دولة الوسط: في جذور "الحلم التونسي" وحدود الديمقراطية الاجتماعية


مقدمة

"كالكابوس، يثقل إرث كل الأجيال الميتة كاهل أدمغة الأحياء"

–  کارل ماركس، الثامن عشر من برومير لويس بونابرت (1852)


تاريخ تكون الدولة التونسية الحديثة

سنة 1970، وضع المفكر الاقتصادي سمير أمين كتابا بعنوان "المغرب العربي الحديث" ناقش فيه سياسات دول المغرب العربي إثر استقلالها من الاستعمار الفرنسي. علّق أمين في الجزء الذي خصصه لتونس، على مشروع الآفاق العشرية (1962-1971) والذي عُرف بتجربة "التعاضد" [1] قائلا: "إنه تدخل للدولة يفتقر كثيرا للديمقراطية. بمعنى أن حساسيته إزاء المطالب الشعبية محدودة جدا، وأنه يؤمن بالنخب أكثر مما بالجماهير" . [2]

أمين الذي يتخذ منهاجا ماديا تاريخيا في تحليل الظواهر لا يبني حكمه على نظرة مثالية للديمقراطية تنطلق من معيارية متعالية على التاريخ، بل إنه يفسر افتقار الدولة للديمقراطية وتفضيلها للنخب على الجماهير عبر تحليل يرى الواقع كما هو في حركته وتغيّره لا كما هو "مفترض" سلفا أن يكون. فيعتبر بذلك أن النخب المتحكمة في الدولة التونسية الحديثة تقمع الطبقات الشعبية من عمال وفلاحين لا من خلال إقصائها من لعبة التداول على السلطة فحسب، بل عبر منعها من التنظم المستقل عن أجهزة الدولة. فالنظام الأبوي الذي أرسته نخبة الاستقلال كان يرى بأن مؤسسات الدولة هي الوحيدة القادرة على الاستجابة لمطالب "كُلِّ" الشعب والكفيلة بتحقيقها.

وبالعودة إلى تاريخ الحركة الوطنية التي ساهمت في الاستقلال من الاستعمار الفرنسي، كانت الطبقات التي أخذت بمقاليد الدولة الحديثة المستقلة سليلة أوساط برجوازية صغيرة تقتات من إنتاج سلعي صغير إما في فلاحة الزيتون أو التجارة البسيطة أو بعض الحرف [3] . ثم لما تعمقت علاقات الإنتاج الرأسمالية في تونس بفعل التغلغل الاستعماري، وجدت هذه الطبقة نفسها في موقع هامشي من عملية الإنتاج السلعي الكبير التي يقودها كل من رأس المال المستثمر وقوة العمل المستأجر. ونتيجة لهذا الإقصاء الاقتصادي، ارتأى أبناء هذه الطبقات اكتساب رأسمال ثقافي يحافظون به على وجودهم الاجتماعي، وعزز هذا التوجه سياقٌ عالمي أصبح فيه دارجًا تَشكّل دول وطنية ترتكز أساسا على قاعدة بيروقراطية واسعة. من ثُمّ، جعلت هذه النخبة من تجربتها الذاتية، التي أظهرت نجاحها في سياقها الخاص، قاعدة عامة ساست بها المجتمع التونسي الحديث.

هكذا راهنت دولة الاستقلال على التعليم كأمثل الحلول لفض معضلة التخلف. فآمنت بأن ثروة الأمم كامنة في "المادة الشخمة" أكثر مما هي ثمرة العمل اليدوي [4]. لقى هذا التوجه العام رواجا لأنه قدم نفسه نموذجا قد أظهر نجاحه لحامليه أنفسهم - أي رجالات الحركة الوطنية - الذين ترقّوا بالفعل إلى مراتب حكم بلاد خارجة من الاستعمار المباشر. ولكن هذه النخبة المتحكمة لم تستطع أن تبدّد عن عينيها غشاوة جهلها بحركة المجتمع على مستوى علاقاته الاقتصادية، فأَعْمتها إيديولوجيتها البرجوازية الصغيرة عن فهم الأزمات الاقتصادية التي ما انفك يختنق بها ما تسميه "منوال تنمية"، فواجهتها بالقمع.

تمحور مشروع الدولة الوطنية الناشئة إذن حول تكوين طبقة وسطى من أجراء يشتغلون في قطاعات نظام رأسمالية الدولة. فأنشأت مرافق عديدة تنظم العمل/الإنتاج بيروقراطيًا مثل مكاتب التشغيل التي توجه قوة العمل نحو مستثمريها والبلديات التي تشهد على حركة الملكية الخاصة والعقود السوقية والقباضات المالية التي تقتطع الضرائب والمدارس والمستشفيات ووسائل النقل التي تكون وترعى وتنقل، تباعا، الطبقة العاملة حتى تستمر في الإنتاج. بينما أوكلت هذا الأخير إلى القطاع الخاص المحلي المرتبط بنيويا برأس المال المُعَوْلَم من خلال الإلقاء بقوة العمل في غياهب التقسيم العالمي للعمل وذلك عبر التفريط في الموارد – بما فيها "المادة الشخمة" نفسها – بأسعار بخسة، بالتوازي مع تهرئة القطاع العام وتقويض قدرته على تشغيل نفس الفئات المتعلمة التي انبنت فوقها أسس الدولة الوطنية.


الحلم التونسي واضطرابات اليقظة

على هذا الأساس من التحليل، يمكننا أن نتلمس بعض العناصر التي دفعت بالانفجار الذي ضرب المجتمع التونسي بين 2010 و 2011. فمن جهة، تضخّم عدد من راهنوا على التعليم من أجل الترقي الاجتماعي، ومن جهة أخرى، أصبح التحصيل العلمي عاجزا شيئا فشيئا على ضمان التشغيل. الحساب لا يقابل بعضه إذن. فكان المحرّك الاجتماعي الذي قاد انفجار 2010 قد استقى وقوده من فئات واسعة أغلق أمامها باب تحقيق الوعد الذي طرحته الدولة الوطنية على المجتمع: "الحلم التونسي".

كانت من أهم الفئات الاجتماعية التي أشعلت هذا الحراك الثوري - ومحمد البوعزيزي من ضمنهم فتية صدقوا ما عاهدتهم عليه الدولة الوطنية، فحصلوا العلم وشهائده وكلهم أمل في الانضمام إلى مصاف الطبقة الوسطى. تلك الطبقة التي تضمن لنفسها شغلا قارا، أي مدخولا قارا، علاوة على امتیازات شتى، تضمن لها مصالح اقتصادية مُرضية ودائمة: حلم المسمار في حيط"! حتى الأحداث التي سبقت 2010، ونخص هنا بالذكر أحداث الحوض المنجمي سنة 2008 ، كان مطلبها الأساسي التشغيل في مؤسسة عمومية تضمن أجرا وتغطية اجتماعية وبعض الفوائد.

لم تكن الاحتجاجات الاجتماعية في تونس بصفة عامة مُعبّرة عن تناقض واضح بين رأس المال والعمل ولم تكن وراء شعار "إسقاط النظام" دعوة صريحة لقضاء الثاني على الأول. فمثلا، بالعودة إلى الاحتجاجات ضد شركة فسفاط قفصة، لا يستقيم المطلب الاشتراكي المتعارف عليه بتأميم الشركات، فشركة الفسفاط مؤمّمة أصلا. بالنسبة لمعضلة رأسمالية الدولة وكنه النظام الذي يجب إسقاطه فذلك مقال لمقام آخر.

المهم، يمكن القول بأن الثورة التونسية كانت بصفة عامة، نتاج اصطدام واضح بين بعض القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج القائمة. فالأولى قد شهدت تطوّرا هاما بفعل تلقيها لتعليم وتكوين يدفعان بها نحو إبداع إنتاجي أكبر وأوسع من الذي توفّره الثانية التي تكلّست بفعل اهتراء دور الدولة الاجتماعي المهزوز أصلا وتعمق التقسيم الدولي الجديد للعمل (أو ما يُعرف بسياسات الإصلاح الهيكلي والنيولبرالية). ويمكن على هذا الأساس بالمناسبة تفسير الأصوات التي تعالت بعد الثورة في اتجاه المبادرة الفردية وتحرير الاقتصاد ونقد فكرة "المسمار في حيط" ولكن ذلك نقد على يمين النظام القائم لا يعارض علاقات الاستغلال بصفة عامة بل يدعو إلى تعميقها بلا حسيب ولا رقيب. دائما في موضوع الشعارات، كان شعار "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق" معبرا بالفعل عن فهم تاريخي للترقي الاجتماعي مطابق للذي رسخته الدولة الوطنية منذ أول أيام بنائها، والذي لم يعد ملائما لواقع جيلها الثالث. ها قد تلقت المادة الشخمة الشهائد العليا حتى اصطدمت بالواقع الذي تحرك تحت أقدامها وتغير في غفلة منها، فأصبح صاحب شهادة الدكتوراه يزاول التجارة البسيطة والمبرز في اللغات عاملا في مركز نداء وركب التقني السامي قاربا في اتجاه أوروبا. أما عصابة السراق فهي فيما هي العصابة التي سرقت "الحلم التونسي ".

نذكر بالمناسبة تلك الأحكام الأخلاقية التي كانت موجهة لسلطة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي خلال فترة حكمه. هذه الأحكام، المُتَشبّعة بمبادئ الحركة الوطنية التي تعلي من شأن العلم والثقافة، كانت متمحورة في جانب كبير منها حول كون الرئيس غير جدير بموقعه لما يظهر عليه من انعدام في الثقافة ونقص في التحصيل العلمي أو أن زوجته التي أغدقت عائلتها بمزايا الحكم، كانت قبل زواجها من الرئيس تشتغل "حلاقة". نستقي من هذا أن المشكلة ليست في ثراء بن علي وأصهاره في حد ذاته ولكن في كون أن هذا الثراء لم يكن ثمرة تحصيل علمي وثقافي.


في الفهم الوسطي للنظام

ما انفكت تثير تمظهرات الأزمة المزمنة في نظام الحكم السياسي التونسي ردود فعل فيما يتعلق بدور الدولة الاجتماعي إثر كل فاجعة تمس صحة الناس أو تعليمهم أو نقلهم، أي وسائل إعادة إنتاج وجودهم.

ولا يخفى على مطلع أن العديد من ردود الأفعال تلك تنطلق من مبادئ سياسية يمكن أن نضعها تحت مظلة الديمقراطية - الاجتماعية. وما يجب التذكير به هنا هو أن مبادئ هذا التيار الفكري السياسي قد نبعت في سياق اقتصادي - سياسي واقتصادي - اجتماعي محدد تاريخيا. إذ كان تبني النظام الديمقراطي الاجتماعي إجابة على معضلة إعادة توازن النظام الرأسمالي في مراكز مراكمة القيمة على الصعيد العالمي، عندما اشتدت الأزمة هناك بين رأس المال وقوة العمل بفعل التطور الكبير الذي شهدته قوى الإنتاج حتى أصبحت علاقات الإنتاج الاستغلالية عاجزة على ترويضها أو احتوائها.

ونعيد التشديد على مفعول المكان هناك، أي مراكز التراكم، قبل أن نضيف إليه مفعول الزمان الذي يحيل على مرحلة تركّز رأس المال الذي تمظهر بدوره في وفرة موارد إعادة الإنتاج، أي العائدات التي تُوَجَّه نحو تطوير البنية التحتية الأساسية التي تحافظ على إنتاجية قوة العمل من نقل وصحة وتعليم وتغطية اجتماعية. تأتت هذه الموارد المالية تاريخيا من الاستغلال الشديد لقوة العمل في تلك المراكز في مرحلة أولى ثم تعاظمت بفعل توسع رأس المال عالميا أي الإمبريالية التي وسّعت الهوة بين عائدات الإنتاج الضخمة التي تراكمت في المراكز من جهة وكلفة عملية الإنتاج الزهيدة التي تم نهبها من المستعمرات من جهة أخرى. بالتالي، يمكننا أن نستنتج بصفة تجريدية أنّ مصاريف إعادة الإنتاج تستوجب إنتاجا مسبقا أي تراكما أوليا/بدائيا لرأس المال.

ملاحظة عابرة مهمة: ليس محكوما على التراكم أن يحدث بآليات استعمارية حيث أن العديد من التجارب التاريخية قد أظهرت نجاحها في ذلك من خارج مسار النهب [5].

في المحصلة، يصب الفهم الديمقراطي الاجتماعي العامي لأزمة الاقتصاد التونسي جام نقده في أغلب الأحيان على سوء تصرّف الدولة في مواردها وذلك بنقاش الميزانية والخيارات السياسية للتوجهات الاقتصادية. فكأننا لا نرى عبر هذا النقد من العملية الاقتصادية سوى جانبها الاستهلاكي، أي أين تُصرَفُ الأموال. بينما نلاحظ تغاض عن مصادر تلك الأموال. ولئن تحسسنا بالمناسبة نقدا لسياسات التداين، فهي تظل للأسف حبيسة لمطالب رفضويّة خالصة تتمثل في تجميد الديون أو مراجعتها دون الغوص عميقا في التفكير حول مصادر تعويض الموارد المالية المتأتية من الديون.

يشي الفهم الديمقراطي الاجتماعي للاقتصاد بتغلغل الإيديولوجيا البرجوازية الصغيرة لدى الطبقات الوسطى الحديثة، التي غرسها فيها تاريخ حكم الدولة الوطنية الطويل، والتي تعززت ماديا باشتغال حامليها في قطاعات إعادة الإنتاج الإدارة والمرافق العمومية، وأيضا في قطاعات الخدمات الخاصة والتجارة الصغيرة، وصولا إلى المنظمات غير الحكومية التي امتصت جزءا كبيرا من اليد العاملة المتعلمة بعد الثورة المنقطعة عن عملية الإنتاج برمتها. فأصبحت لا ترى من هذه الأخيرة سوى مخرجاتها (outputs) ، سواء كان ذلك على مستواها الشخصي، إذ تثور أقصى ثائرتها من انقطاع المواد الاستهلاكية أو تردي الخدمات العمومية والخاصة، دون البحث عميقا في أسباب ذلك، أو على مستوى الدولة، حين تكتفي بمحاسبتها على خيارات الإنفاق والتدبير فقط. بينما في المقابل، وفي الواقع أصلا، تقبع مشكلة المنوال الاقتصادي التونسي في مستوى المنبع، أي الإنتاج: اقتصاد تتكلس فيه الإدارة وتخنع فيه الصناعة لطلبات السوق العالمية وتتخلف فيه الفلاحة بينما يتوسّع فيه قطاع الخدمات الذي يشتغل مناولا للإنتاج العالمي وتنتشر فيه التجارة التي تكتفي، حامدةً رأس المال، بصب الماء على أيادي المنتجين العالميين والمستهلكين المحليين.

كلما فاض قدْرُ الغليان الاجتماعي، يواجه حَمَلة ايديولوجيا البرجوازية الصغيرة في أوساط الطبقة الوسطى التونسية والمعبّرين عنها بفهم ديمقراطي اجتماعي معضلة عجز الأفكار التي يصوغونها حول سؤال التنمية ومسألة منوالها وعجزها على تفسير الواقع المادي في حركته وتغيّره. لا يتمثل مشكل هذا الفهم في نقد خيارات الدولة الاقتصادية فيما يتعلق بالتوازنات المالية في حد ذاته، فهذه الخيارات لا تشكو من توجهات شعبية ولا ترجو حتى إمكانية الإصلاح. بل إن عملية التثوير تتطلب توسيع مجال النظر والتحليل كي تشمل العملية الاقتصادية برمتها، لا مستواها الاستهلاكي الأدنى والمتأخر فقط، إنما أيضا وبالأخص منبعها الذي يقف عاجزا إلى اليوم على تحقيق قيمة الإنسان بالعمل وفيه.

