مشروع نقد ذاتي لسنة من الانحراف السياسي



كتب هذا النص التقييمي من أحد أعضاء المجموعة الماركسية الثورية، مؤخر سنة 2024.

______________________________________________________


منذ مرور حوالي السنة من انطلاق مسار 25 جويلية، وبعد نقاشات متكررة، صار من الواضح للمجموعة الماركسية الثورية (ممث) أنه ذاهب إلى مآلات رجعية. تعد حالة الطبقات الشعبية من النقاط الأساسية في هذا التقدير (بل يجب أن تكون النقطة المركزية للماركسيين في الواقع). اتسمت بالاستقالة السياسية والإنهاك والإحباط واليأس وفقدان البوصلة. يضاف ذلك إلى ضعف تنظمها ومراكمتها للوعي الثوري في الفترة السابقة وهما شيآن مترابطان. ذلك ما جعلها تساند ثم تقبل سلبيا بالمسار الجديد.

انطلاقا مما سبق قدرت الممث أن المرحلة مرحلة دعاية وإعادة بناء للحركة الماركسية والبروليتارية. يعني ذلك فيما يعنيه أنها ليست مرحلة تحريض لقلب السلطة أو تحقيق إصلاحات نظرا لافتقاد الوزن الذي يمكن من طرح مثل هذه المهام. بناء هذا الوزن هو تحديدا الهدف التكتيكي الرئيسي [1]. ذهب حتى بعضنا لاعتبار أن اندلاع انتفاضات بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية قد يؤدي إلى تسريع وتشديد المنحى الرجعي وقد يرسي حتى سلطة أسوأ من القائمة.

في هذا السياق أتى هجوم 7 أكتوبر 2023. وقد مثل الحراك الجماهيري الذي أثاره في تونس جرعة أكسجين لم يكن يحلم بها أحد في جو الركود السياسي الخانق. إذ كانت فرصة للالتحام بالجماهير الشعبية والعمل صلبها تبين كل تحاليلنا أنها لن تتكرر كثيرا. كما أشعلت نار مناهضة الإمبريالية في صدور عديد الشباب اليساريين وأحيتها في قلوب بعض اليائسين القدامى.

لكن هذه الفرصة ضاعت بل تحولت بشكل مفاجئ إلى خلاف سياسي. إذ تشكل تيار في المجموعة انحرف عن خطها في مسألتين حارقتين على الأقل.

انخرط في مظاهرات متواترة دون تحضير أو أهداف سياسية واضحة، بتلقائية تتعارض مع جوهر الماركسية، مع الفعل الاستراتيجي الواعي. ذهب إلى أماكن بعيدة عن الطبقات الشعبية، التي أهملها تماما. انساقت وراءه المجموعة تحت تأثير حماس الأيام الأولى. فلم تنظم أي عمل جدي موجه للجماهير.

يسهل بصفة عامة الاشتغال على القضية الفلسطينية في الأوساط الشعبية حيث تعفى من عديد العوائق التي تعترض العمل السياسي. ورغم ذلك وفي سياق أكثر من مواتٍ، تخلفت المجموعة عن واجبها فلم تقم بحملات دعائية وتنظيمية في الأسواق الشعبية ولا حتى في الأحياء الشعبية حيث لها موطئ قدم. يعتبر هذا خروجا جذريا عن خطها السياسي، عن خط الطبقات الشعبية وأولويتها التي يمكن القول أننا صدعنا بعض الآذان بالحديث عنها.

وقد يجدي هنا التذكير بممارسة مؤسسة لهذا الخط. عندما فضلنا ذات شتاء 2021، التغيب عن مظاهرات صارت غير بناءة واستعراضية متوجهين إلى سبيطلة حيث قتل الشاب هيكل الراشدي على أيدي البوليس خلال الاحتجاجات. دون المبالغة في أهميتها العملية (لضعف القدرات على بناء علاقة مستدامة) كانت هذه خطوة ذات دلالة رمزية كبيرة. يمكن على ضوئها قيس مدى فداحة الانحراف الذي وقع في سياق طوفان الأقصى.

