لذاتها، واعية بوحدة مصالحها وأسباب صراعها وأهدافها وكيفية تجاوز حالتها، هو الهدف المباشر للماركسيين. بتقدم هذه المهمة وتوفّر الظروف الموضوعية، يُطرح على الطبقة افتكاك السلطة السياسية. فعلى عكس اليسار، لا يوجد ماركسيون ثوريون دون وجود صراع طبقي وطبقة ثورية تتشكل، والممارسة الماركسية هي نشر الوعي السياسي وتنظيم هذه الطبقة، وليست الدعوة والتبليغ في صفوف عموم الناس مثلما ينشر اليسار مبادئه الكونية الأزلية. ليست السياسة بالنسبة للماركسيين اهتماما بـ "الشأن العام"، بل هي الشأن الطبقي. وهذا هو في نهاية التحليل الفرق بيننا. تدور المعركة بالنسبة لليساريين بينهم وبين اليمين ("دساترة وخوانجية"، أو ربما خوانجية بالأساس). في أفضل الحالات سيفكر أكثرهم مادية في ضرورة تعبئة الناس لخوض المعركة، بينما سيكتفي أكثرهم مثالية بالتشبث بالمبادئ. أما معركتنا فتدور بين الطبقة الثورية وحلفائها من جهة، والبرجوازية وحلفائها يمينا ويسارا من جهة أخرى.

إلى من ننتمي؟

تتطور النظرية الماركسية إذن وتنطبق مرتبطة بواقع حركة الصراع، وتجد في ممارسة تغيير الواقع حقيقتها وخطأها. تطرح الممارسة تحديدا على الماركسيين مسألة عويصة قد تكون حاسمة أكثر حتى من الوضوح النظري، كونها تمس وجودهم الاجتماعي ونفسيتهم كأفراد ومجموعات. لذلك نظن أن أول سؤال يجب أن يسأله الماركسيون اليوم في تونس، حتى قبل النقاش النظري والاستراتيجي، هو التالي: إلى من ننتمي؟ نتحدث عن الإنتماء في جوانبه الوجدانية والرمزية والاجتماعية. هل ننتمي لعمال باريس الذين أقاموا الكومونة أو لسوفياتات بتروغراد أو لعمال مانشستر الذين وصفهم انجلز في "حالة الطبقة العاملة في إنجلترا" وإلخ.؟ أم ننتمي إلى محمد البوعزيزي والهامشيين الذين أسقطوا حكم بن علي في 2010-2011 والذين أعماهم علي العريض بالرش في سليانة وإلخ.؟ نظن للأسف أن الماركسيين في تونس لازالوا ينتمون أكثر للمخيال الأول. نحن ننتمي أصلا للبروليتاريا كفكرة مجردة يحشوها كل منا بأحلامه وأوهامه، أكثر منها مجموعة اجتماعية موجودة في تونس في زماننا. نحنا ننتمي للمطرقة والمنجل وماركس وانجلز ولينين وماو وتروتسكي وغرامشي وغيرهم، أكثر من الناس الذين انتفضوا في 2010-2011. نحن ننتمي لترميز ورموز وثقافة ومخيال وسردية حركة شيوعية أوروبية أو صينية أو حتى كوبية من الماضي أكثر من انتمائنا للطبقة الثورية المعاصرة التي تعيش معنا أو غير بعيدة عنا. أكثر من ذلك، نحن ننتمي لترميز وخطاب فقاعة شيوعية افتراضية في الأنترنت: نتفاعل مع بعضنا البعض ونعجب ببعضنا البعض وبأنفسنا في حلقة مفرغة. ينحدر أغلبنا من الطبقات الوسطى، وتخلق هذه الخلفية حقا انفصالا أوليا نسبيا بيننا وبين الطبقات الشعبية. لكن يبدو أن ماركسيتنا زادتنا ابتعادا عن الطبقات الشعبية بدل أن تقربنا منها. نظن هنا أنه من المهم استحضار ماركس وانجلز مجددا وهما يفسران خيار اتخاذهما الشيوعية كانتماء: "لم يكن بإمكاننا عند صدوره [البيان الشيوعي] تسميته بالبيان الاشتراكي. ذلك أنه في 1847 كان هناك نوعان من الناس مندرجين تحت اسم الاشتراكي: من جهة المنتسبون لشتى النظم الطوباوية […] والذين لم يعودوا جميعاً إلا مجرد شيع هزيلة؛ محكوم عليها بالموت البطيء هزالا. ومن جهة أخرى كان هناك المشعوذون الاجتماعيون من كل شاكلة وطراز الذين كانوا يزعمون أنهم بمساعدة مختلف وصفاتهم السحرية وعلاجاتهم المرقعة؛ سيقضون على جميع صنوف البؤس الاجتماعي دون إلحاق أدنى ضرر بالرأسمال والربح. وفي كلتا الحالتين؛ لم يكن هؤلاء جميعا سوى أناس غرباء عن الحركة العمالية؛ ويسعون بوجه خاص للحصول على دعم الطبقات «المثقفة». وبالعكس من هؤلاء جميعاً؛ كان ذلك الجزء من العمال الذي اقتنع بعدم كفاية الانقلابات السياسية الصرفة؛ والذي ينادي بإحداث تغييرات جوهرية في المجتمع ؛ يسمي نفسه شيوعياً. لقد كانت شيوعية بالكاد مهذبة؛ سليقية تماما وأحيانا لا تخلو من الجلافة؛ […] كانت الاشتراكية في 1848 مرادفة لحركة بورجوازية، وكانت الشيوعية مرادفة لحركة عمالية. في القارة الأوروبية على الأقل كانت الاشتراكية تجد طرفها إلى الصالونات أما الشيوعية فكان بينها وبين الصالونات حجاب. وبما أننا كنا منذ ذلك العهد نعتقد بكل جلاء ووضوح أن «تحرر العمال يجب أن يكون من صنع العمال أنفسهم»!؛ فلم يكن لنا أن نتردد لحظة في الاسم الذي علينا أن نختاره ومنذ ذاك لم يخطر ببالنا قط أن نتخلى عنه". يجب أولا التنبيه لكون الإقصاء من صالونات "الطبقات المثقفة" أو رفضها لا يعني بالضرورة التواجد والترحاب داخل الطبقات الشعبية، وهذا واقع نعرفه جيدا. لنتذكر ثانيا أن أحزاب الأممية الثانية، خاصة في البلدن التي لم تكن الظروف فيها مواتية، سمت نفسها بالاشتراكية-الديمقراطية، بما في ذلك البلاشفة، وهو ما لم يمنعهم من قيادة أول ثورة عمالية. دعنا نتساءل إذن: لماذا نسمي نحن أنفسنا بالشيوعيين أو الاشتراكيين أو الماركسيين أو حتى اليساريين؟ هل سمت الطبقات الثائرة في 2010-2011 نفسها أو حركتها كذلك؟ هل تجذبها هذه التسمية؟ هل ترى فيها نفسها وترتاح لها وتحس أنها تعبر عنها؟ لا نظننا نبالغ إذا قلنا أنها تنفر كل هذه التسميات. نفسه حال المطرقة والمنجل وغيرها من الرموز. ولئن نتفهم الارتباط العاطفي بهذه الرموز والتسميات نظن أنه من واجبنا تجاوزها وعقلنة التعامل مع هذه الرمزيات. هل أنّ دورنا ومعركتنا هي الدفاع عن الرموز والتراث الشيوعي كما لو كانت الشيوعية هوية؟ أم أننا نطرح حقا تنظيم الطبقات الشعبية لإسقاط البرجوازية عن الحكم في تونس وتجاوز الرأسمالية نحو الاشتراكية؟ إلى أي مدى إذن نحن نشبه ونحاول التقرب من الطبقات الشعبية، في رموزنا ومظهرنا وكلامنا، حتى يمكنها أن تسمعنا ويمكننا أن نسمعها؟ يشعر الواحد منا أحيانا أننا نقوم بكل ما في وسعنا حتى لا نشبهها لكوننا "ثوريين" أو "جذريين" أو "شيوعيين"! هناك حتى بيننا أنواع من الشيوعيين الأرستقراطيين، تزيد عندهم قيمة الشيوعية بقدر ما يقل رواجها عند الناس. هل سمع أحد يوما شخصا في حي شعبي أو مصنع أو قرية ينادي أحدا "يا رفيق"؟! لماذا علينا أن نترجم مصطلحا استعمله الثوريون الأوروبيون في القرن 19؟! ألا توجد عبارات شعبية متداولة تعوضه؟! هذه ممارسات أشبه بممارسات "ثقافة فرعية" (subculture) منغلِقة على نفسها أو بممارسات طائفة منها بممارسات طليعة تطمح لقيادة حركة ثورية جماهيرية مثلما نظّر لها ماركس وانجلز. هذا هو المعنى الحقيقي للسكتارية، وسنبقى طائفة ما دامت هذه الممارسات متواصلة حتى لو توحدنا مع كل اليسار. ليس هذا الكلام طبعا إدانة أخلاقية لمن لا يعيش ولا يتصرف مثل الطبقات الشعبية ولا هو تأليه أو تصوير مثالي للأخيرة. بل بالعكس، نظن أن العديدين يتصرفون بأكثر تحرر ويعيشون بأكثر سعادة وانعتاق من الطبقات الشعبية، ونطمح أصلا الى أن تبلغ الأخيرة هذه المستويات من الانعتاق. ليس المطلوب والمطروح التخلي التام عن ذواتنا وحياتنا الفردية، بل مطلوب منا مجهود نفسي وعملي قدر المستطاع، خاصة في الميادين التي نتواجد فيها في ممارسة سياسية صرفة ومباشرة.