هنا تدعو الضرورة التاريخية إلى الاشتغال النظري والعملي الحثيثين على الدفع نحو سياسات فلاحية [6] وتصنيعية تحقق حاجيات المنتجين الفعليين لثروة المجتمع وتفجّرُ طاقاتهم الإبداعية من خلال تملكهم لأسباب وجودهم التي تصون أسس إعادة إنتاجهم لأنفسهم من غذاء وسكن وصحة وتعليم وترفيه. بعبارة أدق الديمقراطية الجذرية المنبثقة عن ممارسة الإنسان لوجوده.


خاتمة

"الخطوة الأولى في الثورة التي تقوم بها الطبقة العاملة هي رفع البروليتاريا إلى موقع الطبقة الحاكمة للفوز بمعركة الديمقراطية"

– ماركس وانقلز، بيان الحزب الشيوعي (1848)


بلقاسم عبد الصمد، عضو المجموعة الماركسية الثورية

الحراك المساند للمقاومة في تونس: بعض مشاكل الممارسة والستراتيجية


أراد هذا النص العودة على بعض المشاكل التي اعترضتنا بمناسية مرور سنة على عملية طوفان الأقصى. دونت عناوينه والأفكار الكبرى من قبل أكتوبر 2024، لكن تحريره تعطل، وتوقف في مستوى جزء « محور المقاومة؟ » في أواخر نوفمبر لأسباب متعددة. استؤنف مؤخر جانفي 2025 ولم تحين أجزاؤه القديمة. خلال هذه الفترة الطويلة طرأ مستجدان لا يمكن تجاهلهما نظرا لعلاقتهما الوثيقة بموضوع النص. ألحقا في آخره.

7 مارس 2025

__________________________


« هنا تكمن قوى الثورة. هنا الاستعداد الحقيقي لتحمل سنوات طويلة من القتال. هنا الظروف الحياتية اليومية المضنية التي تدفع الناس دفعا للقتال والموت لأن الفارق بين الموت والحياة في ظل الظروف فارق غير ملموس » الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - الاستراتيجية السياسية والتنظيمية


« متجاهلين الظروف الذاتية والموضوعية، يعاني بعض الرفاق من داء الاندفاع الثوري، فهم لا يكلفون أنفسهم عناء القيام بعمل دقيق ومفصل بين الجماهير، بل، وهم غارقون في الأوهام، يريدون فقط القيام بالأمور الكبيرة. » ماو تسي تونغ – في تصحيح الأفكار الخاطئة في الحزب


« إن تقييم جماهيرنا للخصم تقييم عاطفي حتى الآن. فعندما نحقق بعض الانتصارات الجزئية يسود مناخ عام بين الجماهير يقلل من قوة الخصم ويستهين به، ويتصور المعركة بأنها معركة سهلة وسريعة يمكن أن نحقق فيها النصر في مدة قصيرة. وعندما يوجه لنا العدو ضربات قاسية نذهب أحيانا للنقيض لنصور عدونا وكأنه قوة لا تقهر. يتضح إذن أن الرؤية العلمية للمعركة والتخطيط الواعي والمثابر لربحها يستحيلان علينا بمثل هذا التذبذب العاطفي. » ج.ش.ت.ف، نفس النص


بعد سنة الآن من عملية طوفان الأقصى، اتسعت الحرب الإسرائيلية من غزة وفلسطين إلى لبنان. صار من السهل القول أن التوازنات السياسية والعسكرية في المنطقة بين الأطراف المعنية لن تعود إلى سابق عهدها. وإن كانت الأسبقية العسكرية والسياسية اليوم لدولة الاحتلال الصهيونية فلا يمكن التنبؤ مسبقا بمآلات الحرب وعلى كل حال لا يمكننا أن نقبل مسبقا بهزيمة لم تتحقق بعد.

أما على المستويين الإيديولوجي والنفسي فلم يكن من الصعب معاينة آثار 7 أكتوبر والحرب التي تلتها. إذ كان لهذه الرجة الشديدة تداعيات سريعة على البنية الفوقية. إن لم تترجم هذه التحولات سياسيا مباشرة في جل العالم العربي والعالم ككل نظرا للظروف السياسية الرجعية القائمة، فلا شك أنها ستجد تعبيرات سياسية على المدى الطويل.

ليست هذه التعبيرات السياسية النهائية المكتملة معطات منذ الآن، محددة تماما بلحظة 7 أكتوبر، بل هي في مسار تشكل انطلاقا من حدث-لحظة غير محايدة.

لكن تدخل الماركسيين في تونس إلى اليوم في هذه السيرورة لم يكن صحيحا، بل يمكن القول أنهم كانوا من المفعول بهم أكثر منهم بالفاعلين. فبدل أن تكون حرارة الحرب ضد الصهيونية محفزا لعملهم، كانت منطلقا للاضطراب الفكري والعجز السياسي.


الإسلام والهوية والمقاومة

تعود هذه المشاكل في جزء مهم منها إلى الطبيعة الإسلامية لقيادة المقاومة الفلسطينية والقوى المساندة لها. إذ لم يتطور النقاش، في اليسار التونسي (وربما العربي) وخاصة ضمن الماركسيين، حول هذه الإيديولوجية والحركات الاجتماعية والسياسية التي تتعاطف معها أو تتبناها. فيتعايش تأويلها كبقايا من الماضي وعلامات تخلف في الحداثية الكلاسيكية مع الليبرالية حيث تظهر كتعبيرة طبيعية (قمعت في الماضي القريب) عن نمط عيش وتفكير بين غيره، وأيضا تنازلات براغماتية. انضافت لذلك مؤخرا نزعات محافظة-جديدة وأيضا آثار الدراسات بعد-الاستعمارية وخاصة الديكولونيالية، حيث قد تقرأ كتيار مناقض لهيمنة « الحداثة الغربية الاستعمارية » أو حتى كقوى مقاومة لها. لا يعني هذا التصنيف والإرجاع إلى مدارس إيديولوجية أن جمهور اليساريين واعون به تماما أو أنهم يرتكزون على مرجعيات نظرية معينة [1]. لذلك يتأرجح أغلب الناس في توازن نسبي بين هذه الأقطاب وهذا من طبيعة الأمور.

فنفس الفضاءات الرقمية التي صارت الميدان الرئيسي للممارسة السياسية تدفع بنيتها نحو تسطيح السياسة إلى جملة من الممارسات الخطابية والرمزية والشعاراتية (ما لا يعني أن هذه الممارسات ليست من أوجه الفعل السياسي السليم أو أنها لم تكن كذلك في الماضي) المفرغة من محتويات فكرية وتصورات استراتيجية. صرنا هكذا نتعامل أكثر مع مقولات وشعارات ورموز [2] أكثر من أفكار وبرامج، ما ساهم في ضعف النقاش الفكري والسياسي الجدي.

منذ الأيام الأولى لطوفان الأقصى، تحول الإسلام وحماس في الأوساط اليسارية إلى جملة من العلامات « الكول » (Cool بالانقليزية). انتشرت الآيات القرآنية وغيرها من المقولات الدينية. في مثال آخر، رُسِم يحيى السنوار منذ تلك الأيام وقبل استشهاده بكثير، صورة « الفتى السيء » (Bad boy) أو « الطفل الرهيب » (L'enfant terrible) المثير، بترويج صوره بمسدسه كأنه ممثل هوليوودي. هذا دون الحديث عن تصاعد تمجيد « السيد » ورفع أعلام حزب الله والكتائب الإسلامية في المظاهرات والشبكات الرقمية.

طبعا ينطلق ذلك في عديد الأحيان من ردة فعل على الدعاية الإمبريالية (« الغربية ») حيث يصور كل هؤلاء كـ « إرهابيين » ويشوهون. ثم ينزلق ليتعمم كخطاب واستعراض مستقل بذاته. يختلف أصحاب هذا المنهج في التفكير والخطاب في عديد الأمور وقد يذهبون من قوميين و « ستالينيين » انتابهم نوع من المحافظة-الجديدة إلى يسار « بعد-حداثي ». لكنهم جميعا لا يرون أنهم يعيدون إنتاج المركزية-الغربية بشكل مختلف قليلا، بشكل مقلوب: كل ما يرفضه « الغرب » [3] جيد.

ولو توقف الأمر في الجوانب الرمزية قد يمكن اعتبارها ردات فعل انفعالية وإرجاعها للهيمنة الاستعراضية. لكن العديد من أصدقائنا ورفاقنا مروا إلى الاستنتاجات النظرية: الإسلام منبع طاقة روحية للمقاومة. لعل ما نقص رفاقنا العلمانيين في الجبهة الشعبية طيلة سنين إشعاعهم هي تلك الشجاعة والقدرة على التضحية التي يولدها الإسلام (أو الدين بصفة عامة؟) وحده، لتحرير فلسطين! ماذا عن « المناضل الأممي » جورج ابراهيم عبد الله وصموده الطويل في السجن؟ وماذا عن تضحيات الفيتناميين تحت راية الحزب الشيوعي وجبهة التحرير؟ وماذا عمن قاتلوا في حرب الشعب التي قادها الحزب الشيوعي الصيني؟ أين كان الدين في هذه الحروب؟

وماذا عن الألوية الأممية التي أتى أعضاؤها اشتراكيين وشيوعيين وأناركيين من حوالي 50 بلاد لمحاربة الانقلاب الفاشي على الجمهورية الإسبانية؟ هل عندما يذهب جورج أورويل من انجلترا للقتال ضمن ميليشيات حزب الوحدة الماركسية العمالي، يحركه دافع ديني؟! وماذا عن العمال الروس الذين أسقطوا سلطة القيصر والكنيسة، قبل أن يستميتوا في الدفاع عن الحكومة الماركسية ضد الرجعية في الحرب الأهلية؟ وماذا عن بروليتارية باريس، شهداء ومنفيي الكومونة، الذين كانوا يكرهون الكنيسة المتحالفة مع الإمبراطورية، الذين فصلوها عن الدولة وصادروا ممتلكاتها وأوقفوا عددا من قادتها رهائنا ثم أعدموا عددا منهم تهديدا للجيش البرجوازي؟ يبدوا أن كره الديانة الكاثوليكية أو على الأقل الكنيسة كان جزءا مما يحركهم ليس العكس.

لا شك أن من بين الشجعان الذين خاضوا هذه الحروب الثورية مؤمنون (بأديان مختلفة) وملحدون. كيف تفسر إذن قدرة الملحدين على « التضحية » والاستشهاد؟ وليست المسألة فقط ولا أساسا مسألة سلوك فردي بل مسألة رافعة سياسية. فليس الأهم إن كان هذا العدد أو ذاك من الفلسطينيين أو من الكوبيين مؤمنين أو لادينيين، بل وراء أي راية حاربوا. فلا شك أن أغلب من قاوموا في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ماضيا وحاضرا مسلمون مؤمنون، لكنهم استشهدوا تحت راية القومية والاشتراكية لا الإسلام والإسلامية. وهذا مربط الفرس بالنسبة للماركسيين. بأي منهج يفكر ويخطط المقاومون ومن أجل أي برنامج وأفق يناضلون وبأي سبل أو تكتيكات يعملون.

من الملحوظ أن العديد من مكتشفي الدور « التقدمي » أو « الثوري » للدين (الإسلامي) والإخوان المسلمين في فلسطين هم أنفسهم من اعتبروا خلال الصراعات التي تلت الثورة في تونس، أن هذه الظواهر من أهم العوائق أمام انتشار الأفكار الاشتراكية و « التقدمية ». فكان الدين والإسلاميون علامات تخلف و « ظروفا موضوعية » تفسر فشل الاشتراكيين في هذه « المجتمعات المتخلفة » أو من بقايا (عناصر؟) شبه-الإقطاع في البنية الفوقية التي يجب تصفيتها للدخول في غمار « الحداثة » (الرأسمالية). أليس الإخوان صنيعة المخابرات البريطانية؟! أليس نتنياهو من « خلق » حماس؟

لكنه ليس من الغريب أن يصدر هذان الرأيان المتناقضان من نفس الناس في سياقات مختلفة. إذ ينبع هذا التذبذب من نفس السطحية في التعامل مع مسألة الدين. فمن يريد فهم العالم والسياسة انطلاقا من الظواهر الدينية لم يفهم شيء من العالم ومن الماركسية ولن يفهم العالم وظواهره الدينية والسياسية.

بدل البحث عن القاعدة الاجتماعية لهذا التعبير الإيديولوجي والسياسي (قطاعات معينة « تقليدية » بالمعنى الاقتصادي لا فقط الثقافي، من الطبقات الوسطى والبرجوازية-الصغيرة؟) وفضح اصطفاف سياساتها مع رأس المال والإمبريالية، هاجم اليسار حركة النهضة على ميدانها الإيديولوجي، كحزب إسلامي. ليس من الغريب أنه تكبد هزيمة. ثم بدل مراجعة إيديولوجيته البالية واكتشاف الأبحاث الماركسية التي بينت ارتباط الإسلامية، وغيرها من الصحوات « الهوياتية » عبر العالم، بالنيولبرالية وبعد-الحداثة كأزمة إيديولوجية متواصلة للحداثة الرأسمالية [4]، بدأت تتصور ردة فعل سطحية منذ مدة في خطابات محافظة جديدة (« ربما المثلية الجنسية والنسوية والشيوعية أشياء مستوردة من الغرب تتعارض مع ثقافة شعبنا »)، حتى أتى 7 أكتوبر 2023 لتتحول إلى مديح مفتوح للإيديولوجية الدينية كمصدر للمقاومة والشجاعة والتضحية.

ربما يظن أصدقاؤنا أنهم بهذا الشكل « يتقربون من شعبهم ». لكن إحياء الإيديولوجية الدينية وانتصارها لا يمكن أن يمهد الطريق إلى الثورة البروليتارية بل سيكون عائقا أمام الوعي الطبقي الثوري. فبانتصار هذه الإيديولوجية وهيمنتها لن يرتمي الشعب في أحضان الاشتراكيين لأنهم تعاطفوا مع الإسلاميين (« رغم اختلافهم معهم »!) أو لأنهم بينوا أنهم ليسوا معادين للإسلام، بل سيتجه إلى الإسلاميين الحقيقيين لقيادته [5]. في نتائج جبهة 18 أكتوبر والثورة الإيرانية أمثلة تأتي بسرعة للبال. ألا يظن رفاقنا أن الإسلاميين يقومون بما يكفي من الدعاية الإسلامية حتى نساعدهم نحن في ذلك؟! أليس الأولى بنا أن نقوم بالدعاية الاشتراكية ونطرح كل الأمور من وجهة النظر الماركسية.

بل إن تصدر الإسلاميين للمقاومة العسكرية والسياسية للصهيونية في فلسطين ولبنان واليمن وإيران، بصدد خلق جيل جديد من الإسلاميين الفخورين، بنزعة مناهضة للإمبريالية، أو بالأحرى لـ « الغرب الكافر »، أقوى من الذين سبقوهم. وإن كمية الخلط الإيديولوجي والسياسي التي سيكون على الماركسيين مقارعتها (في علاقة بمسألة الإمبريالية خصوصا) أكبر مما عانوه إلى حد اليوم. بل إن على الماركسيين منذ الآن الاستعداد النظري بتوضيح الأمور في صفوفهم وأصدقائهم. ثانيا، يجب عليهم الترويج لتمثلاتهم لما يحصل على أوسع نطاق، ومحاولة صد المد الإسلامي القادم، بشكل غير مباشر.

ماذا نرى بدل ذلك؟ رفاق يحتفون بالهوية الإسلامية و « العروبة »! ماهي العروبة رفاقنا؟! ألم يصح أنكم ضد « سياسة الهوية » ومع الطبقة، فقط الطبقة، والباقي ليبرالية؟! أم أن هناك الهويات السيئة – « العاهرات » و « المخنثون » – والهويات الجيدة – الإسلام والعروبة؟! والهوية الأمازيغية والقرطاجية والفرعونية والمسيحية والمارونية؟ وفي حين ينعت أبو عبيدة الاحتلال الصهيوني بالفاشي ويخاطب « أحرار العالم » ويستعمل موسيقى روك في تسجيلاته، لم يجد رفاقنا أفضل من نشر الآيات القرآنية، بل إن البعض ذهبوا حتى إلى ملاحظة أن الأغلبية الساحقة من اليهود صهيونية! فعلا، مثلما كانت غير صهيونية قبل الانتصارات الأولى لمشروع الاستيطان. ماذا نفعل إذن؟ نعلن الحرب على اليهود؟!

وانتشرت المقولات والشعارات بعد-الاستعمارية والديكولونيالية وراج استدعاء أمثال إدوارد سعيد (المعروف بماركسيته وثوريته!) [6]. في نفس الوقت الذي يدعي فيه العديدون معارضتهم للطائفية ولتقسيم الشعوب يروجون (عن غير وعي ربما) للأسس الإيديولوجية للانغلاق الهوياتي المعاصر.

يطرح السؤال نفسه: هل تنقص الكتابات الماركسية حول الإمبريالية والاستعمار والحرب والحرب الشعبية والقضية الفلسطينية بالذات؟ ألم يكن من الأجدى الترويج لها وللأفكار التي تحتويها، والتي يمكنها فعلا أن تنير ما يحدث وطريق التأثير فيه بالممارسة؟ برفاق وأصدقاء كهؤلاء، هل نحتاج خصوما وأعداء؟!


محور المقاومة؟

ولأصدقائنا هؤلاء أصدقاء آخرون خطيرون على رأسهم الدولة الإيرانية. يبدو من الضروري الآن التذكير ببعض البديهيات حولها. هذه دولة قومية-دينية قائمة على مجتمع طبقي رأسمالي ومعادية للشيوعية. في الداخل قمعت وتقمع بشراسة الاشتراكيين. في الخارج يتعارض مشروعها القومي-الديني استراتيجيا مع الاشتراكية في البلدان العربية. تثير وتكرس الطائفية في هذه المجتمعات فتعيق بذلك التشكل والصراع الطبقيين، ناهيك عن إمكانيات التوحيد السياسي بين البلدان. تتحالف مع قوى سياسية محافظة ورجعية. إنه من العجيب أن عديد القوميين العرب واليساريين لا يتحرجون من الدفاع غير النقدي عن هذه الدولة.

في نفس الوقت، يتعارض نفس المشروع الإيراني مع المشروع الصهيوني واستراتيجيات الكتلة الإمبريالية التي تقودها الومأ. إذ لا يمكن للدولة الشيعية-الفارسية القبول بتوسع إسرائيل أو تصفيتها لحلفائها في البلدان حيث اكتسبت تأثيرا (لبنان وسوريا وفلسطين والعراق واليمن). كما يتعارض هذا المشروع القومي المستقل والمؤثر إقليميا، مع هذه المصالح الإمبريالية بصفة عامة في المنطقة. ذلك بالإضافة إلى تاريخ نشأته المناهض للإمبريالية الأمريكية، وتحالفه مع الدولة الروسية إلى غير ذلك. لا يجب أيضا الاستخفاف بالجانب الإيديولوجي الديني المهم في تشكل ومشروعية الدولة الإيرانية، وبذلك المكانة الرمزية للقدس وربما الصراع ضد « أعداء الإسلام » بصفة عامة.

لهذه الأسباب (وربما غيرها) فإن للدولة الإيرانية والحركات الشيعية المتحالفة معها مصالح ودوافع قوية لمساندة المقاومة الفلسطينية للصهيونية والتعارض مع الإمبريالية عموما في المشرق العربي. يبدو أن مثل هذا التفكير البسيط يفوق طاقة استيعاب عديد المانويين الذين، يمينا ويسارا، لا يقدرون على رؤية العالم خارج الثنائيات وتحديدا خارج ثنائية الخير والشر. لنا في « جماعة المسرحية »، نموذج لامع. إذ لا يمكن أن يوجد صراع حقيقي وصادق بين قوى « شريرة » مثل دولتي إسرائيل وإيران، ولا يمكن أن يكون ما يحدث إلا مسرحية جهنمية. في صيغة أكثر اعتدال، يفحمنا البعض بالقول أن الدولة الإيرانية تساند المقاومة الفلسطينية دفاعا عن مصالحها! حقا؟! اكتشاف عظيم! وأي دولة تدافع عن شيء آخر غير مصالحها؟ وعلى ماذا يدافع الشعب الفلسطيني وتنظيماته السياسية المقاومة غير مصالحهم؟ أليس بالعكس، تقاطع مصالح الدولة الإيرانية مع هذه المصالح أفضل ضمانة سياسية، لدعمها المقاومة الفلسطينية؟

ردا على هذه الخزعبلات وغيرها، تجند العديدون من أصدقائنا للدفاع عن « محور المقاومة » في وجه كل من « يتجرأ عليه »! تريد هذه التسمية إخفاء الصعوبات التي تطرحها الدولتين الإيرانية والسورية والمقاومة الإسلامية. بتقديس « محور المقاومة » وصهره الأحادي وبتكريس هذه المقولة خلق كائن إيديولوجي. أخضع العديدين لنظرة ثنائية أخرى للعالم انجرت عنها حالة من التذيل السياسي. لذا وجب تفكيكه.

تعود مقولة المقاومة إلى وضعيات الاجتياح والاستعمار وإلى مقاومتها بدل الخضوع لها أو التنسيق مع قواها. من البسيط إذن اعتبار التنظيمات السياسية الفلسطينية مقاومة بقدر ماهي تقاوم الاحتلال الصهيوني. كذلك حزب الله منذ محاولة اجتياح لبنان في 2006 وحتى الحوثيون بمهاجمتهم لإسرائيل عسكريا ولمصالحها الاقتصادية. أما الدولة السورية كدولة فلا تنطبق عليها مقولة المقاومة كما يمكن التساؤل عن آخر أفعالها الجدية المعادية لإسرائيل التي تحتل مناطقا كانت تتبعها. بالنسبة للدولة الإيرانية أيضا ليست المسألة مسألة مقاومة فليس هناك ما « تقاومه » (بالمعنى الضيق الدقيق المستعمل هنا وإلا يمكن القول بنفس الشكل أن إسرائيل « تقاوم » السياسية الإيرانية في المنطقة أو أن الدولة الروسية جزء من محور المقاومة بما أنها حليفة السورية والإيرانية…) بل هي تمارس سياستها كما وُصِفت بسرعة أعلاه.

مقولة محور المقاومة هي إذن مقولة مغالطة. فإذا كان المقصود أن « المحور » هو محور المقاومة الفلسطينية، فالأخيرة ليست من يقوده ولا هي الطرف الأقوى فيه وهذا القصد إذن خاطئ. وإذا كان المقصود أن جوهر تشكل هذا المحور والهدف الأساسي لكل أطرافه هو مقاومة الصهيونية (أو ربما الإمبريالية؟) فهذا خاطئ أيضا. في الأقصى يمكن القول أنه « محور » حلفاء المقاومة الفلسطينية. فالدولة الإيرانية مثلا يمكن أن تجد تسويات مع الإمبريالية.

لا يقدر الحديث عن « تناقض رئيسي » أن يخفي المحركات الحقيقة لهذا الخطاب وللسلوك السياسي الذي ينجر عنه. فما نراه هو تعامل مع « تناقض وحيد ». ينبع في الحقيقة مما يسمى أحيانا « عقلية الفيراج » أي سلوك الجمهور (الرياضي) المشاهد. خاصيتاه الأساسيتان هما الاصطفاف الثنائي والمشاهدة السلبية للاستعراض.

لعل هذه التصرفات من الخصائص العامة لمجتمع الاستعراض والشبكات الرقمية كأحدث فضاءاته المميزة. لكن عندما تهيمن هذه الحالة صلب المناضلين الماركسيين فيجب دق ناقوس الخطر. ألا يفترض بهم أن يكونوا فاعلين سياسيين لا جمهورا يشاهد المباراة ويشجع فريقا؟ ألا يفترض بهم رفع رايتهم الخاصة وطرح كل الأمور من وجهة نظرهم؟

تكثف السلوك الجمهوري لرفاقنا وأصدقائنا في بيان تنسيقية العمل من أجل فلسطين الذي يعزي الدولة الإيرانية في موت رئيسها. ما هو محل هذه التعزية من الإعراب؟! هل ظن أصدقاؤنا في التنسيقية أن الدولة الإيرانية ستهتم بتعزيتهم أو قد تردها لهم بشكل من أشكال الدعم؟ هل ظنوا أن الشعب التونسي سيتعاطف أكثر معهم أو مع الدولة الإيرانية ومحورها؟

مهما كانت النوايا، إنه يعبر عن انخراط غير نقدي ومنقوص الاستقلالية في أحادية « محور المقاومة ». هل تساءل أصدقاؤنا عن سياسات هذا الرئيس (ودولته) وعلاقته بالاشتراكيين الإيرانيين والطبقات الشعبية والفئات المضطهدة هناك؟

في نفس الوقت لم يتساءل أصدقاؤنا عن جدوى ذلك نسبة للمهام العملية المطروحة في تونس لمساندة القضية الفلسطينية. ماهي الجدوى للاشتراكيين في تونس من الانتساب لمحور يضم إيران وجماعات شيعية وإخوان مسلمين والدولة السورية؟ لا يمكن تفسير هذا الحماس الزائد لهذه الأطراف إلا بعقلية الجمهور والعجز عن صياغة خط سياسي مستقل ومهام عملية ملموسة.

إذ دافع عديد رفاقنا وأصدقائنا عن ممارسات خاطئة بحجة أن « المقاومة » دعت لها. فهل يظن عاقل أن حركة حماس أو حتى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على دراية بالديناميكيات الاجتماعية والموازين السياسية في تونس، في حين مازالت التحليلات والتقديرات الخاطئة منتشرة حتى في صفوف الماركسيين التونسيين أنفسهم. أصلا، حماس وحزب الله ليست تنظيمات ماركسية أي أنها لا تفكر ولا تحلل العالم مثلنا. فكيف نحدد مهامنا على ضوء دعواتهم؟! بهذا الشكل قرر رفاقنا طوعيا التذيل لقوى (أقل ما يقال أنها) مختلفة عنهم وذهبت مجهودات وطاقة كبيرة في الأماكن الخطأ بدل الأولويات التكتيكية الملموسة للماركسيين في تونس.

مع كل هذا لا يجب إنكار الحرج الذي يشكله التعامل مع الدولة الإيرانية للماركسيين في سياق 7 أكتوبر. فمن جهة يكون من الخطأ مهاجمتها في سياق حرب هي فيها حليف حقيقي لمقاومة الصهيونية في فلسطين ولبنان واليمن، مثلما يكون من الخطأ مهاجمة المقاومة الإسلامية. لكن ذلك لا يمكن أن يترادف مع التعبير عن التماثل أو الصداقة معها وحتما لا يجب أن يعني التذيل والخلط والانصهار في أشياء مثل « محور المقاومة ». المجهودات التي وضعت في الدفاع عن محور المقاومة كان يجب أن توضع في الدعاية للخط الماركسي في مناهضة الإمبريالية.


عجز الممارسة

وهناك سوء تفاهم آخر حول مصطلح المقاومة. تعني هذه الكلمة ضمنيا سياسة دفاعية وميزان قوى مختل لصالح العدو. لكن بمجرد نجاح عملية طوفان الأقصى، صار البعض يتحدثون عن تحرير فلسطين أو انهيار دولة إسرائيل. وقد يفهم ذلك في أيام النشوة الأولى ولكنه لا يعذر عند مناضلين سياسيين يدّعون فهم العالم ويطرحون على أنفسهم تفسيره للجماهير وتغييره معها. 

لكن الغريب هو أن هذا الشعار أخذ يتصاعد بالتناسب مع تصاعد جرائم آلة الحرب الصهيونية وتبين حدود المقاومة أمامها. لا مشكل طبعا في التذكير بغاية تحرير فلسطين من النهر إلى البحر والدفاع عن مشروعيتها طالما أن الجميع يفهمون أنه هدف بعيد المنال. غير أن هذا الفهم المشترك لم يعد مؤكدا.

أمام هول المجازر الإسرائيلية وعجز القوى البشرية عن وقفها ذهب العديدون بما في ذلك يسارا أكثر فأكثر للبحث عن تدخل قوى إلهية لوقف الإبادة. في أقصى هذا التمشي توهم العديدون أو ظنوا أو أرادوا أن يظنوا أن الإجرام الصهيوني نفسه هو الذي سيهوي بإسرائيل. تحت شعار أن لا بد للعدالة أن تنتصر، ذهبوا للبحث عن قوى ميتافيزيقية علمانية لإغاثة الفلسطينيين في شكل مبادئ أزلية.

وبالنظر لتطرف المجازر الإسرائيلية وانتهاكاتها للمبادئ الإنسانية فلا بد أن تبلغ العدالة أقصاها بتحرير فلسطين تماما من السرطان الصهيوني. بل قد يشعر الواحد باستحالة مواصلة حياته كما كانت في ظل تواصل وجود هذا الكيان ولذلك وجب تحرير فلسطين كل فلسطين. لا يمكن فعلا إنكار مشروعية هذا الشعور. لكن موازين القوى المادية لا تسمح بذلك، وليس من الضروري هنا المحاججة دفاعا عن هذا القول. فلا شك أن إقتناعهم التلقائي به هو ما أخذ أصدقاءنا إلى البحث عن قوى غيبية، علمانية أحيانا، وأيضا إلى الدعاء علنا.

ليست هذه الحالة مضرة في حد ذاتها، خاصة للأفراد الذين يعيشونها، إلا بقدر ما عطلت وضع وإنجاز مهام عملية متواضعة قد تساعد الفلسطينيين وقضيتهم، على المدى القصير (جمع تبرعات) أو الطويل (المقاطعة الاقتصادية والثقافية والرياضية إلى غير ذلك، والدعاية والتنظم السياسيان). فإذا كانت قوى سحرية ستتدخل لإنهاء المظلمة الدموية التي يتعرض لها الفلسطينيون ومعاقبة مرتكبيها، ما الجدوى من الفعل البشري الصغير.

ولعل الولع بمحور المقاومة صيغة مادية من نفس حالة العجز. تأتي هنا الجهبذة « الجيوسياسية » وشخصية المحلل « الجيوستراتيجي ». في هذه الخطابات، توجد الإمبريالية أو « الغرب » دائما في أزمة وأعداؤها دائما على وشك تحقيق انتصارات. باصطلاح مجرد وادعاءات حول الدول و « الأنظمة » والاستعلامات والسفارات والعساكر واستراتيجياتها، يفسر لنا هؤلاء كيف أن قوى الشر (أمريكا وحلفاؤها) بصدد الانهزام في مسارات عسكرية « جيوسياسية » خارجة عن تدخل البشر البسطاء مثلنا. رغم أن القوى الفاعلة هنا مادية فإنها تبقى أجساما مجردة خارجة عن تأثير الأفراد والمجموعات الصغيرة والطبقات الاجتماعية والجماهير الشعبية وبالتالي عن تدخل الماركسيين. يبدو أن هؤلاء قلبوا مقولة غرامشي المنهكة رأسا على عقب إذ يمكن أن يكون شعارهم « تفاؤل العقل، تشاؤم الإرادة ».

والحقيقة أن ما يدّعون أنها تحليلات، هو هذيان غير عقلاني مصاغ بخطاب الجهبذة الجيوسياسية، حيث الشر دائما على وشك السقوط. أما الإرادة، فهي عازفة، عاجزة عن التدخل والفعل، بل هي غائبة عن هذه الخطابات، التي ليست إذن دون علاقة بما ذكر أعلاه من سلوك الجمهور والاصطفاف الثنائي والسلبية.

كما يمكن إرجاع هذا المشكل إلى تهميش التحليل العقلاني الذي ترك حكرا يدعيه الخاضعون للإمبريالية بدرجاتهم وتنويعاتهم بينما أخذت « البروباغندا » كل فضاء تعبير أنصار المقاومة [7].

تشير هذه الظواهر إلى غياب حركة تحمل استراتيجية مستقلة تهدف لانعتاق الإنسانية. إذ يبدو أن الأفق الوحيد صار سقوط ما يوجد من قوى الشر. ها قد انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان لصالح طالبان. ها قد سقط الإخوان في مصر لصالح حكم العسكر. ها قد سقط البعث في سوريا لصالح الإسلاميين. ها قد تراجع الاستعماران الانقليزي والفرنسي لصالح الإمبريالية الأمريكية بعد-الاستعمارية. وقد تسقط غدا الإمبريالية الأمريكية لصالح نظام استغلال وهيمنة جديد.


أهمية الستراتيجية

وليست الأدبيات المؤسسة للماركسية ببريئة تماما من هذا الخطأ. حيث تساوي عديد هذه الكتابات ضمنيا أو صراحة أزمة الرأسمالية أو سيطرة البرجوازية بالثورة والثروة بالاشتراكية. بل إن الحديث عن الثورة فيها كان يعني ضمنيا الحديث عن الاشتراكية إذ أن الثورة المرتقبة كانت بالضرورة اشتراكية أو في البلدان قبل الرأسمالية والمستعمرات الثورة الديمقراطية (البرجوازية، الوطنية، الجديدة، إلى غير ذلك من تنويعاتها وتسمياتها). في كل الحالات كانت أزمة الرأسمالية أو الطبقة المهيمنة أو الدولة القائمة تساوي تقدما للتاريخ مرورا إلى مرحلة أرقى (بمعنى ما). هذا ما يفسر مثلا الصعوبة التي وجدتها الحركة الماركسية في التعامل نظريا وعمليا مع صعود الحركة الفاشية.

ويعود هذا إلى النزعة الحتمية الموجودة كثيرا في كتابات ماركس وانجلس (التي ظنا خطأ أنها من الخاصيات الضرورية لتكون نظرياتهما علمية) حول المادية التاريخية والتي كانت تساوي وتزامن بين الشروط الموضوعية والصنع الذاتي للتاريخ وبالتالي تخلط بين الإمكانية والضرورة.

أما في نصوصهما السياسية فقد وضحا جيدا الإمكانيات المحافظة والرجعية لأزمات الهيمنة والحكم ودرسا تنوع الطبقات الاجتماعية والفاعلين السياسيين وتوجهاتهم المختلفة. إذ قد توجد طبقات وشرائح غير مهيمنة اجتماعيا أو حتى مضطهدة، رجعية (لومبنبروليتارية، الفلاحون في 18 برومير، إلى غير ذلك). كما قد يربط تزييف الوعي طبقات مضطهدة بتيارات سياسة رجعية أو محافظة ما قد يأخذها لصراعات سياسية عنيفة وثورات تعيد إنتاج الاستغلال والاضطهاد حتى في أشكال أسوأ (يمكن التفكير في علاقة البرجوازية-الصغيرة بالفاشية وبالحركات الإسلامية مثلا).

كل هذا للقول أن سقوط حكم أو دولة قائمة لا يساوي التقدم، أن التغيير لا يكون بالضرورة نحو الأفضل، أن الصراع السياسي بين طرفين لا يشمل بالضرورة طرفا أكثر تقدمية من الآخر، أن نفي القائم ليس بالضرورة شيوعيا وأن الشيوعية تظهر على مستوى التجاوز لا الرفض البسيط. بلغة ملموسة أكثر ليست الشيوعية الحركة الوحيدة التي ترفض بقوة الوضع القائم والمستعدة للصراع العنيف مع المدافعين عنه. بل إنها ليست أشد معارضيه رفضا بما أنها ترى له عديد الجوانب الإيجابية مقارنة بما سبقه ولا العنف من قيمها بل هو فقط مكروه قد يفرض عليها. توجد خصوصيتها الحقيقية على مستوى فهم طبيعة الوضع القائم وتصور اتجاه وأفق تغييره. يتمثل ذلك باختصار في اعتبار أصل مشاكل العالم في هيمنة الرأسمالية كنظام إنتاج عالمي واعتبار الحل في نظام إنتاج موجه للحاجيات بدل الربح يرتكز على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج.

والسؤال الأول المطروح على الشيوعيين هو رسم الطريق التي تأخذنا من الوضع الراهن إلى الشيوعية وهذا ما يسمى بصياغة استراتيجية سياسية. إن إضافة التيار الماركسي هي تحديدا تأليف نظرية يمكّن تطبيقها وتطويرها من صياغة هذه الاستراتيجية بشكل علمي. وهذه خصوصية الشيوعيين الماركسيين. 

إن غياب مثل هذا الطريق المقسم لخطوات ومراحل مع شروط (ذاتية وموضوعية) للمرور من مرحلة إلى أخرى، هو الذي خلق هذا التيه والعجز عن تعيين الأحداث في مجرى التاريخ وتحديد الموقع منها والتدخل الصحيح فيها.

ومن أعراض ذلك، عجز من أكدوا على اختلافهم مع حماس على توضيحه وتبيين راهنيته في المواقف والممارسة. فهم يستبطنون كما قال ذلك بعضهم أن هذا الخلاف « فكري » أي « إيديولوجي » أو حول المشروع المجتمعي. والمقصود هنا طبعا هو مسألة الدين ومكانته في الدولة الفلسطينية المرجوة.

وإن كان الأمر كذلك فلا فائدة على التأكيد على هذا الاختلاف اليوم في سياق حرب إبادة ضد كل غزة ومقاومتها المسلحة وعلى رأسها حركة إسلامية. لكن الاختلاف بين الماركسيين وبقية التيارات السياسية ليس أساسه في المستقبل المرغوب بل هو اختلاف نظري، أي حول فهم العالم والفعل فيه. ويتنزل من ذلك اختلاف استراتيجي تنجر عنه اختلافات تكتيكية وعملية في كل مرحلة ولحظة عدا تقاطعات عرضية قد تعترضنا في الطريق.

لذلك كان يفترض أن تظهر خصوصية الماركسيين تلقائيا في الممارسة التي تشتق من تفسيرهم الخاص لما يحدث في فلسطين وتعيينه على ضوء استراتيجيتهم. من المؤكد أن غياب هذا المنطق الماركسي وحتى أبسط التصورات الاستراتيجية هو سبب كل الخلط والاضطراب والغليان غير المثمر.

ليس طبعا دور الماركسيين في تونس صياغة استراتيجية متكاملة لتحرير فلسطين ولا لمثل هذا التمرين مكان في النص. لكن حدا أدنى من التصور والتموقع الاستراتيجي ضروري وإلا كان العمل السياسي حركة دون وجهة وبذلك فقد طابعه السياسي.

لكن يمكن، على أساس بعض الخطوط العريضة التي يصعب مبدئيا أن تكون محل خلاف ضمن الماركسيين بل حتى ضمن الماديين عموما، توجيه النضال المساند للقضية الفلسطينية في تونس على مدى طويل.

من البديهي أن إسقاط دولة إسرائيل ليس ممكننا عسكريا وسياسيا في ظل موازين القوى الراهنة، بين المقاومة الفلسطينية والدولة الصهيونية، أو بين حلفاء القضية الفلسطينية وحلفاء الاحتلال [8]. تعديل هذا الاختلال يستدعي تطورا كبيرا لقوى الإنتاج (بما فيها العسكرية) لصالح الخندق الأول ما يعني تغييرا في بنية الإمبريالية إن لم يكن كليا فعلى الأقل جزئيا أي في المنطقة. ويفيد هنا التفكير في حالة الصين وتايوان حيث رغم التطور والقوة اللذين بلغتهما مازالت دولة الأولى صابرة على استرجاع السيادة على الجزيرة، نظرا دون شك لموازين القوى الدولية. كما يجب استحضار حركات التحرر القومية في منتصف القرن الماضي بما فيها التونسية والجزائرية والمصرية وغيرها لتذكرنا بأهمية العمل السياسي. إذ لم يأت انتصارها على الاستعمار بهزمه عسكريا. كان استقلالها ممكنا لاختلاف البنية الإمبريالية وموازين القوى العالمية آنذاك، عندما كان هناك قطب غير رأسمالي مهم بقيادة الاتحاد السوفياتي إلى جانب مصلحة الومأ في تراجع الإمبراطوريتين الانجليزية والفرنسية. في نفس الوقت كانت حركات التحرر القومي تشمل مناطقا واسعة من العالم وكانت متحالفة مع بعضها البعض وفي عديد الأحيان مع هذا القطب الأول.

إن هذه النظرة البرقية لبنية الإمبريالية في المنطقة ومقارنتها بوضعيات أخرى، تمكن من تعيين الصراع الجاري مع الصهيونية في البنية الكلية للعالم وفي مرحلة من حركة التاريخ. يمكن استنتاج شيئين. أولهما بسيط وهو أن حرب طوفان الأقصى لا يمكن أن يكون هدفها التحرر من الاحتلال ولو جزئيا. في الأقصى يمكن أن تكون العملية التي أطلقتها حماس تعبيرا عن رفض تصفية القضية الفلسطينية بصفقات التطبيع وهذا أحد الدوافع المعقولة التي أعطيت لعملية 7 أكتوبر [9]. ما يمكن استخلاصه ثانيا هو أن تحقيق الشروط التي قد تمكن النضال لتحرير فلسطين من المرور إلى مرحلة جديدة (من الخروج من وضع الدفاع الاستراتيجي) خارج إلى حد كبير عن نطاق فعل سكان فلسطين، أي أنه خاضع للصراعات التي تخاض ضد الإمبريالية بصفة عامة وفي المنطقة خاصة. ولهذا تداعيات يجب فهمها على طبيعة وأهداف النضال في فلسطين وخارجها.

لو انتصرت الثورة الاشتراكية في الومأ وبريطانيا مثلا فهذا يغير تماما ظروف الصراع في فلسطين. لكن هذا التغيير ليس مرجحا في مركز البنية الإمبريالية بل في أطرافها. ويكون أكثر تأثيرا على الصراع ضد الصهيونية كلما قرب جغرافيا من فلسطين. فالتغيير الاشتراكي (أو الذي يقطع مع الإمبريالية بصفة عامة) في سوريا ولبنان ومصر والأردن أقوى أثرا على الصراع ضد الصهيونية منه في تونس أو المغرب. يمكن للبلدان الأولى أن تلحق أضرارا اقتصادية (تجارية مثلا) كبيرة بإسرائيل وأن تمثل قاعدة إمداد مباشرة للمقاومة المسلحة. واعيا بذلك سيحارب الكيان الصهيوني بكل قوته قيام سلطة مناهضة للإمبريالية وخاصة ماركسية في هذه البلدان.

وصلنا إذن إلى أن التقدم على طريق تحرير فلسطين يستدعي الانتصار جزئيا على الإمبريالية ببرنامج تطوير قوى الإنتاج في بلدان المنطقة. يعني ذلك بشكل ملموس الإطاحة بهيمنة الطبقات التي تديم هذه البنية في كل دولة. يستدعي تحقيق هذا الهدف نفسه استراتيجية في كل من هذه البلدان. وهذه الاستراتيجية هي طبعا بالنسبة للماركسيين مبنية على الصراع الطبقي القائم في كل من هذه التشكيلات الاجتماعية المختلفة وتنطوي على مراحل وتكتيكات مرحلية وشروط للمرور من مرحلة إلى مرحلة نحو تحقيق الهدف النهائي.

على هذا الضوء يتضح أكثر ما سبق وأشير إليه من دور محافظ ورجعي للحركات الإسلامية من منظور استراتيجي. فهي تعيق تطور الصراع والوعي والتنظم الطبقية على طريق الاشتراكية والإطاحة بحلفاء الإمبريالية المحليين. يأخذ ذلك شكل الطائفية في بلدان المشرق (سنة، شيعة، مسلمون، مسيحيون…) مثل لبنان وسوريا والعراق. أما في تونس والمغرب مثلا وفي انعدام الطائفية الدينية، فرأينا تحالف هذه الحركات مع الطبقات المهيمنة بل حتى مع الدول الإمبريالية مباشرة، وتنافي سياساتها مع تطوير قوى الإنتاج فضلا عن تهربها من تجريم التطبيع في تونس وقبولها التطبيع في المغرب. وليست سياستها هذه عرضية وبمعزل عن إيديولوجيتها وقاعدتها الاجتماعية البرجوازية-الصغيرة (يبدو أن قاعدتها في المشرق مختلفة ذات طابع ريفي).

مهما كانت إذن فاعليتها في مقاومة الإمبريالية على المدى القصير وحتى صدقها وحسن نيتها (فلا شك أن لهؤلاء عداء لـ « الغرب الكافر » واليهود و « الصليبيين ») فهذه القوى غير قادرة على توحيد شعوب (تحالف الطبقات الشعبية في كل بلاد) المشرق على الأقل حول برنامج تطور يقطع مع الإمبريالية وبذلك تحقيق شرط ضروري لتحرير فلسطين من الاستيطان الصهيوني.

يبين هذا التفكير الاستراتيجي العام والبسيط أيضا مدى انحراف الماركسيين عن أبسط مبادئهم ومدى خطأ خطابهم وشعاراتهم منذ 7 أكتوبر تقريبا. فتكرر عنصر خطابي يسأل « أين هي الأنظمة العربية؟! » وذهب حتى بعض المناضلين للسؤال « أين هي الشعوب العربية؟! » بل والمسلمة! وكان الرجاء أن جاء ذاك السؤال الأول إنكاريا يمهد لإجابة معلومة، لكنها لم تأت. تكرر بدل ذلك التباكي حول خيانة « الأنظمة العربية » دون تفسير هذه « الخيانة » أمام الجماهير. كما لم تفسر لنا هذه الكلمة المبهمة « الأنظمة » وطبيعتها... طبيعتها الاجتماعية، طبيعتها الطبقية أيها الماركسيون! أليست هذه تشكيلات رأسمالية طرفية (بعضها الآخر ريعية مثل السعودية والإمارات) تهيمن فيها برجوازيات تابعة (كومبرادور ريعي)؟! أليست هذه الطبقات مستفيدة اقتصاديا من البنية الإمبريالية، أليس لها إذن مصالح سياسية للتحالف مع الدول الإمبريالية؟! وهي فعلا متحالفة مع الإمبريالية (من موقع ضعف). بدل توضيح الأسس الاجتماعية الطبقية للسياسة الخارجية للدول العربية وفضح تحالف طبقاتها المهيمنة مع الإمبريالية التي ترتبط بها مصالحها الاقتصادية، تكررت أخلقة المسألة بالحديث عن الخيانة. وذلك من منطق الأمور عندما لا يرى هؤلاء إلا الطابع العربي أي القومي لهذه « الأنظمة ». فكيف تترك إخوتها العرب يبادون بهذا الشكل دون تدخل؟!

وهذه عين القومية، إذ يستبطن أصحاب هذا التفكير أن المحرك الأساسي في السياسة هو العامل القومي. بل وذهب حتى البعض للحديث عن العامل الديني، بالدعوة للشعوب المسلمة. لكن مفهوم الطبقة لم يخطر ببالهم للتفكير فيما يحدث وتفسيره! وليست هذه القومية بالضرورة عربية أو تونسية بل هي أعمق من ذلك. توحي بعض الخطابات بأن دعم الحوثيين للمقاومة الفلسطينية يعود لكونهم يمنيين وأن تواطؤ الدولة المصرية مع الحرب الصهيونية يعود لكونها مصرية. ليست القومية إذن فقط تيارات سياسية (قومية تونسية أو قومية عربية) بل هي نظرة للعالم، حتى إن لم ينتم الواحد عن وعي إلى تيار سياسي قومي. هي قومية منهجية، وهي إيديولوجية مهيمنة عالميا يقود منطقها مثلا النصوص القانونية الدولية والدساتير وغيرها، حيث يوجد اعتراف بالواقع القومي ومشروعيته في شكل حقوق قومية أعلاها (الدولة-)الأمة، على عكس الواقع الطبقي وهذه معاينة ماركسية أساسية بقدر ما هي بسيطة ومعروفة.

وتحديدا، إذا انطلقنا من مسار الصراع الطبقي القائم في كل مجتمع، يسهل علينا فهم سلوك الجماهير. يجنب ذلك تخوينها واحتقارها وهو على كل حال سلوك ليس غريبا عن اليسار التونسي. فبدل السؤال « أين هي الشعوب العربية والإسلامية؟! » كان على الماركسيين أن يجدوها ويذهبوا إليها أي بالأحرى أن يفسروا حالتها وينطلقوا منها نحو تغييرها.


مهامنا العملية في القضية الفلسطينية

وإن كان فهم الحاضر يستدعي معرفة الماضي، فإن الفعل فيه يتطلب، كما قيل سابقا، رؤية استراتيجية للمستقبل، توجهه. لا يمكن طبعا أن يكون هدف الحركة البروليتارية في تونس هو تحرير فلسطين. يقوم الصراع الطبقي هنا على أسس مادية أخرى، من التهميش والاستغلال ضمن دولة قومية رأسمالية طرفية. يعطي ذلك الثورة برنامجا محدد لتجاوز هذه البنية.

يجب التساؤل من جهة ثانية حول ما يمكن أن تقدمه سلطة بروليتارية من عون للقضية الفلسطينية. تندرج هذه المساندة ضمن صراع مشترك مع الإمبريالية بمختلف أشكالها. كما يجعل العامل القومي أو عامل الجنسية (أي اللغة والثقافة بما فيها الدين والتاريخ المشترك) الشعوب العربية أكثر حساسية بالقضية الفلسطينية وتعاطفا معها. والفرق شاسع بين التحليل الماركسي وإهمال العامل القومي كما هو بين الأخذ بهذا العامل والقومية المنهجية (الخاضعة للإيديولوجية القومية) التي تجعله العامل الأساسي في السياسة وبذلك في التاريخ. لذلك قد يفيد تذكر ما لقيه الشعب الفلسطيني من دعم مختلفة من إيرلندا واسكتلندا وإسبانيا وأفريقيا الجنوبية وأمريكا اللاتينية.

إضافة إلى مقاطعة الدولة الصهيونية على أوسع نطاق والدعم الدبلوماسي والسياسي للقضية الفلسطينية، ماذا يمكن أن تقدم لها سلطة ماركسية من تونس؟ يمكن أن تدعمها اقتصاديا لكن في إطار ما يسمح به النظام الإمبريالي من إرسال منتوجات وتحويلات مالية. في أقصى الحالات يمكن أن تقدم دعما لوجستيا للمقاومة المسلحة كما تقوم بذلك إيران لكن ذلك يبقى مشروطا بالظروف في ليبيا ومصر. وكل هذا يقتضي تطورا معينا في قوى الإنتاج.

يتبين هنا عرضيا مجددا غياب أي داعي لتساند الدول المندمجة في البنية الإمبريالية القضية الفلسطينية. كما تتضح أهمية البلدان المجاورة مباشرة لفلسطين. طبعا يمكن المضاربة حول انتشار الثورة من الحلقات الأضعف للإمبريالية التي تكون في المنطقة الأبعد على ولوج الدولة الصهيونية اقترابا من الأخيرة، لكن هذا يخرج بنا عن موضوع النص.

لإقامة هذه السلطة البروليتارية وإسقاط سيطرة الطبقات المهيمنة هناك عدة مراحل يجب المرور بها وشروط يجب توفرها. من جهة يجب أن تفهم البروليتارية أسباب مشاكلها وحلولها وأن تعي ذاتها كطبقة ودورها السياسي التاريخي. طبعا لا يكفي هذا التطور وحده إذ يجب أن تتوفر الفرصة التاريخية بدخول البنية الاجتماعية في أزمة تفقد الطبقات المهيمنة سيطرتها. لكن بلوغ المستوى المطلوب من التطور الذاتي نفسه يستدعي تجمع أغلبية البروليتارية حول برنامج سياسي وظهور تنظيم يعمل على توحيدها ويقدر على تنسيق حركتها مركزيا.

الوضع الراهن بعيد عن هذه المرحلة. تنتهي اليوم حقبة من الصراعات انهزمت فيها البروليتارية حيث عجزت عن التنظم باستقلالية وراء برنامج علمي، ما يرادف فشل من رفعوا راية الماركسية في صياغة هذا البرنامج وفي كسب ثقتها ونشر الوعي السياسي صلبها. لم تنجح البروليتارية، ما عدا في بعض الاستثناءات، حتى في خلق تنظيمات للنضال الطبقي الجزئي أي الاقتصادي أو المحلي أو القطاعي.

تتسم اليوم صفوفها بالتشتت ووعيها ومعنوياتها بالتدني بعد سلسلة من الهزائم. مازال جيل جديد من الماركسيين يبحث بعناء داخل المتاهة الاجتماعية عن السبيل إلى الطبقات الشعبية ومفاتيح العمل السياسي صلبها، بل إننا مازلنا نناقش ماهية الطبقة الثورية وملامحها، ناهيك عن برنامجها.

تحصر هذه العودة المنطقية من الأهداف النهائية الموضوعية للحركة البروليتارية إلى الوضع الراهن المهام الحينية وتوجه بذلك عمل الماركسيين. في سياقنا المعلوم هذا إذن أتت لحظة 7 أكتوبر. بناء على الحراك التلقائي الذي أثاره هذا الحدث واستتباعاته، كان يجب على الماركسيين إعطاء نشاط الجماهير مهاما تتماشى مع مدى تطوره وفي نفس الوقت العمل على التقدم بوعيها السياسي وتنظمها. لكن البعض أو ربما العديدين أساؤا تقدير موازين القوى القائمة وتطور الصراع الطبقي في البلاد [10].

لن يعود النص على هذه النقطة لكن يمكن توضيحها بالتساؤل حول الأثر الذي كان لطوفان الأقصى على الصراع الطبقي في تونس انطلاقا من وضعه السابق. من الجانب الموضوعي، هل أدخل تونس في أزمة اقتصادية أو جعلها مثلا محل تهديد عسكري صهيوني أو إمبريالي؟ لم تحدث إذن رجة تأزم البنية الاجتماعية ككل.

من جهة الطبقات المهيمنة، إن لم يوجد أي مس بسيطرتها، فإن اشتعال الصراع في فلسطين، يخلق لها دائما إحراجا إيديولوجيا صغيرا في وجه الطبقات الشعبية. بين « انفتاحها » على الإمبريالية والمكانة الإيديولوجية العاطفية (المتجددة بفعل طوفان الأقصى وما تلاه) للقضية الفلسطينية عند الجماهير، تجد نفسها في تناقض مستمر. لكنها صارت بمرور الزمن خبيرة في الكذب، فالكلام لا يكلفها شيئا ويمكنها من الحفاظ على المعادلة الإيديولوجية القائمة. رأينا هيثم المكي بل برهان بسيس يطنب في مديح المقاومة وذهب حتى إلى تعديد ملاحم التحرر القومي واسترجاع الجزائرية والفيتنامية منها. أما ممثلها الإيديولوجي الأول فقد أغرقنا كما عهد في المزايدات الفارغة. في غياب الموقف السياسي الواضح والقدرة الموضوعية على فضح هذا النفاق على نطاق واسع ضمن الجماهير الشعبية، لم تتغير الموازين الإيديولوجية كثيرا من هذه الجهة.

من وجهة نظر البروليتارية وحلفائها، بديهي القول أن لحظة 7 أكتوبر في حد ذاتها لم (ولا يمكن أن) تحقق نقلة نوعية على مستوى الوعي والتنظم السياسيين. ما حدث هو أنها أثارت جملة من العواطف (فخر وحماس أولا، ثم استنكار وتضامن، وبعد ذلك إحباط) انجر عنها نقاش واسع النطاق لما يحدث في فلسطين وحتى تجمعات جماهيرية تلقائية. خلق ذلك سياقا خصبا للعمل السياسي صلب الجماهير. لكنه لا يقفز بتطورها السياسي آليا من مرحلة إلى أخرى. وهو ما يأتي كنتيجة لتراكم العمل الدعائي والتنظيمي الواعي للماركسيين، خاصة بالنظر إلى الوضعية المعطاة مسبقا قبل الحدث (كما وصفت بسرعة أعلاه).

يمكن ملاحظة ذلك في ضعف المحتوى السياسي للمظاهرات الجماهيرية. وحيثما وجدت السياسية، مثلا في النقاشات التي يمكن أن نراها في منصات التواصل الرقمية، انحصرت في الصور والخطابات المجردة التي يفرضها الاستعراض. لم تربط أبدا بالصراع الطبقي في تونس وبذلك لم تفرز أي نشاط ملموس وإيجابي. هنا تحديدا كان دور الماركسيين في تسييس الحدث، بتفسيره ووضعه في سياقه واستخلاص دروس سياسية منه، بوصل الأطراف المتحاربة في فلسطين وجوارها بما يوافقها سياسيا في المجتمع التونسي، إلى غير ذلك.

لو وجدت حركة بروليتارية بمستوى متقدم من التنظم، واعية بطبيعة حكم 25 جويلية وموقفها منه، كان يمكن مثلا تنظيم إضرابات ومظاهرات جماهيرية من أجل تجريم التطبيع وغير ذلك من الإجراءات السياسية. أما الوضع التونسي الذي أتت فيه شرارة طوفان الأقصى، فلم يكن قابلا للاشتعال. لم يكن الانقسام الطبقي مسيسا بل إن السياسة كانت مهجورة ومنبوذة من شعب منهك. من هنا تطرح الأهداف المباشرة نفسها بشكل تلقائي. بالإضافة إلى شعار تجريم التطبيع المركزي، تأتي على المستوى الفكري والسياسي المهام التالية: الدفاع على أهمية العمل السياسي انطلاقا من دوره في فلسطين وضرورته لمساندة قضيتها، تفسير علاقات الصهيونية والبرجوازية التونسية بالإمبريالية، فضح خضوع الدولة التونسية ورئيسها لضغوطات الإمبريالية، موازات صراع الطبقات الشعبية ضد البرجوازية في تونس بالصراع ضد الصهيونية في فلسطين، التنبيه للطابع طويل الأمد للنضال الفلسطيني وللطبيعة المحدودة والدفاعية للأهداف الآنية الممكنة للمقاومة ووضعها في إطار مسار استراتيجي لتحرير فلسطين يرتبط بالقطع مع الإمبريالية وطنيا.

على الصعيد التنظيمي، في الفترة الأولى، فترة صعود الحراك الجماهيري، يعمل الماركسيون على تشكيل هياكل محلية وقطاعية للعمل على القضية الفلسطينية، تدعو للمقاطعة (الاقتصادية والثقافية والجامعية إلى غير ذلك) ولقانون يجرم التطبيع، بحملات في الأسواق والأحياء الشعبية والجامعات والمعاهد إلى غير ذلك. في الفترة الثانية، تضطلع هذه الخلايا التنظيمية نفسها بمقاومة حالة الجزر. على المستوى العملي المباشر، تذكر الجماهير بالالتزام المستمر بالمقاطعة وبجمع المساعدات للفلسطينيين. يمكن أن تستمر هذه النوى على المدى المتوسط في العمل الدعائي أو أن يتم إحياؤها في ظرفيات مستجدة تحتاج العمل بكثافة حول القضية الفلسطينية أو أن يتسع نشاط عناصرها الأكثر تقدما إلى مجالات سياسية أخرى.

لا شك أن سوء تحديد المهام العملية الممكنة والراهنة والمحايثة للواقع القائم والتي قد يمكن لمس بعض نتائجها سريعا، وأن هيمنة الاندفاع الانفعالي دون وجهة التي انجرت عنه، هما اللذان أديا لاحقا إلى حالة العجز وتردي معنويات عديد أصدقائنا ومن ثمة إلى التطبيع مع الوضع القائم.


في الختام، عفوا يا شعب السودان!

وحتى بأخذ الأمور إلى هذا المستوى النفسي، يثير ضعف التضامن، بل شبه انعدامه منذ 7 أكتوبر، مع الشعب السوداني في الأوساط اليسارية الاستغراب.

لم يصل التساؤل وحتى بعض السؤال حول أسبابه إلى جواب مقنع. ذلك خاصة أن الثورة السودانية والمأساة التي يعيشها اليوم هذا الشعب ترشم كل الخانات الإنسانية والقومية والأممية.

طبعا، تتميز القضية الفلسطينية بامتداد تاريخي كرس لها مكانة عند مناهضي الإمبريالية حول العالم وخاصة عند الشعوب العربية. كما أنها محل تركيز إعلامي وسياسي لأسباب مختلفة من بينها الأهمية التي اكتسبتها دولة إسرائيل في علاقة بالإمبريالية، أدى إلى حجب الحرب الرجعية الفظيعة في السودان.

تفسر هذه وغيرها من الاعتبارات المعروفة والبسيطة، سهولة العمل السياسي حول القضية الفلسطينية، والتفاعل التلقائي للجماهير معها، لكنها لا يمكن أن تفسر لماذا لم يحاول الماركسيون العمل حول الحرب في السودان وخاصة محاولة ربط الاثنين في دعايتهم، كأوجه مختلفة للصراعات من أجل الانعتاق في المنطقة. وهذا خاصة عند من أكدوا على البعد القومي العربي للقضية الفلسطينية وأيضا عندما نعلم بوجود لاجئين سودانيين في تونس جراء الحرب.

ولم تخلص مضاربات الكاتب محاولة لفهم ذلك إلا إلى فرضيتين اثنتين لا تقصي إحداهما الأخرى وتبدوان واردتين خاصة نظرا إلى ما أشير إليه أعلاه من أخطاء نظرية. تتمثل أولهما في الطبيعة الرجعية لطرفي الحرب في السودان. إذ لا يوجد بينهما جانب أكثر تقدمية من الآخر يمكن مساندته، لأن أنصار الثورة بقوا خارج الحرب القائمة. ليس هذا دون علاقة بمنطق الاصطفاف الثنائي. الفرضية الثانية هي أن العديدين يرون أن حربا أهلية تبقى أقل خطورة أو أهمية من حرب ضد عدو خارجي وهي في النهاية شأن داخلي للشعب المعني. يحيل هذا التفكير على مشكلة القومية المنهجية.

ليس المقصود طبعا نفي الفرق بين حرب السودان والحرب الصهيونية، لكنه موجود في مستوى آخر. فانتصار الأخيرة كان قد يعني تصفية شبه نهائية للقضية الفلسطينية كما عرفناها. هذا فرق ملموس مرتبط بسياق معين وليس فرقا مبدئيا.

أما من وجهة نظر العمل السياسي في تونس، تمكننا حرب السودان من فضح إجرام الطبقات المهيمنة والدول العربية، خاصة أن ضحيتها الرئيسية هذه المرة ليست حركة إسلامية رجعية. كما يمكن ربط علاقات باللاجئين السودانيين والدعوة للتضامن عبر الوطني، في وجه القومية التونسية الرجعية. غريب أن دعاة الأمة العربية لم يفكروا في ذلك.


ملحق 1: بعد سقوط البعث في سوريا

يدعو سقوط البعث في سوريا إلى طرح بعض الأسئلة لعلها تأخذ لاستخلاص دروس. ما كان الهدف من « دعم » هذا الطرف « الأقل سوءا » وماذا جنى منه الاشتراكيون؟

وقد يسهل الجواب اليوم أنه كان يرمي تحديدا لتجنب ما يحدث مؤخرا من توغل صهيوني، أو لتأمين إمدادات المقاومة. هذه أمور يجب أخذها بجدية. لكن سؤالا آخر يطرح نفسه هنا: إلى متى؟ وهناك جوابان جديان ممكنان: الأول، إلى أن تتحرر شعوب المنطقة من الإمبريالية أو على الأقل من الصهيونية؛ الثاني، إلى أن تصير البروليتارية جاهزة لإقامة سلطتها. يقع هذان الجوابان في خطأين استراتيجيين يعودان إلى نفس الخطأ النظري.

يندرج التفكير الأول ضمن التقاليد الوطنية الديمقراطية وليدة الانحرافات الستالينية، وممثله الأوفى هو الحزب « الشيوعي » السوري نفسه. يعتبر، صراحة أو ضمنيا، أن التحرر الوطني، مرحلة ديمقراطية-برجوازية لم تنته بعد، وبالتالي فهذه « الأنظمة الوطنية » كما يقول حاملو هذا التفكير، هي قوى تقدمية، هذا إن لم تكن القوى الرئيسية التي تقود المرحلة. ما لم يلاحظه هذا المنطق هو فقط حركة التاريخ. فالفترة التي كانت فيها هذه القوى البرجوازية (-الصغيرة) الوطنية تقدمية ولت منذ زمن بعيد. لم تعد حتى تطور قوى الإنتاج. نقد هذا التيار قديم ومعروف على كل حال ولا مجال للخوض فيه هنا [11].

يقر الجواب الثاني بالطابع السياسي للصراع الطبقي في المرحلة القائمة والراهنية التاريخية للسلطة البروليتارية في البلدان الطرفية والعربية تحديدا، وهو موجود ضمن رفاقنا وأصدقائنا لذلك فهو الأهم. في هذا المنطق يعتبر الدفاع عن هذه الدول مسألة عملية صرفة، هو دفاع عن الخيار أو الطرف الأقل شرا الذي يفرضه الوضع الراهن في انتظار تغييره.

ما يغفل عنه هذا التفكير هو أن مساندة « الأقل سوءا » قد تعيق تغيير الأمور إلى الأفضل. ويشترك هكذا مع النظرة الخطية الأولى لحركة التاريخ، فنظرته للديناميكية السياسية هي الأخرى خطية.

حكم نفس المنهج مثلا من قفزوا إلى الجبهة « الديمقراطية » في وجه انقلاب ومسار 25 جويلية. كان من الواضح لنا حينها أن تخندقنا مع هؤلاء سيعيق بقوة تقدمنا السياسي. يجب بنفس المنطق التساؤل عن آثار التحالف مع هذه « الأنظمة الوطنية » على دعايتنا في تونس وعلى رفاقنا الماركسيين هناك.

بالعودة للأمور الملموسة، يجب التساؤل أيضا عن ماهية هذا الدعم الذي يقدمه أصدقاؤنا للأطراف والدول المعنية. نجد أنه، لا يكاد يتجاوز نشر مواقف ونصوص بصفة عامة. هذا ليس بالكثير ويمكن التساؤل عن أثره وجدواه في بلوغ مقصده.

لكن إن كان لا ينفع كثيرا وجهته فهو يضرنا ولو قليلا. بالمنطق الحسابي البسيط، كان مجهود الدعم هذا على تواضعه يمكن أن يبذل في مهام عملية متعلقة بتونس موضوع تدخلنا أو على الأقل أن يتوجه إلى أطراف ماركسية ثورية في البلدان المعنية.

عندما لا يكون للموقف السياسي ترجمة عملية على الميدان، فإن الجدوى الوحيدة المبتغاة منه فكرية. وهنا يجب التساؤل عن الأثر الفكري لنشر مواقف « أقل الشرور » ومدى خدمتها للدعاية الاشتراكية.

بدفاعه عن دول رأسمالية نيولبرالية، يروج هذا الخطاب (دون قصد) لمنطق السياسة البراغماتية المعادي للروح الثورية. كما يساهم في تدعيم القومية المنهجية، عندما يغفل الصراعات الطبقية القائمة داخل هذه الدول.

في ظل الركود السياسي القائم في تونس يمكن أن تساهم أحداث عالمية، وخاصة عربية، في الدعاية الفكرية الاشتراكية. حتى تكون إيجابية يجب أن تنشر صلب جماهير البروليتارية وجهة النظر الماركسية، يجب أن تبين لها أن وضعها وصراعها مشابه لنضالات أخرى عبر العالم ومرتبط بها وأنه يمكنها التعلم منها.

يندرج كل هذا ضمن ضرورة صياغة تصور استراتيجي جديد للثورة البروليتارية في منطقتنا، عابر للدول القومية القائمة، تصاحبه سردية اشتراكية جديدة مستقلة عن السردية الإمبريالية والسرديات القومية المحافظة والرجعية « المناهضة للعولمة » بتنويعاتها المختلفة.

وللدرس السوري أهمية ملموسة بالنسبة لنا في تونس إذ يمكن على ضوئه التفكير في الدولة الجزائرية الموجودة على حدودنا. والسؤال مطروح، ما هو الموقف الصحيح للماركسيين في تونس والجزائر من هذه الدولة؟

تثير الوضعية السورية ملاحظة أخيرة ليست تماما دون علاقة بما سبق وبمشاكل القومية والدولنية المرتبطة بها. طيلة الحرب الطويلة التي قامت بعد الثورة، كيف لم يتخذ العمل الماركسي الشكل المسلح [12] ولم يحاول الماركسيون خلق مناطق سلطة شعبية؟ هل هي مشكلة نظرية وسياسية أم فقط عملية تعود إلى غياب الموارد؟ وهذا السؤال مشروع خاصة بوجود المثال الكردي في نفس المنطقة. ينطبق نفس التساؤل أيضا على حالات مثل السودان وليبيا. تصير هذه المسألة حارقة أكثر اليوم نظرا للتوغل الصهيوني في سوريا.


ملحق 2: بعد وقف إطلاق النار في غزة

نظرا لحجم الموت والعذاب والدمار الذي لحق سكان غزة، وللضربات السياسية التي تكبدها حزب الله باغتيال قادته وهدنته المنفصلة مع جيش الاحتلال وللتوغل الصهيوني المتواصل في الأراضي السورية، يصعب اليوم وصف نتائج حرب طوفان الأقصى المباشرة بالانتصار. لكن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة أنقذ الموقف من أسوأ السيناريوات، التي كانت قد تصل إلى شبه تصفية القضية الفلسطينية كما ورثناها وعرفناها طيلة الفترة الرجعية المنطلقة منذ نهاية السبعينات.

ولا ينقص شيئا من بطولة المقاومة المسلحة التذكير أنه أتى بضغط دولة الومأ ضد إرادة القيادة الإسرائيلية [13]. يعود ذلك على الأرجح إلى تكتيك جديد يفضل تكريس كل الموارد الاقتصادية للصراع مع الصين دون غيرها، كما يؤيد المنعرج السياسي المشابه في علاقة بأكرانيا. لكنه ينبه مجددا إلى أي مدى مازال مصير الفلسطينيين رهين السياسات الإمبريالية وميزان القوى مختلا لصالح الأخيرة.

يستدعي تعديله كما شرح في هذا النص تغييرات سياسات تتطلب هي نفسها عملا طويل الأمد. وإن خفتت الشحنة العاطفية التي أعطاها طوفان الأقصى فإن الحجج العقلانية والآثار الفكرية المعادية للإمبريالية التي تركها لن تتبدد على الأقل لجيل. يمكنها إذن أن تكون منطلق دعاية متواصلة حول هذه النقطة المركزية والتي تستحق الكثير من التفسير والتوضيح.

في وضع الجزر السياسي الراهن في البلاد يبقى منطلق العمل على القضية الفلسطينية وأساسها في الحياة اليومية هو المقاطعة الاستهلاكية ثم تأتي غيرها من أوجه المقاطعة المناسباتية. وإن هذه المنطلقات قابلة للتسييس وللربط بعديد المسائل من التبعية الاقتصادية والثقافية إلى تضارب المصالح الطبقية وغير ذلك.

لن يأتي تحرير فلسطين « بالمدفع والبندقية ». العمل المسلح شكل من أشكال متعددة للعمل السياسي المعادي للإمبريالية. إن الاكتفاء بالتغني الرومنسي بالمقاومة المسلحة من مناسبة إلى أخرى ثم التقاعس والتواكل في أبسط المهام السياسية صار سلوكا غير مسؤول خاصة ممن لا يعيشون تداعيات الحروب الصهيونية.

إن لم تمثل حرب 7 أكتوبر نقطة انطلاق لفترة ونهج جديدن من العمل والمسؤولية السياسيين – ولنا في مجاز حفر الأنفاق صورة بليغة كما لاحظت رفيقة – فقد ذهبت عذابات الفلسطينيين سدى وفقد النضال المسلح الفلسطيني جدواه السياسية. 


محمد بالهادي، عضو المجموعة الماركسية الثورية

__________________________

1.  بل تظهر أكثر مثلا كتناقضات بين أجيال أو بين الفرنكوفونية والأنجلوفونية. وليس الترابط الفعلي بين هذه العوامل وهذه التيارات منعدم الدلالة: تتناقض هذه التيارات في نفس الإطار الإيديولوجي الثقافوي والمثالي بصفة عامة.

2. حول هذه النزعة وعلاقتها بانتشار المقولات الديكولونيالية، أنظر:

Neil Larsen - The Jargon of Decoloniality

3. إشكاليات هذا المفهوم والمصطلح عديدة ومعروفة من قلة دقة وطابع جغرافوي ثقافوي جوهراني لا-تاريخي. هل تنتمي اليابان أو كوريا الجنوبية (دون الشمالية) أو إيرلندا أو الأرجنتين إلى « الغرب »؟

4. أنظر مثلا:
Groupe Krisis - L’Exhumation des dieux. Islamisme et capitalisme
Samir Amin - L’eurocentrisme : critique d’une idéologie.
بعض فصول الكتاب الأول موجودة في هذا الموقع.

5. هناك دائما فرضية أخرى وهي هنا أن يتحول مثلا جزء من الاشتراكيين إلى قوميين إسلاميين

6. أنظر مثلا: مهدي عامل - هل القلب للشرق والعقل للغرب؟ ماركس في استشراق إدوارد سعيد

7. الشكر لصديقة أشارت إلى هذه المشكلة

8. أهمل هنا الصراع الطبقي داخل المجتمع الإسرائيلي نظرا للسيطرة الرهيبة للإيديولوجية القومية الصهيونية التي يشترط تحديها تغييرات مادية كبيرة في المنطقة مازالت بعيدة.

9. نقرأ في الوثيقة التي أصدرتها حماس بعنوان "هذه روايتُنا .. لماذا طوفانُ الأقصى؟": « كانت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023م، خطوة ضرورية واستجابة طبيعية، لمواجهة ما يحاك من مخططات إسرائيلية تستهدف تصفية القضية الفلسطينية. »

10.  تطرقنا لهذه النقط في «طوفان الأقصى في تونس: تقييم سريع وما بعد» وسنعود لها في نص لاحق

11. انظر مثلا: محمد علي الزرقا، إلياس مرقص – خيانات الحزب الشيوعي السوري، إلياس مرقص – الماركسية السوفياتية والقضايا العربية، مهدي عامل – مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني

12. يذكر أن تيار اليسار الثوري في سوريا حاول في هذا الاتجاه. أنظر موقعه.

13. لا توجد معطيات كافية للتحقق من جدية أقوال رئيس الومأ حول تهجير الغزاويين ولذلك لن يعلق عليها هذا النص.

رئاسيات 2024: أيّ تكتيك للثوريين؟



تأتي الانتخابات الرئاسية المقبلة في سياق يتّسم بازدياد قمع السلطة لمعارضيها وتضييقها على الحرّيات. وهو ما أشاع حالة من الإحباط لدى كلّ المعوّلين على هذا الاستحقاق من أجل تغيير الأوضاع. وزاد قرار هيئة الانتخابات بإقصاء جلّ المترشحين في الطين بلّة. ولئن كان من المفهوم أن يهيمن شعور الإحباط على الليبراليين السطحيّين، الذين لا يرون غير الانتخابات سبيلا لـ"تغيير الواقع"، ويتخذون على أساسه موقفًا داعيًا إلى المقاطعة، فإنّه يفترض بالشيوعيين أن لا يشاركوهم نفس الشعور، لأنّهم أصلا لا يعوّلون على الانتخابات من أجل إحداث تغييرات جذرية في واقع البلاد والطبقات التي يدافعون عن مصالحها. على الأقل ليست هذه الانتخابات التي تجري في ظلّ الدولة الرأسمالية التابعة وهيمنة أجهزتها وأيديولوجيتها. إذ يعلمون أنّ التغيير الجذري والاستراتيجي لواقع البلاد والشعب لا يمكن أن يحصل الّا عبر ثورة الطبقات الشعبية بقيادة طليعتها السياسية المنظّمة.


إلّا أنّ انعدام هذا الوهم لدى الشيوعيين لا يعني انعدام اهتمامهم لأمر الانتخابات أو أن يتعاملوا معها كما لو كانت مسألة ثانوية. ولعلّ العودة إلى كتابات العديد من الماركسيين الثوريين، وعلى رأسهم لينين، كفيلة بتأكيد أنّه لا يمكن ولا يجب التعامل مع الانتخابات بشكل جامد أو قطعي أو طهوري. فموقف المشاركة أو المقاطعة هو تكتيك مرتبط دائمًا بحالة الصراع الطبقي والوطني ومساره المتعرّج وبميزان القوى وبالهدف\الأهداف المرجوّة من التكتيك. فلا قرار المشاركة في الانتخابات مبدأ ثابت لدى الثوريين ولا قرار مقاطعتها كذلك (يمكن الاطلاع على ما كتبه لينين في هذا الصدد مثلا في "ضدّ المقاطعة"، "اليسراوية، مرض الشيوعية الطفولي" أو في هذا المقال التلخيصي للماركسي البريطاني جون مولينو بعنوان "الثوريون والانتخابات"). ولا حاجة لاقتباس مقاطع طويلة من هذه الكتيبات والمقالات، إذ لا وهم عندي في إمكانية أن نجد أجوبة على الأسئلة العمليّة التي تواجهنا في واقعنا الحاضر في "كُتُب الأقدمين"، وإنّما من واجبنا أن نستأنس بآرائهم، وخاصّة بطرق تفكيرهم المشتبكة مع الواقع، والاستفادة من تجاربهم لتساعدنا في فهم ومواجهة ما يمثُل أمامنا اليوم من تحدّياتوهذا ما أسعى إليه في هذه الورقة.


خيار المقاطعة ونتائجه المحتملة


مثلما أوضح لينين، لا معنى لقرار المقاطعة إن لم تكن مقاطعة نشطة وتحصل في ظلّ زخم جماهيري يمكن أن يؤدّي إلى وضع ثوري. ومع ذلك يمكننا أيضا التفكير في سياقات أخرى قد تحتمّ علينا اعتماد تكتيك المقاطعة النشطة من أجل الدعاية لـ"ديمقراطيتنا البديلة" وتعزيز وعي الطبقات الشعبية في إطار المراكمة لوضع جديد قد يسمح لاحقًا، في المدى المنظور، بتشكّل وضع ثوري (وهو وضع يشبه نسبيًا لعشية انتخابات 2019 لو كانت هناك قوى ثورية فاعلة حينئذ). إلّا أنّه من الواضح اليوم أننا لسنا بصدد حالة مشابهة لما سبق ذكره، فلسنا حيال حالة نهوض جماهيري يمكن أن تؤدّي إلى ثورة ستقطع الانتخابات الطريق عليها، ولا قدرة للمجموعات الثورية اليوم على أن تقوم بحملة مقاطعة نشطة يمكنها من خلالها تحقيق بعض المكاسب لجهة الدعاية لبرنامجها والتمهيد لوضع أفضل في المدى المنظور


بالمقابل، ماذا يطرح أنصار خيار المقاطعة اليوم (تحديدا في أوساط الليبراليين واليسار الليبرالي، وجزء من الدساترة والإسلامويون بعد أن أُقصيَ مرشّحوهم)؟ إنّهم يقدمّون المقاطعة كتكتيك يهدف إلى إضعاف مصداقية هذه الانتخابات، وبالتالي التشكيك في مشروعية نتائجها، ومن ثمّة في حكم قيس سعيّد برمّته.


 تكتيك المقاطعة واضعاف المصداقية هو هدفهم المباشر، الّا أنّ الأهداف الأبعد تختلف من مجموعة إلى أخرى. ففيما يهدف اليساريون، بما في ذلك بعض الماركسيين، إلى عزل السلطة شعبيًا وفضح الطابع الاستبدادي والفردي لسلطة قيس سعيّد، فإنّ جزءًا هامًا من اليمينيّين والليبراليين، وخاصّة الإسلامويّين والدساترة، يهدفون في الواقع إلى إضعاف مشروعية قيس سعيّد لأسباب مختلفة تماما. إنّهم لا يهتمّون كثيرًا برأي الطبقات الشعبية في قيس سعيّد، فهم يعلمون أنّ هذه الطبقات – وجزءا كبيرا من الطبقة الوسطى - لفظتهم وكرهتهم قبل أن يصل سعيّد إلى الحكم ولم تغيّر رأيها فيهم حتى اليوم. وبالتالي لا أمل لهؤلاء في أن يتحوّل الموقف المنشود، بالعزوف الشعبي عن المشاركة في الانتخابات، إلى قوّة لصالحهم، بل إنّهم يسعون إلى إضعاف سعيّد ونزع الشرعية عن انتخاباته من أجل تسهيل التشهير به والضغط عليه لدى “المجتمع الدولي”. فكعادتهم، يستعيض هؤلاء (خاصة الليبراليون والإسلامويون)عن ضعفهم شعبيًا باستدرار "التعاطف" و"الدعم للديمقراطية" من أعتى الدول الامبريالية، التي لن تمانع طبعًا في استعمال هذه الورقة كعادتها من أجل مزيد ابتزاز النظام الحاكم وتطويعه أكثر لمصالحها. ولا حاجة للقول أنّ موقفهم هذا لا ينبع من خلفية “مبدئية” (عكس ما يزعمون باتهام غيرهم بـ”الانتهازية”). فهؤلاء الذين أمضوا السنوات الماضية في نقد سعيّد وتوصيفه بـ”الديكتاتور” و”المنقلب” والخ. كانوا رغم ذلك مستعدّين تمامًا لخوض المعركة الانتخابية ضدّه لو قبلت هيئة الانتخابات بمرشّحيهم (تحديدا الزنايدي بالنسبة للدساترة والليبراليين والمكّي أو الدائمي بالنسبة للإسلامويين).

أما خيار “نحن لسنا معنيّين بالانتخابات”، الذي عبّر عنه جزء هامّ من الرفاق بالمجموعة، وكذلك في مجموعات يسارية ثورية أخرى، فهو يُعدّ بتقديري نوعًا من المقاطعة السلبيّة وتكتيكًا خاطئًا. وذلك للأسباب التالية:

أساسًا، لأنّه سيساهم في السماح لقيس سعيّد بالفوز في هذه الانتخابات. وهو ما يعني ببساطة الاستسلام لأحد سيناريوهين سيّئين وخطيرين أو كلاهما: استكمال قيس سعيّد ترسيخ نظامه الاستبدادي؛ و\أو استمراره في الحكم بمشروعية مؤسساتية أضعف، بما سيسهّل على القوى الصلبة داخل النظام، بالتعاون مع جزء هام من الكمبرادور غير الراضي عن سعيّد، باستغلال الهبّة الشعبية القادمة (والمتوقّعة بسبب تواصل نفس السياسات الاقتصادية) للانقلاب عليه والتأسيس لديكتاتورية مكتملة الشروط تعيدنا إلى وضع ما قبل 14 جانفي، لا ما قبل 25 جويلية كما يأمل بعض الواهمين من الليبراليين واليسار الليبرالي. وأنا شخصيًا، أرجّح أنّ الأوضاع متجهة إلى هذا السيناريو الثاني لأسباب لا يتسع هذا النص لتفصيلها وليست مرتبطة مباشرة بهذه الانتخابات.


ماذا يعني تحقّق أحد هذين السيناريوهين أو كلاهما (أيْ أن يحصل الأوّل ثمّ يعقبه الثاني)؟ سيعني ببساطة الانتقال من الوضع الراهن المتّسم بتزايد التضييق تدريجيا على الحريات العامة إلى وضع تنعدم فيه هذه الحرّيات، وبالتالي تُغلَق فيه أمام الثوريين كلّ سبل النشاط الجماهيري القانوني (إعلاميًا وجمعياتيا والخ) الضروري والحيوي من أجل تحقيق أهدافنا في الدعاية والإنغراس صلب الطبقات الشعبية. بعبارة أخرى، إنّنا سننتقل إلى وضع تكون فيه شروط الصراع الطبقي الوطني أسوأ بكثير للثوريين، بما لن يسمح لهم بالمراكمة الكمية وصولا إلى التغيير النوعي عند التقاء الظرفين الموضوعي (انتفاضة شعبية) والذاتي (تنظيم ثوري قويّ ومنغرس طبقيا). ويكفي أن نتذكّر كيف كانت حال المجموعات الثورية الجدّية (حزب العمال الشيوعي التونسي مثالا) في عهد ديكتاتورية بن علي. لم يكن ينقص هؤلاء الشجاعة والصمود في وجه القمع، لكن افتقادهم إلى الحدّ الأدنى من حرّية التنظم والعمل وسط الجماهير (بسبب ظروف القمع والملاحقة الأمنية المستمرة) لم يسمح لهم بالدعاية الناجعة لبرنامجهم وأفكارهم بما يكفي للانغراس صلبها وكسب ثقتها. ولذلك، عندما انتفضت جماهير شعبنا في 17 ديسمبر لم تكن تعرف شيئا عن حزب العمّال، أو غيره، ولم تتجه إلى الشيوعيين من أجل قيادتها في ثورتها ضدّ نظام بن علي. طبعا، هذا لا ينفي ما ارتكبه هذا الحزب، وغيره من المجموعات الثورية، من أخطاء تكتيكية فادحة قبل الثورة وبعدها.

بكلّ صراحة رفاقية، في حال عادت الديكتاتورية المطلقة، لا أعتقد أنّ المجموعات الثورية بوضعها الراهن اليوم ستكون قادرة على تحقيق أداء أفضل ممّا حقّقه مناضلو حزب العمّال الشيوعي خلال عهد ديكتاتورية بن علي. كما لا أعتقد أنّ الطبقات الشعبية ستنتفض في وجه هذه الديكتاتورية قبل زمن طويل نسبيا (لا أتصوّر كذلك أنّها ستحتاج الى 23 عامًا كما في عهد بن علي بسبب ما نعرفه من تغيير في وسائل الاتصال والخ وبسبب تعوّد الأجيال الجديدة على حرّية التعبير). بل إنّني مقتنع – مع الأسف – أنّ جلّ أبناء هذه الطبقات سيرحّبون بانقلاب يقوده الجيش مثلا، بعد أن وقع "إقناعهم" طيلة المرحلة المنقضية (إثر إجهاض ثورة 17 ديسمبر) بأنّنا "شعوب لا تصلح للديمقراطية" وأنّ الحلّ الوحيد يكمن في "مستبد عادل ينقذ البلاد ويعطف على الزواولة".

أتوقّع أن يرى البعض في هذا الرأي تشاؤمًا أو “انهزامية” أو “تعبًا من النضال” والخ. من حقّهم ذلك، ومن حقّي وواجبي كذلك أن أصارحهم بهذا الاستنتاج المتمخَّض من تحليلي للواقع الملموس وبناءً على تجربتي الشخصية المتواضعة طيلة السنين الماضية.

وبالتالي، أعتقد أنّ الهاجس والهدف الأوّل للماركسيين الثوريين، وعموم اليسار الثوري، في هذه اللحظة يجب أن يكون: الحيلولة دون انزلاق الأوضاع إلى سيناريو الاستبداد المطلق، أو الديكتاتورية مكتملة الشروط على شاكلة ما قبل 14 جانفي، وذلك من أجل ضمان أقلّ الظروف سوءًا لمواصلة النضال والإنغراس بهدف المراكمة للثورة. خاصّة وأنّ الظرف الإقليمي والدولي (الامبريالي) الراهنين يرحّبان، بل ربّما يشجّعان في مكان ما، على تصفية ما بقي من “ربيع عربي” مضطرب لصالح أنظمة ديكتاتورية مستقرّة ومتعاونة وخاضعة تمامًا لهيمنتهم.


وهنا يُطرح السؤال: هل أنّ خيار المشاركة في هذه الانتخابات كفيل بمنع تحقّق هذا السيناريو الأسوأ؟



خيار المشاركة (غير المباشرة) ونتائجه المحتملة

الإجابة المختصرة السريعة: لا شيء يضمن أنّ خيار المشاركة كفيل بمنع تحقّق السيناريو الأسوأ. ولكن، هناك احتمال – ضئيل إلى حدّ الآن – أنّ النجاح في خلق ديناميكية وراء مرشّح جدّي ينافس قيس سعيّد قد يحول دون انتصار الثاني منذ الدور الأوّل. مجرّد وصولنا إلى دور ثاني بين سعيّد ومنافسه سيؤدّي ضرورة إلى حالة أفضل من الإيمان بحظوظ المعارضة، ومن ثمّة حماسة أكبر على التعبئة من أجل الفوز في الدور الثاني.


قد يبدو هذا السيناريو للبعض طوباويًا أو مغرقًا في التفاؤل. الحقيقة، نعم هو متفائل، لكنه غير طوباوي. حجج المشككين في احتمال تحقق هذا السيناريو تتمحور أساسا في مسألتين: قيس سعيّد، رغم ضحالة أدائه، أكثر شعبية من منافسيه؛ لماذا ستقبل بيروقراطية الدولة (بأجهزتها الصلبة) المتحالفة مع سعيّد بتغييره ولا تزوّر الانتخابات في حال انهزم؟

الإجابة على السؤال الأوّل صعبة في ظلّ عدم توفّر استطلاعات رأي دقيقة وموثوقة توضح اتجاهات الرأي العام. لكن بعض ما تسرّب يشير إلى أنّ المسألة ليست محسومة لسعيّد رغم تقدّمه في نوايا التصويت. كذلك، يمكن لمرشّح جدّي، يحمل برنامجًا منحازًا لأغلبية الشعب ويجيد التواصل، وقادر على تعرية فشل سعيّد خلال سنوات حكمه ونقده من يساره (أي تحديدا بخصوص فشله في تحقيق ما رفع من شعارات مثل "الدولة الاجتماعية" و"السيادة الوطنية" والخ) أن يقضم جزءًا من قاعدته الانتخابية المحتملة، فضلا عن إمكانية إقناع جزء من الطبقات الشعبية الميّالة خلال المواعيد الانتخابية الأخيرة إلى العزوف عن المشاركة (لكن الملاحظ أنّها عموما تهتمّ أكثر بالانتخابات الرئاسية).

الإجابة على السؤال الثاني أصعب، إذ لا أحد يعرف حقًا ماذا يجري في كواليس السلطة. لكن يمكن افتراض أنّ بيروقراطية الدولة، فضلا عن جزء هام من البرجوازية الكمبرادورية، ليسا راضيَين عن سعيّدفهو، رغم إبقائه عموما على نفس السياسات العامّة للدولة منذ عقود ورغم نجاح النظام في احتوائه، إلّا أنّه يبقى شخصًا لا ينتمي طبقيا وأيديولوجيًا لـ"المؤسّسة"، ولا يمكن توقّع أفعاله وقراراته. ولا أعتقد أنّ أركان هذا الائتلاف الطبقي الحاكم متجانس في دعمه لسعيّد (“تمرّد المحكمة الإدارية"، وما نسمع عنه من تعطيل إداري لبعض المشاريع أحيانًا ومن قرارات قضائيّة وأمنية مبهمة... من مظاهر ذلك بتقديري) أو مرتاح لتجرّأ سعيّد على وضع أسماء برجوازية هامّة مثل مروان المبروك وكمال لطيّف ومحمد فريخة وخيّام التركي والخ في السجون. “الدولة العميقة" تفضّل بلا شكّ شخصًا أقرب إليها من سعيّد، ولو لم يضمن سعيّد ولاء هيئة الانتخابات ووزارة العدل لرأينا مرشّحين آخرين أقرب لـ"الدولة العميقة" في منافسة شديدة معه.


بناءً على هذا التحليل، وبالنظر إلى المرشّحيْن الباقيْين في السباق (المغزاوي وزمّال)، يمكن بسهولة توقّع أنّ الثاني (الزمّال) يمكن أن يكون المرشّح المحبّذ (في ظلّ اسقاط الزنايدي وقبله عبير موسي) لجزء هامّ من الائتلاف الطبقي الحاكم (وكذلك للقوى الاقليمية الرجعية والصهيونية والامبريالية). فلا شكّ في أنّ برجوازيا كمبرادوريًا مثل زمّال (الذي كان نائبا عن حزب يوسف الشاهد ومتعلقة به عديد شبهات الفساد) سيكون الأنسب لمصالح هذا الائتلاف. كما لا شكّ في أنّ شخصًا بخلفيته الأيديولوجية (الليبرالية ذات المنزع الشوفيني التونسي) والطبقية (رجل أعمال بنى ثروته من الزراعة التصديرية) سيكون أحرص على الإبقاء على علاقات التبعية للمراكز الامبريالية وعلى التطبيع الرسمي – عندما تسنح الفرصة – مع العدوّ الصهيوني


إلّا أنّ هذا التحليل نفسه كان يمكن أن ينطبق بحذافيره على الدور الثاني بين سعيّد ونبيل القروي قبل خمس سنوات. ومع ذلك، حصلت المفاجأة بانتصار سعيّد الذي لا يمكن القول يومها أنّه كان “ابن النظام” (يبدو أنّه استفاد وقتها من الصراعات داخل البرجوازية الكمبرادورية، تحديدا بين رئيس الحكومة المنتهية ولايته يوسف الشاهد ونبيل القروي). هل من احتمال لحدوث سيناريو مشابه اليوم (أي أن يقبل الائتلاف الطبقي بمرشح من خارجه)؟ الاحتمال ضئيل بلا شكّ، لكن حصول تعبئة هامّة (بما يعني كذلك تعبئة ميدانية ومراقبة لصناديق الاقتراع والفرز والخ) وراء مرشّح من خارج النظام (يمكن أن تصبح هذه الفرضية قائمة أكثر إذا وصل إلى الدور الثاني) يمكن أن تحوّل هذا الاحتمال (انتصار مرشح من خارج النظام) إلى احتمال معقول. وهنا نعني طبعا بـ"المرشّح من خارج النظام" زهير المغزاوي.


وبالمناسبة، ما يمكن أن يزيد – قليلا – من احتمال قبول سعيّد بالنتيجة في حال فاز المغزاوي عليه في الدور الثاني هو أنّه لطالما اعتبره من "الوطنيين"، ولكونه كان من أبرز مسانديه في "مسار 25 جويلية" قبل أن يفترقا تدريجيا خلال السنة الأخيرة. كما أنّ احتمال "محاسبته" والتشفّي منه سيكون أضعف مع المغزاوي بكثير منه مع بقية المترشحين.

إذن للتلخيص: احتمال أن يؤدّي خيار المشاركة (من خلال دعم المرشّح المغزاوي – سأعود لذلك لاحقا) إلى تجنب السيناريو الأسوأ هو احتمال ضعيف، لكنه ليس مستحيلا. وشروط تحقّقه تعتمد جزئيًا على القدرة على خلق ديناميكية شعبية وإعلامية ودعائية مساندة له وعلى خوض معركة انتخابية جدّية (تبدأ من قبل الحملة ولا تنتهي قبل الإعلان عن النتائج والتحقق من سلامتها).


ما سبق، كان تحليلًا للسيناريوهات المحتملة في هذه الانتخابات مع ترجيح خيار المشاركة غير المباشرة، من خلال دعم المرشّح زهير المغزاوي، كتكتيك يهدف إلى تحقيق السيناريو الأقلّ سوءًا. لكن من المتوقّع أن يسأل أيّ رفيق.ـة : لماذا تعتبر هذا السيناريو أقلّ سوءًا؟


 لماذا يجب أن ندعم ترشّح المغزاوي؟


بكلّ بساطة، وكما سبق أن شرحت أعلاه، يمثّل وصول المغزاوي إلى سدّة الحكم أقلّ السيناريوهات الممكنة سوءًا. فهو – على عكس سعيّد – لا ينبذ "الأجسام الوسيطة" ولا يسعى إلى القضاء عليها أو تهميشها. هو إبن تجربة نقابية وسياسية طويلة، ولم يُعرف عنه مساندة الديكتاتورية في عهد بن علي. أمّا مساندته لـ"انقلاب 25 جويلية"، فقد كان ردّة فعل – شاركه فيها حتى يساريون وماركسيون، بل وديمقراطيون ليبيراليون كحزب التيار الديمقراطي – مفهومة على تدهور الأوضاع وغضب الشارع حينها، ومسايرة لمزاج الطبقات الشعبية والطبقة الوسطى. نعم، أمضى المغزاوي، ومعه حركة الشعب التي يقودها، وقتًا طويلا نسبيًا في مساندة ما أسموه "مسار 25 جويلية"، إلّا أنّ المتابع الموضوعي لمواقفهم سيلمس تصاعدًا تدريجيًا لنبرة النقد تجاه الرئيس – وقبل ذلك حكوماته الفاشلة المتعاقبة – وانتقالا بطيئا من معسكر "الدعم النقدي" إلى معسكر "المعارضة الجدّية" في الشهور الأخيرة.

لا أذكّر بهذه المعطيات من أجل البرهنة على أنّ المغزاوي هو مرشّح جيّد بالنسبة لنا كماركسيين ثوريين. بل أفعل ذلك فقط كي نحكم بموضوعية على الرجل في ظلّ ما لاحظته من نزعة تستسهل وصف الرجل بـ"الانتهازي" و"شاهد الزور المشارك في مسرحية قيس سعيد" والخ. ولا وهم عندي طبعا في إمكانية أن يكون المغزاوي مرشّحًا مناسبًا للماركسيين الثوريين أو اليسار الثوري عمومًا. فهو باختصار ليس ماركسيًا ولا يحمل برنامجًا اشتراكيًا جذريًا، بل هو ينتمي إلى التيار القومي الناصري المتأرجح بين وسط اليمين (في المواضيع الاجتماعية والثقافية) ووسط اليسار (في المواضيع الاقتصادية والسيادية).   


لتلخيص الإجابة على السؤال: علينا بتقديري دعم المغزاوي، لأنّ في ذلك مصلحة من زاوية تحسين شروط خوضنا الصراع الطبقي والوطني. بعبارة أخرى، من مصلحتنا اختيار خصمنا للمرحلة المقبلة. فهو على الأرجح لن يبادر إلى قمعنا والتضييق على نشاطنا (على الأقلّ ليس في السنوات الأولى لحكمه)، وبالتالي الحدّ من جهودنا في الانغراس، ولن يكرّس جهده للقضاء على الحرّيات العامّة. كما أنّه – وهذا مهمّ جدًا بتقديري – سيكون أميَل إلى سنّ قانون تجريم التطبيع وتقديم دعم ملموس للقضية الفلسطينية، كما سيحاول جدّيًا التخلّص من الهيمنة الأمريكية والغربية وتوجيه السياسة الخارجية نحو التوازن واستغلال التناقض بين المحاور العالمية (تحديدا علاقات وثيقة مع الصين وروسيا وبلدان الجنوب). طبعًا، نحن نعلم أنّه طالما لم يتبّع سياسة اقتصادية سيادية وذات أفق اشتراكي فلن ينجح في تجسيد هذا الهدف، وهنا سيكون دورنا لنقده ومعارضته بناء على ما سيتبّعه من سياسات.


وحتى في الجانب الاقتصادي، لا شكّ في أنّ حركة الشعب، وإن كانت غير متجانسة في هذا المجال، تبقى أكثر نزوعًا من غيرها نحو تحقيق جملة من القرارات والسياسات المنحازة للطبقات الشعبية. وعلى الأرجح مازال هناك مجال للتأثير في ما قد يضعه المغزاوي وفريقه الاقتصادي من وعود وملامح سياسات في برنامجه الانتخابي.  


إذا اتفقنا على تكتيك دعم المغزاوي بصفته الخيار الأقل سوءًا، فكيف يمكننا تطبيق هذا التكتيك، وماهي شروطه ومحاذيره؟               

                           

                             

أيّة مشاركة غير مباشرة؟


يتمثّل التصور الأنسب لهذه المشاركة غير المباشرة (أي خيار دعم المغزاوي) في :
- فتح حوار مباشر جادّ وصريح مع المرشّح بهدف تشكيل نوع من الائتلاف السياسي الداعم له على أساس برنامج واضح. ويجب أن يتضمّن هذا البرنامج قرارات اقتصادية واجتماعية ملموسة لصالح الطبقات الشعبية وإجراءات لتعزيز السيادة في مختلف أبعادها (أساسا الغذائية، المالية والطاقية)، وسنّ قانون يجرم كافة أشكال التطبيع (واجراءات أخرى ملموسة لدعم المقاومة في فلسطين وتعزيز صمود الشعب) والخ. كما يجب أن يتضمّن تعهدا وقرارات ملموسة من أجل الحفاظ على الحرّيات العامة وتعزيزها (خاصة ما يهمّ حرية التعبير والتنظم والإعلام والعمل الجمعياتي والخ).

- على أساس هذا البرنامج فقط يمكن للمجموعة إعلان دعمها للمرشح المغزاوي وانخراطها معه في إنجاح المعركة الانتخابية (من خلال الدعاية له كخيار ممكن يجب دعمه، التطوع في حملته لمراقبة سير الاقتراع والخ).

- السيناريو الأمثل هو في أن تنجح المجموعة في إقناع مجموعات أخرى من اليسار الثوري (وكذلك أصدقاء المجموعة) بهذا الخيار. فهذا سيعزّز وزن "اليسار الثوري" في الحوار مع المغزاوي ويزيد من فرص تجذير البرنامج الانتخابي. لكن حتى في حال عدم النجاح في إقناع بقية المجموعات، أرى أن تبادر المجموعة إلى إعلان ما تراه الموقف السليم وتتحمّل مسؤوليتها في ذلك.


(...)


أخيرًا، هذا التكتيك (دعم المغزاوي بالشروط المذكورة أعلاه) هو بتقديري التكتيك الأنسب – رغم صعوبته - في حال تواصل المشهد الانتخابي كما هو اليوم. لكن المشهد قد يعرف تغييرات تجعل من هذا التكتيك غير ذي صلة. مثلا، قد تعمد السلطة إلى اعتقال أو اقصاء زهير المغزاوي. حينها مالذي علينا فعله؟                                   


خيار المقاطعة ومحاولة عزل سعيّد


في حال قرّرت السلطة إقصاء المرشّح الجدّي الوحيد ممّن يمكن أن نتقاطع معهم (أي المغزاوي)، فوقتها لن يبقى لنا من خيار آخر غير إصدار موقف يدعو إلى مقاطعة هذه الانتخابات والدعاية ضدّها (...) بوصفها مهزلة وتكريس لتسلّط سعيّد والخ. لن يغيّر هذا الموقف من ميزان القوى ولا من نتائج الانتخابات، لكنه قد يساهم في إضعاف مصداقية سعيّد وشرعيّة انتخاباته لدى الطبقات الشعبية. بشيء من الحظ (...) قد يساعدنا ذلك مستقبلا في بناء خطاب وصورة ذي مصداقية لدى بعض الأوساط الشعبيّة.

وفي كلّ الأحوال، يجب أن يتبع إصدار هذا الموقف الاستعداد جدّيًا لسيناريو الاستبداد الكامل بعد الانتخابات…



خلاصة الموقف والتكتيك المقترح


باختصار، ما أدعو إليه في هذه الورقة هو عدم الاستسلام لما نعرفه من اختلال بنيوي لميزان القوى (فليس المطروح تحقيق أهدافنا الاستراتيجية)، ولا الاستسلام للنزعة السائدة في الأوساط اليسارية (بما في ذلك ضمن مجموعات اليسار الثوري) التي تتعامل مع هذه الانتخابات كما لو كانت شأنًا لا يخصّنا. وحججهم في ذلك: أنّ المعركة محسومة لصالح سعيّد بسبب انحياز هيئة الانتخابات، أو “عدم الثقة في المغزاوي الانتهازي”، وكحجة أقلّ سوءًا "عدم قدرتنا على التأثير"… 


كما أدعو بقوّة لعدم الاستسلام لشعور زائف بـ”راحة الضمير” أو “الانسجام المبدئي” أو “التفوّق الأخلاقي”.. فلا راحة ممكنة ولا انسجام للثوريين وهم على متن سفينة يعرفون أنّها ماضية إلى الهاوية. الأحرى بهم أن يحاولوا بما أوتوا من قوّة، ومع من يشاركهم الحدّ الأدنى ونفس الهدف المباشر، إنقاذها وتوجيه دفّتها إلى مكان أكثر أمنًا.. لا أن ينتظروا غرقها، فيغرقون معها وهم "مرتاحي الضمير" و"منسجمين مع مبادئهم" ...

المسألة ببساطة تتعلّق بـ أن نحاول الدفع نحو السيناريو الأقلّ سوءًا لنا من زاوية تطوّر الصراع الطبقي والوطني والشروط الأنسب للثوريين للمراكمة من أجل تحقيق أهدافهم الاستراتيجية. قد لا ينجح التكتيك المقترح (وهذا الأرجح إلى حدّ الآن)، لكن من العار أن نفكّر مسبقًا في “ما قد يقوله عنّا الآخرون” (تحديدا المجموعات السياسية الأخرى) عوض التفكير في مصلحة الطبقات الشعبية والبلاد. ومن غير المقبول برأيي أن ينزع الثوريون إلى اتخاذ موقف “الفرجة من فوق الربوة” خوفًا من ارتكابهم خطأً في التقدير. فلا عيب في السياسة (بمعناها النضالي) أن نجرّب ونحاول ونخطئ طالما بوصلتنا ونوايانا سليمة، المهمّ هو أن نعترف لاحقًا بالخطأ ونعمل على تصحيحه ونصارح شعبنا بذلك. أخيرًا، ما أدعو إليه باختصار هو أن نبادر إلى اختيار خصمنا خلال السنوات المقبلة، وأن نعمل على إبعاد السكّين عوض انتظار أن يهوي بها الجزّار على عنقنا.

أمازيغ العربي

كُتب هذا النص في 7 سبتمبر 2024. وهو يعبّر عن رأي أقلّي لأحد الرفاق بالمجموعة، ننشره ضمانا للحق في التنوع واحتراما للديمقراطية الداخلية.