لم تتوقف الأخطاء في هذا الحد. فحتى المشاركة في المظاهرات كانت سيئة. شارك رفاقنا في قسمتها منذ أيامها الأولى ونقل طاقات بعيدا عن الجماهير. كانت الأخيرة تتجمع في الشارع الكبير وسط العاصمة، لكن عددا من المناضلين فضلوا التوجه إلى سفارة الولايات المتحدة في احتجاجات سكتارية ضيقة أحيانا بالتوازي مع تجمعات جماهيرية تلقائية وسط العاصمة. في مرحلة لاحقة كرروا تنظيم الوقفات أمام هذه السفارة البعيدة عن التجمعات الشعبية والتي يصعب الوصول إليها. اقتصرت هذه الوقفات طبعا على المناضلين وبعض الشباب المتحمس، وذهب عدد الحاضرين فيها متراجعا بسرعة إلى نواة صغيرة. أي أننا لم نكتف بعدم التوجه إلى الجماهير بل إن رفاقنا هؤلاء ذهبوا وتركوها عندما أتت معهم إلى شارع الحبيب بورقيبة.

هذا وغاب عموما التحضير السياسي الجدي للمظاهرات والدعاية للتصورات الماركسية حول ما يحدث في فلسطين وما يجب فعله عموما أو محاولة تنظيم ما أمكن من المتظاهرين في أطر مستدامة.

حاول البعض عقلنة هذه الممارسات، بحجة أن هذه الاحتجاجات مهمة للضغط على الإمبريالية حتى تقلص من دعمها للمجازر الصهيونية. فهذه الاحتجاجات تقول للإمبريالية، خاصة الأمريكية، أنها تفقد "هيمنتها الناعمة" أي مقبوليتها في "الرأي العام" التونسي. لكن أصحاب هذه الحجة لم يلاحظوا أن احتجاجاتهم الصغيرة أمام سفارة الولايات المتحدة التي لا يتجاوز حضورها حفنة من المناضلين تقول عكس ذلك. نفسه حال غيرها من المظاهرات التي تكررت بوتيرة منهكة في حين بدأ حجمها يتراجع.

لكن هذه الحجة ليست فقط مخطئة في التقدير العملي بل هي  في جوهرها أي في المنطق الذي تنطلق منه مخالفة للماركسية ولتكتيك المجموعة. إذ ينطلق هذا المنطق من هدف سياسي (الضغط على الإمبريالية…) ليس منهج تحديده واضحا تماما. ثم يقول أن على الشيوعيين (ربما مع حلفائهم) الصراع لتحقيقه. الصراع هنا هو تنظيم الاحتجاجات. في كل هذا تبخرت البروليتارية والجماهير الشعبية، وهو ما يمثل خروجا عن أول مبادئ السياسة الماركسية.

هذا الخطأ شائع بل هو الممارسة المهيمنة في أوساطنا والتي يجب تحديدا القطع معها. إذ يظن المناضلون أنهم هم من يخوضون الصراعات وأن ذلك هو تحديدا معنى أنهم مناضلون، في حين بيّن ماركس وانجلس أن الصراع ظاهرة اجتماعية تاريخية موضوعية، تمارسها قوى اجتماعية. أما الشيوعيون حسب المنظرين المؤسسين فلهم وظيفة أخرى وهي بالأساس التنظيم ونشر الوعي. من المفيد دائما التذكير بهذه الفقرات المعروفة نظريا والمتروكة عمليا كأنها مجرد ديكور:

« ما هو موقف الشيوعيين بالنسبة للبروليتاريين ككل؟ إن الشيوعيين لا يشكلون حزباً منفصلاً معارضاً للأحزاب العمالية الأخرى. ليس لديهم مصالح تفصلهم عن البروليتارية ككل. إنهم لا يضعون مبادئ خصوصية يودون قولبة الحركة العمالية حسبها.