المجموعة الماركسية الثورية




[1] لا يمكن أن يكون هذا التعريف تعسفا على اليساريين إذ ورد بشكل شبه حرفي في كتاب "مانيفستو" اليسار التونسي الذي أصدرته مجلة المفكرة القانونية. أنظر تحديدا: يوسف الشادلي - ما معنى أن تكون يساريا في تونس؟، في "مانيفستو" اليسار التونسي.

[2] أنظر مثلا: الصراعات الطبقية في فرنسا و18 برومار لماركس وتوطئات انجلز.

[3] أنظر:

Jean-Claude Michéa - Les mystères de la gauche: de l'idéal des lumières au triomphe du capitalisme absolu

أنظر أيضا حول نفس الموضوع واختلاف اليسار والحركة الاشتراكية عموما:

Jean-Claude Michéa - Notre ennemi le capital

Jacques Julliard, Jean-Claude Michéa - La gauche et le peuple

[4] Manifeste des proscrits de la Commune, Londres, 1874

[5] Eric Fournier - La « ville libre » de Paris au temps de la Commune, Le monde diplomatique

[6] أنظر: وليد بسباس - الخطاب الاقتصادي لليسار أو خطاب اليمين المستتر: من تبني المصطلحات إلى الانصهار في الإطار الليبرالي، في "مانيفستو" اليسار التونسي

أنظر أيضا: حمزة إبراهيم - نقد نقد الريْع جزء 1: خطاب الاقتصاد الريْعي ودُعاتُه، موقع انحياز

[7] أنظر: المجموعة الماركسية الثورية - العنصرية منتوج إيديولوجي للإمبريالية، مدونة إزميل

[8] أنظر: حمزة إبراهيم - مكافحة الفساد: الخطاب الإيديولوجي للبرجوازية الصغيرة والهيمنة الاستعمارية، موقع انحياز

[9] نتجنب عادة استعمال فكرة ومصطلح "الاشتراكية العلمية". إذ زيادة على عدم فهمهم لاشتراكية ماركس وانجلز، لا يفهم مردِّدو هذا المصطلح في هذه البلاد (وغيرها) شيئا من العلم ولا يواكبون تطوراته وآثارها الابستيمولوجية. يظن هؤلاء الدغمائيون أن العلوم جملة من الحقائق الأزلية المنزّلة التي يتم اكتشافها بينما هي (بما في ذلك العلوم المساماة خطأ بـ "الصحيحة" أي علوم الطبيعة) مجال نقاش وتجربة وخطأ وتصحيح وتدقيق متواصلة. اشتراكية هؤلاء أقرب لاشتراكية دينية منها لأي علم.

[10] لمحاولة أولى لنقاش هذه المسألة، أنظر: حول الذات الثورية، مدونة إزميل

[11] أنظر: المفهوم التاريخي للطبقة، مدونة إزميل



كيف نتعامل مع الاتحاد في الوضع الراهن؟

 

يمثّل الاتحاد العام التونسي للشغل قوة سياسية مهمة وتقريبا آخر القوى القادرة على مقاومة سلطة قيس سعيد (ما لا يعني أنه سيفعل ذلك أو سينجح فيه). يتوجب لذلك على الماركسيين فهم طبيعة الاتحاد وأساس قوته السياسية للتعامل معه بشكل صحيح تكتيكيا دون الحياد عن استراتيجيتهم الثورية.

لا يمكن استيفاء نقاش هذه المسألة دون البحث في تاريخ النقابة المهيمنة في البلاد. لكن بعض الملاحظات البديهية تقريبا يمكن أن تجنبّنا أخطاء فادحة:

  • تأتي أغلبية منخرطي الاتحاد من الوظيفة العمومية وشركات القطاع العام
  • لذلك يعتبر الاتحاد المساس بالقطاع العام ككلّ خطا أحمر، ولو أنه يساوم في عديد الأحيان ببعض المطالب "الاجتماعية" الأخرى
  • تدور أغلب وأهم الصراعات النقابية والإضرابات في القطاع العام (باستثناء زمن الثورة وهي حالة خاصة لا يتسع هذا النص لتحليلها).
  • يحتلّ القطاع الخاص مكانة ثانوية في سياسة الاتحاد.

من النقاط السابقة يمكن استنتاج التالية بسهولة:

  • القاعدة الاجتماعية للاتحاد هي الطبقات الوسطى المشتغلة في القطاع العام. قد يقول البعض أن القطاع العام يضمّ أيضا "عمّالا" (النقل والطاقة مثلا). لكن بالنظر لظروفهم الاقتصادية واندماجهم الاجتماعي وممارستهم الطبقية ومقارنتها بموقع وممارسة الهامشيين وعمال القطاع الخاص، لا يمكن تصنيفهم إلا كنوع من "الأرستقراطية العمّالية"، وبذلك كشريحة من الطبقات الوسطى. هذا صحيح في البلدان التابعة عموما وفي الحقبة النيولبرالية خصوصا.
  • ليس الاتحاد قوة عمالية إصلاحية أو منحرفة يمينا، بل هو تعبيرة سياسية عن الطبقات الوسطى المرتبطة بالقطاع العام.
  • يجب فهم علاقة الاتحاد بعمال القطاع الخاص كعلاقة هيمنة من منظّمة لا تستمدّ قوتها منهم، وبالتالي هي مستقلة عنهم.
  • وعليه، لا تنطبق الأطروحات التقليدية حول التعامل مع النقابات العمالية الإصلاحية الكبرى ووحدة الطبقة العاملة على وضعية اتحاد الشغل في تونس (حتى بالنسبة لمن يعتبرون الطبقة العاملة طليعة الثورة).

على أساس ما سبق، يطرح الماركسيون الثوريون استراتيجيا فضح الطبيعة الحقيقية للاتحاد والقطيعة السياسية معه. لا يخفى على أحد أنّ سمعة اتحاد الشغل ضمن الطبقات الشعبية سيئة. اذ تلاحظ انتهازيته وتعرف حدسًا أنه لا يمثلها. لكنها تعّبر عن ذلك للأسف بخطاب الإيديولوجيا المهيمنة. لذا من واجب الماركسيين تصحيح هذه الأفكار المغلوطة.

في نفس الوقت تتقاطع مصالح اتحاد الشغل والطبقات الشعبية في بعض المجالات والسياقات. من مصلحة الطرفين مثلا زيادة الانتدابات في الصحة والتعليم والنقل العمومي. أمام الهجمة النيولبرالية لخوصصة ما تبقى من هذه الخدمات العمومية وبالنظر لضعف تنظم الطبقات الشعبية وقدرتها على المقاومة السياسية، يمثل الاتحاد عندما تُطرح هذه المسائل قوة الدفاع الوحيد تقريبا. يكون من الخطأ إذن مهاجمته في مثل هذه السياقات.

وعلى ضوء الهجمة القمعية التي انطلقت فيها الدولة برئاسة قيس سعيد، يبدو اتحاد الشغل آخر قوة سياسية فعلية (لا مجرد عنوان سياسي دون قوة) مستقلة عن سلطة قيس سعيد. وقد يضطر من خلال دفاعه عن الحق النقابي (مصلحته المباشرة) الى خوض معركة مع السلطة المتشكلة تندرج ضمن معركة الحريات العامة ككلّ. بنفس المنطق، وأمام الخطر المطلق الذي يمثله خطاب قيس سعيد وقمع بوليسه على تطور وعي الطبقات الشعبية وإمكانيات تنظمها المستقل، لا يصح التعامل مع اتحاد الشغل كخصم.

لكن كذلك، وتحديدا، لا يجب أن يفقد الماركسيون الثوريون استقلاليتهم ويتذيلوا لنقابة الطبقات الوسطى. بالنظر لطبيعته، الدفاعية المطلبية من جهة والانتهازية من جهة اخرى، ستكون "مبادرة" الاتحاد خاوية ونضاله من أجلها ضعيفا. لذلك من مصلحة الماركسيين الثوريين (وحتى المقاومة الوطنية اليسارية ككل) أن يطرحوا برنامجهم المرحلي كبديل شامل بشكل مستقلّ عن اتحاد ّالشغل. بذلك يواصلون المراكمة لخط سياسي مستقل والتوجه للطبقات الاجتماعية التي تعنيهم، وفي نفس الوقت يُبقون اتحاد الشغل تحت الضغط برفعهم سقف  البرنامج الاقتصادي الاجتماعي المواجه للدولة وسياساتها.

العنصرية: منتوج إيديولوجي للإمبريالية

في سياق أزمة شاملة وممتدة يمرّ بها المجتمع التونسي، شرعت جماعة شوفينية تُدعى بالحزب القومي التونس  في الترويج لأكاذيب حول مؤامرة استيطانية وخطاب عنصري ضد المهاجرين السود. كعادته قام إعلام السوق والبرجوازية بتغذية هذا الخطاب وتضخيم الموضوع، طبعا بكل حياد، ليصبح بسرعة صاروخية مركز الاستعراض السائد. في إطار مناوراته لإنقاذ شعبيته المتراجعة ركب قيس سعيد الموجة بعقد مجلس أمن قومي حول المسألة (لم تقم بذلك حتى حكومة أقصى اليمين الإيطالية!). تبنّت فيه الدولة رسميا سردية المؤامرة الاستيطانية وأعلنت انطلاقها في سياسة قمع عنصري ممنهجة ستُوسّع من السيطرة البوليسية على المجتمع.