(…)

إن الهدف المباشر للشيوعيين هو نفسه هدف جميع الأحزاب العمالية: تشكيل البروليتارية كطبقة، والإطاحة بالسيطرة البرجوازية، واستيلاء البروليتارية على السلطة السياسية. إن التصورات النظرية للشيوعيين لا تستند بتاتا إلى أفكار أو مبادئ اخترعها أو اكتشفها هذا أو ذاك من مصلحي العالم. بل هي ليست إلا تعبيرا عاما عن الظروف الحقيقية لصراع طبقي قائم، عن حركة تاريخية تجري أمام أعيننا

وليس مرجع هذا التخلي الجهل بهذا النص ولا الضعف النظري (وإن وجد)، فشيوعه يدل على وجود ظروف موضوعية قوية تفرضه. يمكن إرجاعها إلى فقدان الحركة الاشتراكية طابعها الجماهيري. توارث المناضلون طرق نشاط ربما قد كان لها معنى وجدوى عندما كان هناك الملايين وراء الأحزاب الشيوعية. في تونس حيث لم تكن الحركة الاشتراكية جماهيرية أبدا وبقيت دائما سكتارية، استورد الشيوعيون مقولات وأساليب عمل وأهداف ومهاما غير ملائمة لتطور الحركة في بلادهم وربما ذهب البعض (عن وعي أو غير وعي) لخوض الصراع السياسي مكان البروليتارية والجماهير لأنه رأى أنها سلبية أكثر مما يجب أن تكون – حسب رغباته الذاتية!

هكذا تجاهل رفاقنا المقولة المؤسسة للماركسية التي تقول أن « انعتاق العمال يجب أن يكون صنيعة العمال أنفسهم » والتي كتبت في صيغة معدلة وأكثر عمومية في أرضيتنا: « ثورة شعبية لن تكون إلا من صنع الطبقات الشعبية ». فذهبوا لتحقيق أهداف سياسية بأنفسهم، بمعزل عن الجماهير الشعبية، بل في أبعد الأماكن عنها.

ومن هنا يسهل فهم الانحراف الثاني الذي يحتويه نفس المنطق الذي نحن بصدد نقده. فمن قرر النضال والصراع مكان الجماهير من الطبيعي أن يتجاهلها في وضع أهدافه السياسية. هكذا قلب المنطق الماركسي رأسا على عقب في هذا التفكير السياسي. فبدل الانطلاق من وضعية الطبقات الشعبية ومرحلة تطورها في مسار تشكيل نفسها كتحالف طبقي (وظيفة الشيوعيين الماركسيين)، لتحديد المهام والأهداف السياسية، ينطلقون من رغباتهم أو مما يظنون أن الإنسانية أو الأمة أو الوطن أو هنا الشعب الفلسطيني، يحتاجه. ثم قد يعودون لمحاولة إقناع الشعب بالتحرك على هذه الأهداف. وليس مفاجئا أن يفشلوا في ذلك. هكذا يشتغل هذا المنطق اليوتوبي في عموميته. عمليا صار هؤلاء المناضلون في أغلب الأحيان يستغنون عن محاولة إقناع الجماهير بالتحرك على الأهداف والمهام التي وضعوها. فيذهبون لتحرك حولها بأنفسهم، كطائفة منفصلة، وهكذا تراهم الجماهير. إنغلقت الدائرة. هذا تحديدا ما حصل خلال الحراك الذي تلى طوفان الأقصى في تونس.

في حين كان تشخيصنا لحالة وديناميكية الجماهير الشعبية وتحديدنا للأهداف التكتيكية صحيحين، فشلنا في تفعيله عمليا، عندما سنحت الفرصة لذلك على نطاق واسع. لا شك أن الاضطرابات النفسية التي أثارتها حرب غزة، خلقت حالة من الانفعالية والتلقائية لم نتمكن من السيطرة عليها. يعود ذلك لضعف تطور ونجاعة الآليات والتقاليد الديمقراطية داخل مجموعة ناشئة حديثة العهد ولم يساعدنا تسارع الأحداث في ذلك.

لكن من يطمحون للتشكل كطليعة البروليتارية لا يمكن أن يتركوا للتلقائية والانفعالية مكان بينهم ويجب أن يعرضوها لنقد صارم وتقويم جذري.