فهم مادّي للعنصرية

الّا أنّ المشكلة الحقيقية التي تواجه الماركسيين هي نجاح هذه القوى، على ما يبدو، في إقناع جماهير واسعة من الشعب بهذه السردية. فتصدرت مسألة المهاجرين السود حديث الساعة وانتشر الخطاب العنصري حولها على نطاق اجتماعي واسع بما في ذلك وسط الطبقات الشعبية.

أدانت الفئات التقدمية والأوساط اليسارية موقف الدولة والخطاب العنصري المتصاعد في موقف مشرف ليس بالغريب عن أصحابه. أنتجت في نفس الوقت حالة الاستياء خطابا جوهرانيا مضادا: "نحن شعب عنصري". هذا صحيح، لكنه خاطئ لأنه منقوص: كل شعوب العالم عنصرية. ليست العنصرية خصوصية تونسية ولا عربية ولا هي جوهر أو "طبيعة" إنسانية. كما أنها ليست مجرد فكرة خاطئة أو متخلفة تنمّ عن جهل يمكن إصلاحها فقط بالتعليم والإقناع. إنّ العنصرية متجذّرة في الأساس المادي للحداثة، أي في الرأسمالية العالمية.

انطلقت الرأسمالية استعمارية عنصرية وتطورت كذلك وستنتهي كذلك. من اكتشاف القارة الأمريكية وإبادة سكانها الأصليين إلى العبودية، من الاستعمار المباشر إلى الإمبريالية المعاصرة. بعد أكثر من نصف قرن من الدحض العلمي للأفكار العنصرية واستمرار مقاومتها الثقافية، مازالت هذه الإيديولوجيا قائمة، بل أن القوى السياسية التي تحملها تبدو في صعود في كل مكان.

منذ انطلاق حركته المجنونة وتحوله إلى محرك إنتاج الحياة (والموت)، يتراكم رأس المال في البلدان "البيضاء" من خلال استلاب واستغلال بقية البلدان والشعوب. منذ أكثر من نصف قرن تعيد الرأسمالية إنتاج هذا الاضطهاد والاستغلال داخل حدود كل دولة عبر الهجرة وإعادة الانتاج الإجتماعية.

تنعكس هذه البنى الدولية والاجتماعية على المستوى الرمزي في تراتبية أرقاها الأبيض وتتدرج نزولا إلى الأسود. إن من ينظر للوهلة الأولى ويرى حالة البلدان "السوداء"، والسود (كمجموعة) في بلدان أخرى، سيلاحظ أنها عموما أسوء من حالة البيض (كمجموعة). بالنظر للهيمنة الإيديولوجية للرأسمالية ولطبيعتها العنصرية فإن التفسيرات السائدة لهذا الواقع تُرجع أسبابه للسود أنفسهم لا لنمط الإنتاج المهيمن وسلطة القائمين عليه. من جهة أخرى، وعلى نفس المستوى، فإنّ الضعف الاقتصادي والسياسي للسود يجعلهم ضحية سهلة للاضطهاد والاستغلال.

فقط بالنظر للتاريخ المادي للرأسمالية يمكن فهم حالة فقر واستضعاف السود وظاهرة العنصرية في عموميتها. بنفس المنطق المادي التاريخي من السهل مثلا فهم العنصرية الجهوية داخل البلاد التونسية ويمكن مزيد تفصيل سلّم التراتبية العنصرية عالميا ووطنيا. وحده التحليل المادي يفسر فشل نصف قرن من مناهضة العنصرية في كل أنحاء العالم.

لن تتبدد العنصرية إذن إلا بتبدد أساسها المادي، أي بتحرّر إفريقيا وبلدان الجنوب التابعة من الإمبريالية.

رد سياسي على العنصرية

لا يعني هذا أن نقف مكتوفي الأيدي في وجه ما يحدث أو أن نعتبره لا-حدثا. في الحقيقة، وهذا قول بديهي، لم يصبح التونسيون عنصريين فجأة بعد تدخل الحزب القومي  التونسي وقيس سعيد. ما يحدث هو توظيف العنصرية الكامنة سياسيا أو ظهور عنصرية سياسية (بالمعنى الضيق للكلمة) في تونس. بشكل ملموس هذا يعنى تعبئة الجماهير وكسبها لفكرة مركزية: المهاجرون السود هم المشكلة الأساسية للشعب التونسي أو سبب مشاكله.

إن التوقف عند الإدانة الأخلاقية لهذا الخطاب ووصمه بالعنصري لن يغير موازين القوى في الصراع مع السلطة التي تحمله، بل سيكون له على الأرجح الأثر العكسي. إن الصراع السياسي يستدعي تعبئة الجماهير وكسبها لخطاب سياسي، لا وصمها بالعنصرية والجهل وإلى غير ذلك.

هذا الخطاب السياسي المقاوم هو خطاب الصراع الطبقي المناهض للإمبريالية، بمختلف تعبيراتها الايديولوجية بما في ذلك العنصرية، ويمكن تكثيفه في الفكرة التالية: سبب تفقير الطبقات الشعبية هو البرجوازية الكمبرادورية والدولة التابعة والهيمنة الإمبريالية وليس المهاجرين السود الذين يعانون من نفس النظام في تونس وفي بلدانهم الأصلية.

ويمكن في هذا الصدد التذكير بتاريخ النضال الجنوبي المشترك بين الشعوب والأمم المضطَهَدة ضد الامبريالية، والتأكيد على راهنيته المستمرة في هذه للمرحلة التاريخية.

أما المناهضة الليبرالية للعنصرية فتؤدي دائما إلى نتائج عكسية، لأنها لا تتناقض مع أساسها المادي في الرأسمالية بل تتبناه وتدافع عنه.

إنّ السبيل الوحيد للقضاء على العنصرية هو تناولها في علاقة بالصراع الطبقي المناهض للامبريالية، حتى لا تكون بدورها حاجزا دون تشكل وعي الطبقات الشعبية بمهامها التاريخية الثورية.

المفهوم التاريخي للطبقة (ترجمة)

توطئة المترجم

كُتبت أول مسودة لنص "حول الذات الثورية" منذ حوالي سنة من الآن. كمساهمة لفهم انهزام الثورة وتلافيه عبر توضيح طبيعة الصراع الطبقي القائم في البلاد وأطرافه.  على مستوى نظري، نقد النص هيمنة مفهوم مغلوط، أو منقوص على الأقل، للطبقة. في خضم النقاشات والبحث اللذين أثارهما النص داخل المجموعة الماركسية الثورية، اكتشفنا أن الحركة الماركسية شهدت سابقا جدالات مشابهة حول مفهوم الطبقة. دافع المؤرخ الماركسي الإنڤليزي إدوارد بالمر ثومسون عن نفس المفهوم الذي استعمالناه. إن لم يكن الوحيد، فقد كان من قام بتفصيله وتوضيحه بلغة سلسة وفصاحة كبيرة – حتما أكبر مما فعلنا في نصنا حول الذات الثورية. فضّلنا رغم ذلك عدم تعديل النص على ضوئه لعدة أسباب أهمها: من ناحية، تجنب إطالة نصنا وهيمنة النقاش النظري المجرد على بقية التحليل السياسي الملموس لسيرورة الصراع الطبقي في تونس والبلدان التابعة؛ من ناحية أخرى تقديرنا ضرورة ترجمة ونشر نص ثومسون كاملا حتى لا يفقد من وضوحه ودقته.

تعود هيمنة المفهوم المتوقف (أو الإستاتي أي غير الديناميكي، الذي لا يأخذ بعين الاعتبار التطور الزمني) للطبقة إلى هيمنة التيار البنيوي في الجامعة إلى حدود سبعينات القرن الفارط ومنها إلى داخل الحركة الماركسية خصوصا في فرنسا. بالنظر للارتباط الثقافي واللغوي يسهل فهم الانعكاسات في تونس. ورغم ذلك فإن أحد أكبر أعلام الماركسية البنيوية الفرنسية نيكوس بولونتزاس يكتب : "تعني الطبقات الاجتماعية بالنسبة للماركسية في نفس الحركة الواحدة تناقضات وصراعا طبقيا: لا توجد الطبقات الاجتماعية أولا، في حد ذاتها، لتدخل بعد ذلك في الصراع الطبقي، ما يتيح فرضية وجود طبقات دون صراع طبقي. تنطوي الطبقات على ممارسات طبقية، أي على الصراع الطبقي، ولا تُطرح إلا في تعارضها"[1].

لا نطن أن هناك ماركسيين جديين، يهتمون بالحد الأدنى بكتابات ماركس ويتبنون المادية التاريخية كمنهجية نظرية، يريدون إنكار هذا المفهوم. لكن الرهان ليس إقرار المفاهيم في تجريدها كإيديولوجيا بل استعمالها للوصول لنتائج جديدة محايثة لواقعنا.

النص أسفله ترجمة لمقتطف (الجزء IV) من نص أطول بعنوان "المجتمع الإنڤليزي في القرن الثامن عشر: صراع دون طبقة؟" كتبه ثومسون وصدر سنة 1978[2].


يبدو أنه من الضروري مرة أخرى، تفسير كيف يفهم مؤرخ – أو هذا المؤرخ – مصطلح 'طبقة'. منذ بعض خمس عشر سنة خَتَمْتُ عمل تحليل مطول تقريبا  للحظة تَشكُّلٍ طبقي خصوصية. أعطيت في التوطئة بعض التعليقات حول الطبقة، استخلصتْ: 'تُعَرَّفُ الطبقة من الناس من خلال عيشهم لتاريخهم وفي النهاية هذا تعريفها الوحيد'.[3]

من المفترض اليوم عند جيل جديد من المنظرين الماركسيين أن مثل هذا القول يجب أن يكون 'بريئا' أو (أسوأ بكثير) 'ليس بريئا': أي دليلا على استسلام لاحق للتجريبية والتاريخوية وإلخ. لهؤلاء الناس طرق أفضل بكثير لتعريف الطبقة: تعريفات، زيادة على ذلك، يمكن الوصول إليها في نطاق الممارسة النظرية ودون تعب البحث التاريخي.

كانت على كل حال تلك التوطئة مدروسة، منبثقة على كلا الممارستين التاريخية والنظرية. (لم أنطلق من الخلاصات الموجودة في التوطئة: عبرت التوطئة عن خلاصاتي.) عموما وبعد خمسة عشر سنة إضافية من الممارسة سأقرّ نفس الخلاصات. لكن يجب ربما إعادة صياغتها وتعديلها.

(1) الطبقة، في استعمالي، صِنْفٌ تاريخي: أي أنها مستخلصة من معاينة السيرورة الاجتماعية عبر الزمن. نعرف عن وجود الطبقة لأن الناس تصرفوا تكرار بطرق طبقية؛ هذه الأحداث التاريخية تكشف انتظامات رد فعل على وضعيات متماثلة، وفي مرحلة معينة (التشكّلات الناضجة للطبقة) نشاهد تشكّل مؤسسات، وثقافة بترميز طبقي، قابلة للمقارنات عبر-الوطنية. نُنَظِّرُ هذه المعطيات كنظرية عامة للطبقة ولتشكّل الطبقة: نتوقع إيجاد انتظامات معينة، 'مراحل' تطور، إلخ.

(2) لكن في هذه المرحلة إنه حقيقةً من الغالب جدا أن تأخذ النظرية الأولوية على المعطيات التاريخية المعتزم تنظيرها. من السهل افتراض أن الطبقة تتواجد، لا كسيرورة تاريخية، بل داخل رؤوسنا. طبعا لا نعترف أنها تدور فقط في رؤوسنا، رغم أن شيئا كبيرا من الحجاج حول الطبقة هو في الوقاع فقط حجاج في الرأس. بدل ذلك، تُنَظَّرُ نماذج وبنى يُفترَض أنها تعطينا محدِّدات موضوعية للطبقة: مثلا، كتعبير عن علاقات إنتاج متغايرة.[4]

(3) من هذا التفكير (الخاطئ) ينبثق المفهوم البديل للطبقة كصنف، استكشافي أو سوسيولوجي، متوقف. هذان الاثنان مختلفان لكن كلاهما يستعمل أصناف التوقف. في تقليد سوسيولوجي (وضعي في العادة) شعبي جدا، يمكن بذلك اختزال الطبقة في قياسات كمية حَرْفية: ذلك الكم من الناس في هذه أو تلك العلاقة مع وسائل الإنتاج، أو، في اصطلاح أكثر بذاءة، ذلك العدد من الأجراء أو من الياقات البيضاء إلخ. أو الطبقة هي ما يظن الناس في الطبقة أنهم ينتمون إليه إجابة على استجوابات؛ مرة أخرى، أُقصيت الطبقة كصنف تاريخي – مشاهدة السلوك عبر الزمن.

(4) أود أن أقول أن الطبقة كصنف تاريخي هو الاستعمال الماركسي الملائم والسائد. أظن أنه يمكنني أن أبيِّن أن هذا هو استعمال ماركس نفسه، في كتاباته الأكثر تاريخية، لكن هذا ليس المكان للمحاججة بمشروعية الكتب المقدسة. إنه حتما استعمال العديد (لكن ليس الكل) في التقليد البريطاني للتأريخ الماركسي، خصوصا من الجيل الأقدم.[5] لكنه صار من الواضح جدا على كل حال في السنوات الأخيرة أن الطبقة كصنف متوقف أخذت شغلا داخل قطاعات مؤثرة جدا من الفكر الماركسي أيضا. في الاصطلاح الاقتصادوي البذيء هي ببساطة توأم النظرية السوسيولوجية الوضعية. تُستخلص من النموذج المتوقف لعلاقات الإنتاج الرأسمالية الطبقات التي يجب أن تتماشى معه والوعي الذي يجب أن يتماشى مع الطبقات ومواقعها النسبية. يوفر ذلك في شكل معتاد (عادة لينيني) تعليلا جاهزا لسياسة 'الإبدال': أي 'الطليعة' التي تعرف أفضل من الطبقة نفسها ما يجب أن تكون مصالحها (ووعيها) الحقيقي. إن لم يكن لها ذلك الوعي فإنه، مهما كان، 'وعي زائف'. في شكل (معقد أكثر بكثير) بديل – مثلا مع ألتوسار – لا يزال لدينا صنف متوقف بعمق؛ صنف يجد تعريفه فقط داخل كلية بنيوية متوقفة عالية التنظير، تنفي السيرورة المعاشية الحقيقية للتشكّل الطبقي. رغم تعقيد هذه النظرية، النتائج مماثلة جدا للصيغة الاقتصادوية البذيئة. للإثنين مفهوم متماثل لـ 'الوعي الزائف' أو 'الإيديولوجيا' رغم أن النظرية الألتوسارية تنزع لامتلاك عتاد نظري أكبر لتفسير الهيمنة الإيديولوجية ومغالطة الوعي.

(5) إذا عدنا إلى الطبقة كصنف تاريخي، يمكن أن نرى أن المؤرخين يمكن أن يستعملوا المفهوم بمعنيين مختلفين: (أ) بالعودة على محتوى تاريخي حقيقي مطابق يمكن مشاهدته تجريبيا؛ (ب) كصنف استكشافي أو تحليلي لتنظيم المعطيات التاريخية، له علاقة تطابق أقل مباشرة بكثير.[6] يمكن في نظري استعمال المفهوم بشكل مناسب بكلا الطريقتين؛ لكن غالبا ما يحصل خلط عندما نمر من معنى إلى آخر.

(أ) إنه صحيح أن الطبقة بمعناها الحديث برزت في مجتمع القرن التاسع عشر الرأسمالي الصناعي. أي أن الطبقة في استعمالها الحديث لم تصر متاحة إلا للمنظومة العقلية للناس الذين عاشوا في ذلك الزمن. لا يمكّننا إذن المفهوم فقط من تنظيم وتحليل المعطيات؛ إنه أيضا، بمعنى جديد، حاضر في المعطيات نفسها. يمكننا أن نشاهد في بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا الصناعية، مؤسسات طبقية، أحزابا طبقية، ثقافات طبقية، إلخ. قامت المعطيات التاريخية بدورها، بإنشاء المفهوم الناضج للطبقة وإلى درجة معينة رشمته بخصوصيتها التاريخية.

(ب) يجب أخذ احتياطات من هذه الخصوصية التاريخية (غير المناسبة زمنيا) عندما نستعمل المصطلح في المعنى الثاني في تحليل مجتمعات سابقة للثورة الصناعية. لأن مطابقة الصنف للمعطيات التاريخية تصبح حينها غير مباشرة بشكل كبير. إن لم تكن الطبقة متوفرة داخل المنظومة العقلية للناس أنفسهم وإن رأوا أنفسهم وخاضوا معاركهم التاريخية بمسميات 'منازل' أو 'رتب' أو 'درجات' إلخ. فيجب إذن إذا وصفنا هذه الصراعات بمسمى الطبقة أن نمارس الحذر ضد أي نزعة للقراءة الرجعية لترميز لاحق للطبقة.

خيارنا مواصلة استعمال الصنف الاستكشافي للطبقة (رغم هذه الصعوبة الحاضرة باستمرار) ليس نابعا من كماله كمفهوم بل من واقع انعدام أي صنف بديل لتحليل سيرورة تاريخية جلية وكونية. لذلك لا يمكننا (في اللغة الإنڤليزية) أن نتحدث عن 'صراع-منازل' أو 'صراع-درجات' بينما تم استعمال 'صراع-طبقات' لا دون صعوبة لكن بنجاح ملحوظ من مؤرخي مجتمعات قديمة وإقطاعية ومجتمعات مطلع الحداثة؛ وفرض هؤلاء المؤرخون أنفسهم خلال استعمالهم ترويقاتهم وتعديلاتهم على المفهوم داخل الحقول التاريخية لكل منهم.

(6) يؤكد هذا على كل حال أن الطبقة في استعمالها الاستكشافي غير قابلة للفصل عن مفهوم 'الصراع-الطبقي'. أُعطيَ حسب رؤيتي كثير جدا من الاهتمام النظري (الكثير منه غير تاريخي) لـ 'الطبقة' والقليل جدا لـ 'الصراع الطبقي'. فعلا  الصراع الطبقي هو المفهوم الأولوي وأيضا الأكثر كونية. لقول الأمور بشكل فج: لا توجد الطبقات ككائنات منفصلة، تنظر حولها وتجد طبقة عدوة ثم تبدأ في الصراع. على العكس، يجد الناس أنفسهم في مجتمع مهيكل بطرق محددة (بشكل حاسم، لكن غير حصري، في علاقات إنتاج) ويعيشون الاستغلال (أو الحاجة للحفاظ على سلطتهم على من يستغلون) ويحددون نقاط تضاد مصالح ويبدأون في الصراع حول هذه المسائل وفي سيرورة الصراع يكتشفون أنفسهم كطبقات ويُعْرَف هذا الاكتشاف بالوعي الطبقي. الطبقة والوعي الطبقي هما دائما المرحلة الأخيرة لا الأولى في السيرورة التاريخية الحقيقية.[7] لكن إذا استعملنا صنفا متوقفا للطبقة أو إذا استخلصنا مفهومنا من نموذج سابق لكلية بنيوية لن نفترض ذلك: سنفترض أن الطبقة موجودة فورا (مستخلصة كإسقاط هندسي من علاقات الإنتاج) وأنه بذلك فالطبقات تتصارع.[8] ننطلق بعد ذلك في الحماقات اللامتناهية من القيس الكمي للطبقات أو من الماركسية النيوتونية التي تقوم فيها الطبقات وشرائح الطبقات بتطوراتها الهبائية أو الكوكبية. كل هذه البلبلة البائسة حولنا (كان علم الاجتماع الوضعي أو البنيوية-الماركسية المثالية) هي نتيجة الخطأ المسبق: كون الطبقات توجد مستقلة عن العلاقة التاريخية والصراع وأنها تتصارع لأنها موجودة، بدل كونها تأتي للوجود من الصراع.

(7) أتمنى أنّ لا شيء مما كتبت أعلاه أفضى إلى فكرة كوني أفترض أن تشكّل الطبقة مستقل عن المحدِّدات الموضوعية، أن يمكن تعريف الطبقة ببساطة كتشكيلة ثقافية إلخ. أتمنى أن هذا دُحِض بممارساتي التاريخية وأيضا في ممارسة عديد المؤرخين الآخرين. تتطلب هذه المحدِّدات الموضوعية حتما الفحص الأكثر دقة.[9] لكن لا يمكن لأي فحص للمحدِّدات الموضوعية (وحتما لأي نموذج مُنَظَّرٍ منه) أن يعطي أي طبقة ووعي طبقي في معادلة بسيطة. تَحْدُثُ الطبقة بعيش الرجال والنساء لعلاقات إنتاجهم وبينما هم يعيشون وضعياتهم المحددة داخل مجمل العلاقات الاجتماعية بثقافتهم وانتظاراتهم الموروثة وبينما هم يتعاملون مع هذه التجارب بطرق ثقافية. بذلك لا يمكن لأي نموذج في النهاية أن يعطينا ما يجب أن يكون تشكُّل طبقي 'صحيح' في 'مرحلة' معينة من السيرورة. ليس أي تشكُّل طبقي في التاريخ أصحّ أو حقيقيا أكثر من أي آخر وتُعَرِّف الطبقة نفسها، في الواقع، وهي تَحْدُث.

الطبقة مثلما حدثت داخل مجتمعات القرن التاسع عشر الرأسمالية الصناعية ومثلما تركت طبعتها على صنف الطبقة الاستكشافي، ليس لها في الواقع أية أحقية في الكونية. الطبقة بذلك المعنى ليست أكثر من حالة خاصة من التشكيلات التاريخية التي تنبثق من الصراع الطبقي.


[1] Nicos Poulantzas, Les classes sociales dans le capitalisme aujourd'hui, 1974


[2] E. P. Thompson, Eighteenth Century English Society: Struggle Without Class?, Social History, Vol. 3, No. 2 (May, 1978), pp. 133-165


[3] The Making of the English Working Class (Pelican edn), 11


[4] لا أقصد طبعا أن أوحي بأن مثل هذا التحليل البنيوي المتوقف ليس قيما وأساسيا فعلا. لكن ما يعطينا إياه هو منطق تحديدي (بمعنى كلا 'وضع حدود' و'تسليط ضغوطات': أُنظر النقاش بالغ الأهمية حول الحتمية في رايموند ويليامس، الماركسية والأدب (Raymond Williams, Marxism and Literature) وليس الخلاصة التاريخية أو المعادلة – أن هذه العلاقة الإنتاجية = هذه التشكيلات الطبقية. أنظر أيضا الفقرة (7) أسفله والملحوظة 8 أسفله.


[5] يبدو لي أن هذا هو الاستعمال الموجود عموما في الممارسة التاريخية لرودني هيلتون وإ. ج. هوبسباوم وكريستوفار هيل وعديد الآخرين.


[6] أنظر:

E. J. Hobsbawm, 'Class consciousness in history', in Istvan Meszaros (ed.), Aspects of History and Class Consciousness (1971), 8

'تحت الرأسمالية، الطبقة هي الواقع التاريخي المُعاشُ دون وساطة وبمعنى ما مباشرة، في حين أنها يمكن أن تكون في العهود السابقة للرأسمالية مجرد بناء تحليلي يعطي معنًا لتركيبة من الوقائع غير قابلة للتفسير دون ذلك'.


[7] هوبسباوم نفس المرجع السابق: 'لأغراض المؤرخ... الطبقة ومسألة الوعي الطبقي لا يمكن فصلهما. لا تأتي الطبقة بمعناها الكامل للوجود إلا في اللحظة التاريخية التي تبدأ فيها الطبقات بكسب الوعي بذواتها كذلك'.


[8] يبني الإقتصاد السياسي الماركسي، في عملية تحليلية ضرورية، كلية تُطرح داخلها علاقات الإنتاج مسبقا على أنها طبقات. لكن عندما نعود من هذه البنية التجريدية إلى السيرورة التاريخية الكلية نجد أن الاستغلال (الاقتصادي، العسكري) يُعاش بطرق طبقية وفقط بعد ذلك تنشأ عليه تشكّلات طبقية. أنظر نصي:

 Orrery of Errors' in Reasoning, One (Merlin Press, September 1978)


[9] حول محددات البنية الطبقية (وعلاقة الملكية أو 'استخراج الفائض' التي تفرض حدودا وإمكانيات و'مناويلا على الأمد الطويل' في مجتمعات أوروبا ما-قبل-الصناعية)، أنظر:

Robert Brenner, 'Agrarian class structure and economic development in pre-industrial Europe', Past and Present, LXX (February 1976), esp. 31-2

حول الذات الثورية


يعتبر الماركسيون أن الصراع الاجتماعي أو الطبقي هو محرك التاريخ في المجتمعات المنقسمة أو الطبقية. هذه إحدى أهم أطروحات ماركس. لكن مفهوم الطبقة الذي هيمن استعماله على الحركة الماركسية يمثل انحرافا اقتصادويا وبنيويًا (نسبة للتيار البنوي الذي هيمن في الجامعات الغربية بعد الحرب العالمية الثانية) أو موضوعويا (أي يهمل الجانب الذاتي). انطلق هذا الانحراف من الاستناد السطحي على بعض النتائج التي توصل إليها ماركس (أو بعض الماركسيين المهمين) في زمانه ووسطه الجغرافي بدل استعمال منهجيته المادية لفهم واقع زماننا ومكاننا. لم يكن لذلك انعكاسات نظرية وسياسية مهمة في المجتمعات التي شابهت تلك التي أفرزت هذه الأفكار. لكن كلما الصراع ابتعدنا في الزمان والمكان كل ما جانبت الواقع واشتد العجز السياسي للماركسيين. لا شك أن ثورة 2010-2011 والعشر سنوات التي تلتها من الصراع الاجتماعي في تونس من أهم الأمثلة على زيف كل إيديولوجيات الماركسيين التونسيين. أخطأت كل توقعاتهم النظرية وتتالت هزائمهم السياسية. انعكس ذلك مثلا في خطابات هلامية حول "الشعب" مصحوبة بإدانات لـ "الشعبوية"! كما تُرجم أيضا في دعوات لـ "اليسار" ووحدته بدل التوجه لطبقة عاملة غير موجودة فعلا (كأكثر من جملة العمال). إن فهم السياسة كمعركة اليسار ضد اليمين، أي كمعركة أفكار صرفة، هو ضرب من ضروب المثالية. بالتالي فهو في قلب التصفوية لا فقط للماركسية بل للمادية أصلاً. تناقض الأفكار هو انعكاس للصراع الاجتماعي. إن الأفكار مهما كانت جذرية فهي ليست ثورية طالما لم تُعَبّر عن قوة مادية، أي عن طبقة اجتماعية ثورية.

مقدّمات نظرية

يجب منذ البداية توضيح مشكل لغوي وخطأ تاريخي في الترجمة. إن كلمة طبقة ترجمة سيئة للمفردة التي استعملها ماركس (klasse بالألمانية، classe بالفرنسية، class بالإنڤليزية). كانت كلمة قسم (أي جزء من كُلٍ منقسم) المستعملة كترجمة في سياقات أخرى ستكون أفضل. هذا أنّ كلمة طبقة، وهي مرادفة تقريبا لكلمة شريحة في اللغة العربية، تفضي مباشرة إلى نوع من التراتبية الاقتصادية العمودية. ساهم ماركس نفسه في هذا الخطأ عندما كتب في البيان الشيوعي: "وفي العهود التاريخية الأولى نجد في كل مكان تقريبا تقسيما كاملا للمجتمع إلى مراتب متمايزة (نلقى) تدرجا متفاوتا للمنزلة المجتمعية. ففي روما القديمة كان ثمة نبلاء وفرسان وعامة وعبيد وفي القرون الوسطى، أسياد وإقطاعيون، ومقطعون، ومعلمون وصناع، وأقنان. إضافة إلى ذلك نجد في كل طبقة من هذه الطبقات تراتبية فارقة [...] غير أن عصرنا عصر البرجوازية يتميز بتبسيطه التناحرات الطبقية. فالمجتمع كله ينقسم أكثر فأكثر إلى معسكرين كبيرين متعاديين إلى طبقتين كبيرتين متجابهتين مباشرة: البرجوازية والبروليتاريا". هذا بدوره يوحي بأن المعركة تدور بين التحت والفوق أو بين الفقراء والأغنياء أو العمال والأعراف أو المضطهَدين والمضطهِدين. هذا الفهم أدى إلى استعمال كلمة الطبقة بمفاهيم مغايرة تماما للتي استعملها ماركس. فيُعرّف البعض الطبقة بمستوى الدخل وتتحدث مثلا نظرية التقاطعية عن الطبقة كمحور من محاور التمييز أو الاضطهاد إلى جانب العرق والنوع والأهلية الجسدية والتوجه الجنسي إلى غير ذلك. إن هذا المنطق الأخلاقي الذي ينطلق من وضع الضحية يجعل من أولوية "الاضطهاد الطبقي" خيارا اعتباطيا أو "ذاتيا". فليس هناك معيار أخلاقي حديث (والمعايير الأخلاقية تتغير تاريخيا) يقول بأولوية الدفاع عن الفقراء أو المستغلين اقتصاديا على الدفاع عن ضحايا العنصرية أو الذكورية.

يكتب ماركس وانڤلز في الإيديولوجيا الألمانية: "وانبثقت في المدن، إلى جانب الفلاحين الذين كانوا يمارسون الحياكة لمنفعتهم الخاصة والذين استمروا ولا يزالون مستمرين في هذا النوع من العمل، انبثقت طبقة جديدة من الحائكين كانت معاملهم وأقمشتهم معدة للسوق الداخلية بكليتها وفي معظم الأحيان للأسواق الخارجية". هاتين الطبقتين كما نقرأ موجودتان إلى جانب بعضهما البعض ولا واحدة منهما فوق الأخرى وهو حال طبقتي الفلاحين والعمال عموما. لم يمنع ذلك تعارضهما وتصارعهما اللذين تعرفهما جيدا الأدبيات الماركسية وتجارب البناء الاشتراكي. نعرف أيضا أن ماركس وأنڤلز نعتا البروليتاريا-الرثة بأقسى النعوت واعتبرا الفلاحين طبقة محافظة أو حتى رجعية في سياقات معينة[1]. هذا رغم كون هاتين الطبقتين من أكبر ضحايا صعود الرأسمالية الذي شهده الكاتبين. أكثر من ذلك، نعرف أن الطبقة البرجوازية التي قادت الثورة على الإقطاع لم تكن أكثر الطبقات معاناة من الاضطهاد تحت ذلك النظام.

بعد هذه التوضيحات يمكن الآن طرح مفهوم الطبقة الماركسي. إن الطبقات تُعَبِر عن نفسها بخوضها الصراع الاجتماعي وهو بذلك صراع طبقي. تعبر هذه الطبقات عن ذاتها وتعرف بنفسها عن طريق ممارساتها وعلاقاتها الاجتماعية ببعضها البعض: بانفصالها، بصراعها، بتحالفها إلخ. "إن مختلف الأفراد لا يشكلون طبقة إلا بقدر ما يتوجب عليهم أن يخوضوا معركة مشتركة ضد طبقة أخرى؛ وفيما عدا ذلك فهم في حالة عداء متبادل في التنافس" (الإيديولوجية الألمانية).

ينتج عن هذه الممارسات الاجتماعية تغيّر المجتمعات، أي ما يسمى بحركة التاريخ. إنّ الطبقات إذن قوى اجتماعية وتاريخية. بينما تحدث ماركس دائما عن طبقات اجتماعية لا نعلم بحديثه عن طبقات اقتصادية.

من بين هذه الطبقات هنالك طبقة[2] تعبّر عن رفضها الكلي للمجتمع الطبقي (بما أن المجتمعات الموحدة، أي غير المنقسمة، لا تحتوي على طبقات حتى تعبر أحدها عن رفضها لها). هذه الطبقة هي البروليتاريا. مجددا يجب توضيح سوء فهم لغوي ونظري. تسمى بالبروليتاريا في الأصل الطبقة عديمة الملكية في جمهورية روما القديمة، حيث كان يتم تعداد الأطفال كملكيتها الوحيدة وكانت محرومة من حقوقها السياسية وإلى غير ذلك. بالتالي فالبروليتاريا ليست فقط مجموعة اجتماعية معينة تشكلت في الرأسمالية الصناعية بل هي مفهوم نظري تجريدي يمكن أن يجد تعبيرات اجتماعية مختلفة في مجتمعات تاريخية مختلفة: "ولقد كان للإقطاع أيضا بروليتاريته - القنانة التي كانت تحتوي كل بذور البورجوازية. كما كان للانتاج الاقطاعي عنصران متناحران يسميان أيضا الجانب الحسن والجانب السيء للإقطاع، دون اعتبار أن الجانب السيء ينتصر دائما على الجانب الحسن. إن الجانب السيء هو الذي ينتج الحركة التي تصنع التاريخ بتشكيل الصراع" (بؤس الفلسفة).

بسبب تهميشها التام من مؤسسات المجتمع القائم الاقتصادية والسياسية، ليس للبروليتاريا ما تخسره غير قيودها. هذا ما يجعلها الطبقة الثورية. "تولد [...] طبقة تتحمل كل أعباء المجتمع، من دون الاستمتاع بميزاته، وهي مطرودة من المجتمع بحيث لا بد لها أن تتخذ مكانها في المعارضة الأشد صراحة ضد جميع الطبقات الأخرى [...] وينبثق منها وعيُ ضرورة قيام ثورة جذرية، وعيٌ هو الوعي الشيوعي، يمكنه أيضا التشكل بالطبع عند الطبقات الأخرى عندما ترى وضع هذه الطبقة"(الإيديولوجيا الألمانية)

هذا يطرح بدوره مسألة المناضلين السياسيين الماركسيين وانتمائهم الطبقي. ما دامت ممارستهم الاجتماعية (بأبعادها السياسية والثقافية والاقتصادية) تساهم في وحدة الطبقة الثورية (ووحدتهم معها) وانتصارها في صراعاتها فهم جزء منها. يجب هنا الإشارة إلى نقطة مهمة. لا يمكن تفسير هذا الانتماء واستنتاجه من خلال دراسة البنية الاقتصادية للتشكيلات الاجتماعية وتقسيم العمل (بمعناه المتداول، فلا مجال هنا لمناقشة مفهوم العمل وتقسيمه) فحسب. أدت هذه الصعوبة النظرية إلى تفسيرات مثالية من خلال المبادئ والصدق والأخلاق والوطنية إلى غير ذلك. إن حل هذا المشكل بتطوير فهم مادي لتشكل الوعي الثوري سيكون حتما من أهم الإضافات للماركسية. لا شك أن هذا الفهم سيعتمد أكثر على العلوم النفسية والاجتماعية من الاقتصادية.

الطبقة الثورية أو البروليتاريا

"طروحات الشيوعيين النظرية لا تقوم قطعا على أفكار، على مبادئ ابتكرها أو اكتشفها هذا أو ذاك من مصلحي العالم. إنّها فقط تعبير عام عن الشروط الحقيقية لصراع طبقي قائم عن حركة تاريخية تجري أمام أعيننا." - البيان الشيوعي. 

شهدت تونس في 2010-2011 انتفاضة ثورية، أي هجوما عنيفا للطبقة الثورية على الطبقة المهيمنة وحلفائها. تمثل تلك الفترة من الصراع الاجتماعي المشتد تجربة تاريخية تمكننا دراستها من تصوير خطوط الانقسام الطبقي بأعلى درجات الدقة الممكنة وتحديد ميدان الصراع الطبقي وتقييم النظريات المطروحة وتبديد الأوهام الإيديولوجية.

كيف يمكن وصف وتسمية الطبقة التي كانت في طليعة هذا الانفجار الثوري؟ انطلقت المعركة من المناطق الداخلية المفقرة إثر حرق محمد البوعزيزي البائع المتجول لنفسه. بعد فترة التحقت الأحياء الشعبية في أحزمة المدن الساحلية الكبرى. قامت هذه الجماهير بمهاجمة مباني وممثلي مؤسسات الدولة وخصوصا بالصدام مع قوات البوليس وحرق مراكزه. هؤلاء عمال يوميون خارجون عن المؤسسات والقوانين والعقود والنقابات أو معطلون عن العمل. إن كانت أنشطتهم الاقتصادية مختلفة ومبعثرة وغير قارة فإن هؤلاء مستقرون ومتركّزون في تجمعات سكنية كبيرة. هؤلاء هم سكان الأحياء العشوائية التي تطوق المدن الكبرى والمعتمديات الفقيرة حيث يقضون فترات طويلة من حياتهم وأين يتشكل وعيهم ووحدتهم، وبالتالي وحدة وعيهم. في غياب تسمية أفضل سنسّمي هؤلاء بالهامشيين - من الهامش الاجتماعي، أي وبالتالي الهامش الاقتصادي والجغرافي والسياسي.

طيلة عشر سنوات عبّرت هذه الجماهير عن نفسها كطبقة باحتجاجات متواترة. مهما كان سبب ومكان اندلاعها كانت تنتشر في نفس المساحة الاجتماعية والجغرافية. تستهدف نفس الأعداء وتنتهج ممارسات متشابهة. لا تعبر عادة عن مطالب مقبولة من المجتمع السائد وبقية الطبقات المهيمنة والمضطهدة التي تشكله بل عن رفضها التام وحتى الأصمّ له. نتحدث هنا عن ذات تاريخية حيث صنعت تاريخ العشر سنوات الماضية: انتفاضها أولا ثم بتواصل تعبيرها عن نفسها كأهم فاعل خارج النظام القائم على هزيمتها. هذه هي بروليتاريا تونس في بداية القرن الواحد والعشرين.

وإن بدت هذه الأطروحة وتقديمها كتجديد نظري أو كتحريف لمقدسات الماركسية في تونس فإنها ليست بالجديدة وليست بالغريبة عن الماركسية. منذ السبعينات لاحظ بعض أهم الماركسيين تشكل هذه الطبقة، خاصة في أطراف الرأسمالية العالمية. لعل ڤوندر-فرانك هو أكثر من أكد على أهمية هذه الطبقة تحديدا في أمريكا الجنوبية: "في الواقع، "الريفيون" هم البروليتاريا الحقيقية، [سواء] كانوا ما يزالون على الأرض أو مرميّين كما هو الحال الآن في الأحياء العشوائية للمدن"[3]. التحق بمنظري التبعية بعض الماركسيين من مراكز الرأسمالية مثل المؤرخ الإنڤليزي إريك هوبزباوم[4]. لكن لعل أهم عمل ممنهج حول هذه الأطروحة هو في رصيد الجغرافي الماركسي الأمريكي مايك ديفيس[5]. يبيّن هذا الأخير أن هذه الطبقة متشكلة في ذاتها على مستوى عالمي؛ وإن بصفة خاصة في البلدان الطرفية فهي موجودة كذلك في مراكز الرأسمالية. كما يناقش مطولا صفتها كذات تاريخية بمقارنتها بتشكل البروليتاريا الصناعية الغربية كذلك[6].

هذا الهامش، هذه البروليتاريا الجديدة ليست إذن خصوصية تونسية. فقد عبّرت عن نفسها بصفة تلقائية على نطاق العالم العربي: في المغرب ومصر وسوريا الخ بعد تونس. أما في أمريكا الجنوبية فقد وصلت إلى التشكل كقوة سياسية منظمة وإلى تحقيق ثورات وإصلاحات لصالحها، ما يجعل هذه التجارب أولوية للدراسة. تعد الثورة البوليفارية أحد أهم الأمثلة على ذلك: "يسكن اليوم حتما أكثر من 90% من سكان فنزويلا في المدن [...] منذ اكتُشِفَ النفط في أوائل القرن العشرين [...] تغير وجه كل البلاد، بابتعاد الحياة السياسية عن حاجيات المجتمع لمواجهة السوق العالمية خلقت بذلك اختلالا جغرافيا واسعا في خضم هذه السيرورة. تخلى الفلاحون على مناطق ريفية خصبة من جهتها من أجل المدن، حيث أتت الأغلبية لتسكن الباريوس [الأحياء العشوائية في فنزويلا] المتضخمة التي تطوق المدن. باندفاع الفنزويليين إلى المدن تهاوى الإنتاج الفلاحي - في الحقيقة كل الإنتاج المحلي [...] في كراكاس تعظّمت هذه السيرورة التمدينية باقتصاد النفط: كنقطة العبور لكل الثروة المستخرجة من باطن الأرض أغوت العاصمة الملايين من الريف بالبريق الرمزي لوعودها الزائفة غالبا بالحصول على حصة من ثروة النفط. إن هؤلاء السكان الجدد للباريوس - الذين بنوا مساكنا غير نظامية في الهضاب [التي تحيط بالعاصمة كاراكاس] والذين يدبّرون عيشهم عبر عمل غير نظامي على سطح السهل [وسط المدينة] - هم من قادوا انتفاضة الكاراكازو في 1989. الهوية والصراعات الجماعية التي انبثقت من الميدان الفوضوي للباريوس بسطت الأساس لتجارب جديدة في الديمقراطية الجذرية. ليس هؤلاء، في الغالب، عمال مصانع يتصدون لعرف في مكان العمل، بل عمال غير نظاميين يسدون خدمات أو يروجون البضائع المستوردة التي غمرت اقتصاد النفط. لم يواجهوا عَرفا فيزيائيا بل السوق نفسه، وتمحورت مطالبهم السياسية حول مكان سكنهم أكثر من مكان عملهم [...] شكلت الأحياء جمعيات ومجالسا تلقائية ومليشيات دفاع ذاتي شعبي في السنوات 1980 و1990 خصوصا بعد الكاراكازو. بدأوا يحكمون ويدافعون عن مجتمعاتهم - في مناطقهم - بأنفسهم [...] بالضبط مثلما لم يخلق شافاز الثورة البوليفارية - بل كانت السيرورة الثورية الطويلة التي "خلقت شافاز" - نفسه الأمر مع الكومونات. قبل أن تأخذ الدولة الفنزويلية مهمة بناء الكومونات من الفوق كان الثوريون يبنونها من الأسفل. كنتيجة، العلاقة بين الكومونات - بذرات اللادولة المستقبلية - والدولة الموجودة بعيدة على أن تكون سلسة"[7].

 إن كان مايك دايفس لا يزال يتساءل على مقامها (هل هي طبقة أم فئة؟ هل هي قادرة على الوعي بذاتها ومهمتها التاريخية؟ هل هي قادرة على إسقاط الرأسمالية؟…) كذات تاريخية فهي في تونس وعديد البلدان العربية كذلك فعلا.

تشير هذه المعطيات التجريبية إلى وحدة بنيوية. إن كنا انطلقنا من الصراع الاجتماعي لتعريف مفهوم الطبقة وتحديدها اجتماعيا في الواقع، فذلك لا يعني أن هذا الصراع الاجتماعي يقوم بصفة عشوائية. يندرج تَشَكُّل هذه الطبقات وعلاقاتها وممارساتها ضمن تاريخ نمط الإنتاج الرأسمالي المهيمن عالميا. فهذه الطبقات تُنتِج تناقضات قوى وعلاقات الإنتاج وإعادة-الإنتاج والتقسيم الاقتصادي للعالم والمجتمعات والبنى الثقافية والسياسية وتَنتُج عنها.

إن كنا أهملنا هذا الجانب البنيوي حتى هذه النقطة فذلك - إلى جانب نية التمايز وإبراز المسافة من التحليلات الاقتصادوية - للتأكيد على كون حركة الواقع الملموس، لا أية أفكار مسبقة، هي منطلق التحليل الماركسي. كما يسهِّل ذلك توضيح الفرق بين تعريف الطبقة من ناحية والأساس المادي لتشكّلها من ناحية أخرى. لكن إذا توقفت النظرية المادية التاريخية عند تفسير الوقائع بعد حصولها فهي لم تتجاوز الإيديولوجيا. إن المطروح هو تقدير تطور الواقع بهدف التأثير فيه. هذه هي غاية دراسة حركة أنماط الإنتاج والتشكيلات الاجتماعية.

على ضوء انتفاضة 2010-2011 ونضالات العشر سنوات التي تلتها حكم التاريخ على أهم عائلتين ماركسيتين في تونس. فلم نرَ ثورة ديمقراطية للفلاحين ضد شبه-إقطاع غير موجود أصلا ولا برجوازية وطنية تناهض شبه الاستعمار لتطوير إنتاجها المحلي. من الجهة المقابلة لم نر "الطبقة العاملة" ومجالسها في طليعة الحراك الثوري. بل أنّه في بعض الفترات تميز سلوك العمال بالانتهازية، إذ استغلوا المناخ الثوري لتحقيق بعض المكاسب القطاعية عن طريق وساطة أحد أجسام الدولة البرجوازية (اتحاد الشغل) بعيدا عن أي أفق ثوري.

إنه من الغريب أن يتشبث من يصفون نمط الإنتاج المهيمن بالرأسمالي التابع بـ "الطبقة العاملة". إن كنا لا نعرف النصوص التي يعتمد عليها حزب العمال، فإنّنا نعرف أنّ أهم منظري التبعية انتقدوا هذه الدوغمائية وأكدوا في دراساتهم للتركيبة الطبقية للبلدان التابعة على أهمية الهامش.

حول "الطبقة العاملة"

كان يمكن ألا يتطرق نص حول الذات الثورية في تونس 2022 لـ "الطبقة العاملة". فقد كانت كما قلنا متخلفة عن المسار الثوري، أي لم تعرب عن ثوريتها المفترضة وبعد عشر سنوات يمكن حتى التساؤل إن كانت طبقة متشكلة فعلا أي تقوم بممارسات طبقية موحدة تعبيرا عن ذاتها أو دفاعا عن مصالحها. فقد رأينا طيلة العشرية الفارطة الكثير من النضالات العمالية لكن لم نر نضالات للطبقة العاملة. اتسمت هذه النضالات عموما بالفئوية الضيقة. إذ توجد اختلافات مهمة بين عمال القطاعين العام والخاص وبين عمال الشركات (المرتبطة بالسوق) الوطنية والشركات المرتبطة مباشرة بالإمبريالية وبين مختلف العمال والبيروقراطية النقابية التي تهيمن عليهم.

لكن إن كانت طبقة عاملة ثورية ليست جزءا من واقعنا فإن وهم وجودها جزء منه على الأقل في الأوساط الماركسية. هذه الفكرة مبنية على إسقاط بعض النتائج التي توصل إليها ماركس في زمانه على واقع مغاير وعلى بعض تقديراته التي أثبت التاريخ خطأها. أخطاء يمكن تفسير الكثير منها بأورومركزيته.

يراهن ماركس في البيان الشيوعي على تبسيط الرأسمالية للمجتمع باختزاله في طبقتين: العمال والبرجوازية. وبذلك تصبح الطبقات تحت الرأسمالية مطابقة تماما لتقسيم العمل ولا تغدو انعكاسا (ليس بالضرورة مباشرا) له كما كان الحال في المجتمعات السابقة. إن بقيت هذه النزعة التاريخية صحيحة لفترة معينة - أساسا فترة صعود الرأسمالية وتصفية بقايا الإقطاع (أو المرور من الهيمنة الشكلية إلى الهيمنة الحقيقية لنمط الإنتاج الرأسمالي)، فإنه سرعان ما تبين خطؤها على المدى الطويل وعلى امتداد جغرافي أوسع.

خلق التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج إضافة إلى الصراع الطبقي جملة من الطبقات الاجتماعية والأنشطة الاقتصادية الجديدة، ولم تعد الطبقة العاملة كما عرفها ماركس حتى أغلبية عددية في كل المجتمعات المعاصرة. كما أن الإصلاحات التي نجحت في فرضها حسّنت ظروف عيشها فلم تعد بروليتارية وأصبح لديها ما تخسره إلى درجة أن صراعاتها الأساسية أصبحت تتمحور حول الحفاظ على مكاسبها ضد الهجمة النيوليبرالية. يمكن حتى القول أنها في عديد الأحيان أصبحت طبقة محافظة.

في نفس الوقت خلقت النيوليبرالية طبقة من الهامشيين لم يعد ممكنا وصفهم بجيش الاحتياط في ظل البطالة الهيكلية التي تميز هذا الطور والانحدار التاريخي للطبقة العاملة أمام التطور التكنولوجي. إن حركة الرأسمالية النيوليبرالية ليست سيرورة تشكيل طبقة عاملة صناعية (مثلما كان الحال في زمن ماركس) بل هي عملية تهميش لهذه الطبقة وغيرها أي تشكيل طبقة الهامش. الهامش هو مستقبل الرفض الاجتماعي.

هذه الحركة التاريخية موجودة بأكثر وضوح وشدة في البلدان التابعة. منذ البداية لم يهتم ماركس بالمستعمرات إلا في علاقتها بتطور الرأسمالية في المراكز. تطور افترض أنه سيجتاح العالم وينحته على صورة أوروبا. إذ لم يفهم أن تطور المراكز الرأسمالية لا يمكن أن يحدث إلا بخلق أطراف أو هوامش لها. شيّد هذا التطور الطرفي التابع بنى اجتماعية أكثر بعدا عن ثنائية برجوازية-عمال الاختزالية التي اقترحها ماركس. ثنائية لم تكن ولن تكون في هذه البلدان. ورغم ذلك أو نظرا له كانت هذه الأطراف وأشباه/أنصاف-الأطراف مسارح الثورات الاجتماعية والوطنية بينما انهزمت وتراجعت الطبقة العاملة في المراكز الإمبريالية.

نشأت الطبقة العاملة الصغيرة والضعيفة في تونس بالأساس بعد الحرب العالمية الثانية. حققت الرأسمالية، بنموها السريع خلال هذه الفترة، فوائض إنتاج كبيرة كانت الإمبريالية تقبل باستحواذ الأطراف على جزء منها. تمتع إذن العمال منذ بداية وطيلة هذه الفترة الديمقراطية الاجتماعية، بقوانين شغل وتمثيلية نقابية (في فترة أصبحت فيها النقابات من بين مؤسسات الإدارة البيروقراطية للمجتمعات) وتغطية اجتماعية وصحية. تبين مقارنة سريعة مع "ظروف الطبقة العاملة في إنڤلترا" التي وصفها إنڤلز في القرن 19 مثلا ومع أوضاع الهامشيين أن لهذه الطبقة عدة امتيازات لا يمكن أن تجعلها ثورية. بعد فترة قصيرة من رأسمالية الدولة أتت النيوليبرالية وسياسة الاندماج الكمبرادوري في الاقتصاد العالمي بضربة قاضية لا لأمل تشكل طبقة عاملة ثورية بل لمجرد تشكل العمال كطبقة تاريخية.

الكتلة التاريخية أو الطبقات الشعبية

إن القول بأن العمال باختلافهم يحظون بامتيازات مقارنة بطبقات أخرى لا يعني طبعا أنهم طبقة مهيمنة. كما أن القول بأنهم لا يشكلون طبقة ثورية لا يعني أنهم أعداء الثورة. فإلى جانب الاستغلال الرأسمالي العادي، يتميز الشغل في الفترة النيوليبرالية بهشاشة كبيرة لا سيما في البلدان التابعة، وخاصة في تلك القطاعات المرتبطة مباشرة بالخارج عبر الاستثمارات أو مثلا في شكل المناولة. هذا ما يجعل قسطا كبيرا من العمال مؤهلين للالتحاق بروليتاريا الهامش في كل لحظة (ربما مثلما كانت البرجوازية-الصغيرة التقليدية مؤهلة للالتحاق بالبروليتاريا الصناعية عند ماركس). ليست هذه مجرد فرضية بل هو واقع جار منذ أكثر من عشر سنوات. وإن كان العمال يقضون غالب وقتهم في العمل فإنهم عادة ما يسكنون الأحياء الشعبية حيث يتركز الهامشيون.

لكن العمال ليسوا الاحتياطي الوحيد للهامش. إن صغار الفلاحين هم الآخرون مقدمون على صراع، ربما يكون حاسمًا، مع البرجوازية الكمبرادورية والمستثمرين الفلاحيين المحليين والأجانب. أمام الهجمة التي تشنها الإمبريالية باسم التبادل الحر والأفضليات المقارنة لم يعد لهم الخيار: إما الالتحاق بالهامشيين في تكتل سياسي أو الالتحاق بهم اجتماعيا بعد إفلاسهم وبيع أراضيهم.

بعد تبدد وهم المجتمع الثنائي (برجوازية-عمال أو في صياغة أحدث 99% ضد 1%) على محك التاريخ والواقع يجب ألا نعيد إنتاج نفس الأوهام الاختزالية. إن بروليتاريا الهامش ليست بالطبقة الكونية (مثلما توهم ماركس البروليتاريا الصناعية الأوروبية) ولا نرى حتى أنها يمكن أن تشكل يوما أغلبية عددية (فمجتمع يهمش أغلبيته ساقط لا محالة). هذا لا يعني التنازل تماما عن الكونية أي فعليا عن تجاوز الطبقات وبناء مجتمع موحد. لكنه يعني الإقرار بأنها جدلية معقدة تشقها تناقضات وصراعات أعقد مما تخيل ماركس والماركسيون الأوائل على اختلافهم.

بناء على ذلك يمكن أن نستنتج نقطتين مهمتين على المستوى السياسي: أولا، لا مفر من دكتاتورية البروليتاريا. وإن كان من المهم نقاش أشكالها ومؤسساتها لتجنب المناحي الرجعية التي اتخذتها في تجارب الحركة الماركسية، فلا سبيل للتنازل للأوهام التلقاءوية والعفوية حيث يتبدد المجتمع الطبقي بمجرد إعلان تبدده. ستهاجم الثورة مصالح وامتيازات قطاعات واسعة من البرجوازية-الصغيرة والطبقات الوسطى إلى جانب البرجوازية والإمبريالية وستحتاج بالتالي لقمع هؤلاء (القمع لا يعني فقط العنف المادي المباشر لكنه يعني ذلك أيضا). لكن طبقة تطرح نفي نفسها كطبقة (لا إعادة إنتاج نفسها) وإلغاء الطبقات تستجيب بالضرورة لمطالب وحاجيات أغلبية المجتمع. تأتي بهذا للنقطة الثانية: تشكل البروليتاريا كتلة تاريخية تحت قيادتها. تكفي نظرة سريعة لتجارب حكم الحركة الاشتراكية حول العالم لتبين التناقضات التي تشق طبقتي العمال والفلاحين والصعوبات التي تطرحها. بعيدا إذن عن وهم الوحدة التامة بين المصالح الهامش والعمال والفلاحين يعد تحالف الطبقات الشعبية شرط صمود وديمومة الثورة والتقدم في بناء الاشتراكية.

يمكن أن يكون تمفصل هذا التحالف متحركا فتطرح بعض الصراعات طليعة تكتيكية (تجعل مثلا هجمة امبريالية مرتقبة على الفلاحة الفلاحين في الصف الأمامي للمعركة). لكننا لا نظن أن الثورة القادمة ستقوم على الإضراب العام ومجالس العمال ولا بمحاصرة المدينة بالريف. بل ستقوم على الأرجح بمحاصرة المدن الكبرى ولا سيما العاصمة بأحزمتها المهمشة مع فقدان الدولة البرجوازية لسلطتها على الهوامش الداخلية. هذا هو الميدان الاجتماعي والجغرافي للثورة ومنه تنطلق المراكمة لها.

الرفيق بالضيافي عضو المجموعة الماركسية الثورية

________________________________________

[1] أنظر: "الصراعات الطبقية في فرنسا" و"18 برومير لويس بونبارت".

[2] مبدئيا ليس هنالك ما يوجب أنها طبقة واحدة لا عدة طبقات.

[3] Andre Gunder-Frank - Capitalist Underdevelopment or Socialist Revolution, in Latin America: Underdevelopment or Revolution

أنظر أيضا في نفس الكتاب المقالين:

Instability and Integration in Urban Latin America

Destroy Capitalism not Feudalism

[4] History in the “Age of Extremes”: A Conversation with Eric Hobsbawm (1995)

[5] Mike Davis - Planet of Slums

[6] Mike Davis - Old Gods, New Enigmas: Marx's Lost Theory

[7] George Ciccariello-Maher - Building the Commune: Radical Democracy in Venezuela