وكما هو معروف عند فقدان البوصلة الجماهيرية، لا تأتي الانحرافات اليسراوية دون الانحرافات اليمينية الانتهازية. نجحت مجموعتنا، مع بعض الأخطاء أحيانا، في نقد مسار 25 جويلية كشكل سياسي جديد لإعادة إنتاج الرأسمالية التابعة التونسية دون الوقوع في يسراوية "إسقاط الانقلاب" أو انتهازية المساندة ("النقدية"). لكن الانسياق للاحتجاجوية غير الهادفة لم يمنع مهادنة السلطة بل كان الوجه الآخر له. إذ بمجرد إصدار رئاسة الدولة بيانا مساندا "لحق الشعب الفلسطيني…" ذهب بعض رفاقنا للحديث عن وحدة وطنية مع قيس سعيد! ثم ذهبوا من هناك إلى التوهم أن برلمانه سيصدر لهم قانون تجريم تطبيع.

فلم يقوموا بأية دعاية جدية لهذا المفهوم وهذا القانون صلب الجماهير حتى خلال حمى الاحتجاجات الجماهيرية في الأسابيع التي سبقت جلسة مناقشة القانون. ليس من الغريب بعد ذلك أن الحضور الجماهيري أمام البرلمان كان شبه منعدم والمظاهرات أمامه كانت ضعيفة. وفي الحقيقة لم يكن أي كم من الدعاية خلال تلك الأسابيع وحتى طيلة السنة المنقضية كافيا لتشكيل ميزان قوى سياسية لصالح قانون تجريم التطبيع. فيسراوية طرحه كهدف مباشر هي الخطأ الأصلي. وكان من الواضح لرفاقنا أن الجماهير الشعبية ليست جاهزة لتحقيق هذا الهدف فذهبوا للبحث عن قوى أخرى للوصول إليه. فكان الانحراف اليمني الانتهازي الذي تواصل طيلة السنة إلى حدود الانتخابات. إذ تكررت مطالبة الحكم القائم، والذي وصفته المجموعة بمسار نحو الاستبداد البوليسي، بقانون تجريم تطبيع كهدف مباشر قابل للتحقيق، في حين غاب أي عمل جماهيري ممنهج حوله. ولا شك أن في هذا شيء من اليأس تؤدي له بالضرورة النزعات البطولية الرومنسية المنعزلة عن الجماهير.

ومهما كان من أقلية هذا الانحراف السياسي أو أغلبيته أو التساهل معه طيلة السنة الفارطة، فيجب أن يكون اليوم محل نقد واتعاظ وإدانة من الممث. إذ أثبت الواقع اليوم خطأ كل توقعاته وأهدافه التي فشل في تحقيقها. كما يبين جرد سريع ضعف حصيلته السياسية.

فعلى كل التنظيمات الماركسية أن تسأل نفسها بعد مرور سنة شهدت فترات من الحراك الجماهيري والشبابي واليساري: هل نجحنا في إقناع البعض بتصوراتنا وتنظيمهم في مؤسسات مناسبة بشكل مستدام؟ وينطبق هذا على الحراك المساند للقضية الفلسطينية وعلى مناهضة القمع البوليسي وعلى صراع عاملات المتبسطة بولاية القيروان. لقد فشلنا في المهمة التي تبرر وجودنا كماركسيين: نشر الوعي والتنظم.

لن تكون "الظروف الموضوعية"، لسنين طويلة قادمة، أفضل بكثير مما شهدناه هذا العام. لذا لا يمكننا أن نلوم إلا أنفسنا. ضيعنا سنة مهمة. عساها تكون على الأقل درسا لنتجاوز نهائيا نزعات وسلوكات سياسية خاطئة طالت هيمنتها.

محمد بالهادي، عضو المجموعة الماركسية الثورية

______________________________________________________


1. لنتذكر، وفي سياق ثوري: « لقد بدأ البلاشفة نضالهم الظافر ضد الجمهورية البرلمانية (في الواقع) البرجوازية وضد المناشفة بحذر بالغ؛ لقد أعدوا له بعناية لا متناهية، خلافاً للرأي السائد اليوم في أوروبا وأمريكا. في بداية هذه الفترة لم نكن ندعو إلى إسقاط الحكومة؛ لقد أوضحنا أنه من المستحيل إسقاطها دون تغييرات مسبقة في تركيبة وعقلية السوفياتات […] وبدون هذا الإعداد الحذر والدقيق والمتّق والمثابر ما كان لنا أن ننتصر في أكتوبر 1917، ولا أن نحافظ على هذا النصر ». لينين - المرض الصبياني للشيوعية (اليساروية)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق