العنصرية: منتوج إيديولوجي للإمبريالية

في سياق أزمة شاملة وممتدة يمرّ بها المجتمع التونسي، شرعت جماعة شوفينية تُدعى بالحزب القومي التونس  في الترويج لأكاذيب حول مؤامرة استيطانية وخطاب عنصري ضد المهاجرين السود. كعادته قام إعلام السوق والبرجوازية بتغذية هذا الخطاب وتضخيم الموضوع، طبعا بكل حياد، ليصبح بسرعة صاروخية مركز الاستعراض السائد. في إطار مناوراته لإنقاذ شعبيته المتراجعة ركب قيس سعيد الموجة بعقد مجلس أمن قومي حول المسألة (لم تقم بذلك حتى حكومة أقصى اليمين الإيطالية!). تبنّت فيه الدولة رسميا سردية المؤامرة الاستيطانية وأعلنت انطلاقها في سياسة قمع عنصري ممنهجة ستُوسّع من السيطرة البوليسية على المجتمع.

فهم مادّي للعنصرية

الّا أنّ المشكلة الحقيقية التي تواجه الماركسيين هي نجاح هذه القوى، على ما يبدو، في إقناع جماهير واسعة من الشعب بهذه السردية. فتصدرت مسألة المهاجرين السود حديث الساعة وانتشر الخطاب العنصري حولها على نطاق اجتماعي واسع بما في ذلك وسط الطبقات الشعبية.

أدانت الفئات التقدمية والأوساط اليسارية موقف الدولة والخطاب العنصري المتصاعد في موقف مشرف ليس بالغريب عن أصحابه. أنتجت في نفس الوقت حالة الاستياء خطابا جوهرانيا مضادا: "نحن شعب عنصري". هذا صحيح، لكنه خاطئ لأنه منقوص: كل شعوب العالم عنصرية. ليست العنصرية خصوصية تونسية ولا عربية ولا هي جوهر أو "طبيعة" إنسانية. كما أنها ليست مجرد فكرة خاطئة أو متخلفة تنمّ عن جهل يمكن إصلاحها فقط بالتعليم والإقناع. إنّ العنصرية متجذّرة في الأساس المادي للحداثة، أي في الرأسمالية العالمية.

انطلقت الرأسمالية استعمارية عنصرية وتطورت كذلك وستنتهي كذلك. من اكتشاف القارة الأمريكية وإبادة سكانها الأصليين إلى العبودية، من الاستعمار المباشر إلى الإمبريالية المعاصرة. بعد أكثر من نصف قرن من الدحض العلمي للأفكار العنصرية واستمرار مقاومتها الثقافية، مازالت هذه الإيديولوجيا قائمة، بل أن القوى السياسية التي تحملها تبدو في صعود في كل مكان.

منذ انطلاق حركته المجنونة وتحوله إلى محرك إنتاج الحياة (والموت)، يتراكم رأس المال في البلدان "البيضاء" من خلال استلاب واستغلال بقية البلدان والشعوب. منذ أكثر من نصف قرن تعيد الرأسمالية إنتاج هذا الاضطهاد والاستغلال داخل حدود كل دولة عبر الهجرة وإعادة الانتاج الإجتماعية.

تنعكس هذه البنى الدولية والاجتماعية على المستوى الرمزي في تراتبية أرقاها الأبيض وتتدرج نزولا إلى الأسود. إن من ينظر للوهلة الأولى ويرى حالة البلدان "السوداء"، والسود (كمجموعة) في بلدان أخرى، سيلاحظ أنها عموما أسوء من حالة البيض (كمجموعة). بالنظر للهيمنة الإيديولوجية للرأسمالية ولطبيعتها العنصرية فإن التفسيرات السائدة لهذا الواقع تُرجع أسبابه للسود أنفسهم لا لنمط الإنتاج المهيمن وسلطة القائمين عليه. من جهة أخرى، وعلى نفس المستوى، فإنّ الضعف الاقتصادي والسياسي للسود يجعلهم ضحية سهلة للاضطهاد والاستغلال.

فقط بالنظر للتاريخ المادي للرأسمالية يمكن فهم حالة فقر واستضعاف السود وظاهرة العنصرية في عموميتها. بنفس المنطق المادي التاريخي من السهل مثلا فهم العنصرية الجهوية داخل البلاد التونسية ويمكن مزيد تفصيل سلّم التراتبية العنصرية عالميا ووطنيا. وحده التحليل المادي يفسر فشل نصف قرن من مناهضة العنصرية في كل أنحاء العالم.

لن تتبدد العنصرية إذن إلا بتبدد أساسها المادي، أي بتحرّر إفريقيا وبلدان الجنوب التابعة من الإمبريالية.

رد سياسي على العنصرية

لا يعني هذا أن نقف مكتوفي الأيدي في وجه ما يحدث أو أن نعتبره لا-حدثا. في الحقيقة، وهذا قول بديهي، لم يصبح التونسيون عنصريين فجأة بعد تدخل الحزب القومي  التونسي وقيس سعيد. ما يحدث هو توظيف العنصرية الكامنة سياسيا أو ظهور عنصرية سياسية (بالمعنى الضيق للكلمة) في تونس. بشكل ملموس هذا يعنى تعبئة الجماهير وكسبها لفكرة مركزية: المهاجرون السود هم المشكلة الأساسية للشعب التونسي أو سبب مشاكله.

إن التوقف عند الإدانة الأخلاقية لهذا الخطاب ووصمه بالعنصري لن يغير موازين القوى في الصراع مع السلطة التي تحمله، بل سيكون له على الأرجح الأثر العكسي. إن الصراع السياسي يستدعي تعبئة الجماهير وكسبها لخطاب سياسي، لا وصمها بالعنصرية والجهل وإلى غير ذلك.

هذا الخطاب السياسي المقاوم هو خطاب الصراع الطبقي المناهض للإمبريالية، بمختلف تعبيراتها الايديولوجية بما في ذلك العنصرية، ويمكن تكثيفه في الفكرة التالية: سبب تفقير الطبقات الشعبية هو البرجوازية الكمبرادورية والدولة التابعة والهيمنة الإمبريالية وليس المهاجرين السود الذين يعانون من نفس النظام في تونس وفي بلدانهم الأصلية.

ويمكن في هذا الصدد التذكير بتاريخ النضال الجنوبي المشترك بين الشعوب والأمم المضطَهَدة ضد الامبريالية، والتأكيد على راهنيته المستمرة في هذه للمرحلة التاريخية.

أما المناهضة الليبرالية للعنصرية فتؤدي دائما إلى نتائج عكسية، لأنها لا تتناقض مع أساسها المادي في الرأسمالية بل تتبناه وتدافع عنه.

إنّ السبيل الوحيد للقضاء على العنصرية هو تناولها في علاقة بالصراع الطبقي المناهض للامبريالية، حتى لا تكون بدورها حاجزا دون تشكل وعي الطبقات الشعبية بمهامها التاريخية الثورية.

المفهوم التاريخي للطبقة (ترجمة)

توطئة المترجم

كُتبت أول مسودة لنص "حول الذات الثورية" منذ حوالي سنة من الآن. كمساهمة لفهم انهزام الثورة وتلافيه عبر توضيح طبيعة الصراع الطبقي القائم في البلاد وأطرافه.  على مستوى نظري، نقد النص هيمنة مفهوم مغلوط، أو منقوص على الأقل، للطبقة. في خضم النقاشات والبحث اللذين أثارهما النص داخل المجموعة الماركسية الثورية، اكتشفنا أن الحركة الماركسية شهدت سابقا جدالات مشابهة حول مفهوم الطبقة. دافع المؤرخ الماركسي الإنڤليزي إدوارد بالمر ثومسون عن نفس المفهوم الذي استعمالناه. إن لم يكن الوحيد، فقد كان من قام بتفصيله وتوضيحه بلغة سلسة وفصاحة كبيرة – حتما أكبر مما فعلنا في نصنا حول الذات الثورية. فضّلنا رغم ذلك عدم تعديل النص على ضوئه لعدة أسباب أهمها: من ناحية، تجنب إطالة نصنا وهيمنة النقاش النظري المجرد على بقية التحليل السياسي الملموس لسيرورة الصراع الطبقي في تونس والبلدان التابعة؛ من ناحية أخرى تقديرنا ضرورة ترجمة ونشر نص ثومسون كاملا حتى لا يفقد من وضوحه ودقته.

تعود هيمنة المفهوم المتوقف (أو الإستاتي أي غير الديناميكي، الذي لا يأخذ بعين الاعتبار التطور الزمني) للطبقة إلى هيمنة التيار البنيوي في الجامعة إلى حدود سبعينات القرن الفارط ومنها إلى داخل الحركة الماركسية خصوصا في فرنسا. بالنظر للارتباط الثقافي واللغوي يسهل فهم الانعكاسات في تونس. ورغم ذلك فإن أحد أكبر أعلام الماركسية البنيوية الفرنسية نيكوس بولونتزاس يكتب : "تعني الطبقات الاجتماعية بالنسبة للماركسية في نفس الحركة الواحدة تناقضات وصراعا طبقيا: لا توجد الطبقات الاجتماعية أولا، في حد ذاتها، لتدخل بعد ذلك في الصراع الطبقي، ما يتيح فرضية وجود طبقات دون صراع طبقي. تنطوي الطبقات على ممارسات طبقية، أي على الصراع الطبقي، ولا تُطرح إلا في تعارضها"[1].

لا نطن أن هناك ماركسيين جديين، يهتمون بالحد الأدنى بكتابات ماركس ويتبنون المادية التاريخية كمنهجية نظرية، يريدون إنكار هذا المفهوم. لكن الرهان ليس إقرار المفاهيم في تجريدها كإيديولوجيا بل استعمالها للوصول لنتائج جديدة محايثة لواقعنا.

النص أسفله ترجمة لمقتطف (الجزء IV) من نص أطول بعنوان "المجتمع الإنڤليزي في القرن الثامن عشر: صراع دون طبقة؟" كتبه ثومسون وصدر سنة 1978[2].


يبدو أنه من الضروري مرة أخرى، تفسير كيف يفهم مؤرخ – أو هذا المؤرخ – مصطلح 'طبقة'. منذ بعض خمس عشر سنة خَتَمْتُ عمل تحليل مطول تقريبا  للحظة تَشكُّلٍ طبقي خصوصية. أعطيت في التوطئة بعض التعليقات حول الطبقة، استخلصتْ: 'تُعَرَّفُ الطبقة من الناس من خلال عيشهم لتاريخهم وفي النهاية هذا تعريفها الوحيد'.[3]

من المفترض اليوم عند جيل جديد من المنظرين الماركسيين أن مثل هذا القول يجب أن يكون 'بريئا' أو (أسوأ بكثير) 'ليس بريئا': أي دليلا على استسلام لاحق للتجريبية والتاريخوية وإلخ. لهؤلاء الناس طرق أفضل بكثير لتعريف الطبقة: تعريفات، زيادة على ذلك، يمكن الوصول إليها في نطاق الممارسة النظرية ودون تعب البحث التاريخي.

كانت على كل حال تلك التوطئة مدروسة، منبثقة على كلا الممارستين التاريخية والنظرية. (لم أنطلق من الخلاصات الموجودة في التوطئة: عبرت التوطئة عن خلاصاتي.) عموما وبعد خمسة عشر سنة إضافية من الممارسة سأقرّ نفس الخلاصات. لكن يجب ربما إعادة صياغتها وتعديلها.

(1) الطبقة، في استعمالي، صِنْفٌ تاريخي: أي أنها مستخلصة من معاينة السيرورة الاجتماعية عبر الزمن. نعرف عن وجود الطبقة لأن الناس تصرفوا تكرار بطرق طبقية؛ هذه الأحداث التاريخية تكشف انتظامات رد فعل على وضعيات متماثلة، وفي مرحلة معينة (التشكّلات الناضجة للطبقة) نشاهد تشكّل مؤسسات، وثقافة بترميز طبقي، قابلة للمقارنات عبر-الوطنية. نُنَظِّرُ هذه المعطيات كنظرية عامة للطبقة ولتشكّل الطبقة: نتوقع إيجاد انتظامات معينة، 'مراحل' تطور، إلخ.

(2) لكن في هذه المرحلة إنه حقيقةً من الغالب جدا أن تأخذ النظرية الأولوية على المعطيات التاريخية المعتزم تنظيرها. من السهل افتراض أن الطبقة تتواجد، لا كسيرورة تاريخية، بل داخل رؤوسنا. طبعا لا نعترف أنها تدور فقط في رؤوسنا، رغم أن شيئا كبيرا من الحجاج حول الطبقة هو في الوقاع فقط حجاج في الرأس. بدل ذلك، تُنَظَّرُ نماذج وبنى يُفترَض أنها تعطينا محدِّدات موضوعية للطبقة: مثلا، كتعبير عن علاقات إنتاج متغايرة.[4]

(3) من هذا التفكير (الخاطئ) ينبثق المفهوم البديل للطبقة كصنف، استكشافي أو سوسيولوجي، متوقف. هذان الاثنان مختلفان لكن كلاهما يستعمل أصناف التوقف. في تقليد سوسيولوجي (وضعي في العادة) شعبي جدا، يمكن بذلك اختزال الطبقة في قياسات كمية حَرْفية: ذلك الكم من الناس في هذه أو تلك العلاقة مع وسائل الإنتاج، أو، في اصطلاح أكثر بذاءة، ذلك العدد من الأجراء أو من الياقات البيضاء إلخ. أو الطبقة هي ما يظن الناس في الطبقة أنهم ينتمون إليه إجابة على استجوابات؛ مرة أخرى، أُقصيت الطبقة كصنف تاريخي – مشاهدة السلوك عبر الزمن.

(4) أود أن أقول أن الطبقة كصنف تاريخي هو الاستعمال الماركسي الملائم والسائد. أظن أنه يمكنني أن أبيِّن أن هذا هو استعمال ماركس نفسه، في كتاباته الأكثر تاريخية، لكن هذا ليس المكان للمحاججة بمشروعية الكتب المقدسة. إنه حتما استعمال العديد (لكن ليس الكل) في التقليد البريطاني للتأريخ الماركسي، خصوصا من الجيل الأقدم.[5] لكنه صار من الواضح جدا على كل حال في السنوات الأخيرة أن الطبقة كصنف متوقف أخذت شغلا داخل قطاعات مؤثرة جدا من الفكر الماركسي أيضا. في الاصطلاح الاقتصادوي البذيء هي ببساطة توأم النظرية السوسيولوجية الوضعية. تُستخلص من النموذج المتوقف لعلاقات الإنتاج الرأسمالية الطبقات التي يجب أن تتماشى معه والوعي الذي يجب أن يتماشى مع الطبقات ومواقعها النسبية. يوفر ذلك في شكل معتاد (عادة لينيني) تعليلا جاهزا لسياسة 'الإبدال': أي 'الطليعة' التي تعرف أفضل من الطبقة نفسها ما يجب أن تكون مصالحها (ووعيها) الحقيقي. إن لم يكن لها ذلك الوعي فإنه، مهما كان، 'وعي زائف'. في شكل (معقد أكثر بكثير) بديل – مثلا مع ألتوسار – لا يزال لدينا صنف متوقف بعمق؛ صنف يجد تعريفه فقط داخل كلية بنيوية متوقفة عالية التنظير، تنفي السيرورة المعاشية الحقيقية للتشكّل الطبقي. رغم تعقيد هذه النظرية، النتائج مماثلة جدا للصيغة الاقتصادوية البذيئة. للإثنين مفهوم متماثل لـ 'الوعي الزائف' أو 'الإيديولوجيا' رغم أن النظرية الألتوسارية تنزع لامتلاك عتاد نظري أكبر لتفسير الهيمنة الإيديولوجية ومغالطة الوعي.

(5) إذا عدنا إلى الطبقة كصنف تاريخي، يمكن أن نرى أن المؤرخين يمكن أن يستعملوا المفهوم بمعنيين مختلفين: (أ) بالعودة على محتوى تاريخي حقيقي مطابق يمكن مشاهدته تجريبيا؛ (ب) كصنف استكشافي أو تحليلي لتنظيم المعطيات التاريخية، له علاقة تطابق أقل مباشرة بكثير.[6] يمكن في نظري استعمال المفهوم بشكل مناسب بكلا الطريقتين؛ لكن غالبا ما يحصل خلط عندما نمر من معنى إلى آخر.

(أ) إنه صحيح أن الطبقة بمعناها الحديث برزت في مجتمع القرن التاسع عشر الرأسمالي الصناعي. أي أن الطبقة في استعمالها الحديث لم تصر متاحة إلا للمنظومة العقلية للناس الذين عاشوا في ذلك الزمن. لا يمكّننا إذن المفهوم فقط من تنظيم وتحليل المعطيات؛ إنه أيضا، بمعنى جديد، حاضر في المعطيات نفسها. يمكننا أن نشاهد في بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا الصناعية، مؤسسات طبقية، أحزابا طبقية، ثقافات طبقية، إلخ. قامت المعطيات التاريخية بدورها، بإنشاء المفهوم الناضج للطبقة وإلى درجة معينة رشمته بخصوصيتها التاريخية.

(ب) يجب أخذ احتياطات من هذه الخصوصية التاريخية (غير المناسبة زمنيا) عندما نستعمل المصطلح في المعنى الثاني في تحليل مجتمعات سابقة للثورة الصناعية. لأن مطابقة الصنف للمعطيات التاريخية تصبح حينها غير مباشرة بشكل كبير. إن لم تكن الطبقة متوفرة داخل المنظومة العقلية للناس أنفسهم وإن رأوا أنفسهم وخاضوا معاركهم التاريخية بمسميات 'منازل' أو 'رتب' أو 'درجات' إلخ. فيجب إذن إذا وصفنا هذه الصراعات بمسمى الطبقة أن نمارس الحذر ضد أي نزعة للقراءة الرجعية لترميز لاحق للطبقة.

خيارنا مواصلة استعمال الصنف الاستكشافي للطبقة (رغم هذه الصعوبة الحاضرة باستمرار) ليس نابعا من كماله كمفهوم بل من واقع انعدام أي صنف بديل لتحليل سيرورة تاريخية جلية وكونية. لذلك لا يمكننا (في اللغة الإنڤليزية) أن نتحدث عن 'صراع-منازل' أو 'صراع-درجات' بينما تم استعمال 'صراع-طبقات' لا دون صعوبة لكن بنجاح ملحوظ من مؤرخي مجتمعات قديمة وإقطاعية ومجتمعات مطلع الحداثة؛ وفرض هؤلاء المؤرخون أنفسهم خلال استعمالهم ترويقاتهم وتعديلاتهم على المفهوم داخل الحقول التاريخية لكل منهم.

(6) يؤكد هذا على كل حال أن الطبقة في استعمالها الاستكشافي غير قابلة للفصل عن مفهوم 'الصراع-الطبقي'. أُعطيَ حسب رؤيتي كثير جدا من الاهتمام النظري (الكثير منه غير تاريخي) لـ 'الطبقة' والقليل جدا لـ 'الصراع الطبقي'. فعلا  الصراع الطبقي هو المفهوم الأولوي وأيضا الأكثر كونية. لقول الأمور بشكل فج: لا توجد الطبقات ككائنات منفصلة، تنظر حولها وتجد طبقة عدوة ثم تبدأ في الصراع. على العكس، يجد الناس أنفسهم في مجتمع مهيكل بطرق محددة (بشكل حاسم، لكن غير حصري، في علاقات إنتاج) ويعيشون الاستغلال (أو الحاجة للحفاظ على سلطتهم على من يستغلون) ويحددون نقاط تضاد مصالح ويبدأون في الصراع حول هذه المسائل وفي سيرورة الصراع يكتشفون أنفسهم كطبقات ويُعْرَف هذا الاكتشاف بالوعي الطبقي. الطبقة والوعي الطبقي هما دائما المرحلة الأخيرة لا الأولى في السيرورة التاريخية الحقيقية.[7] لكن إذا استعملنا صنفا متوقفا للطبقة أو إذا استخلصنا مفهومنا من نموذج سابق لكلية بنيوية لن نفترض ذلك: سنفترض أن الطبقة موجودة فورا (مستخلصة كإسقاط هندسي من علاقات الإنتاج) وأنه بذلك فالطبقات تتصارع.[8] ننطلق بعد ذلك في الحماقات اللامتناهية من القيس الكمي للطبقات أو من الماركسية النيوتونية التي تقوم فيها الطبقات وشرائح الطبقات بتطوراتها الهبائية أو الكوكبية. كل هذه البلبلة البائسة حولنا (كان علم الاجتماع الوضعي أو البنيوية-الماركسية المثالية) هي نتيجة الخطأ المسبق: كون الطبقات توجد مستقلة عن العلاقة التاريخية والصراع وأنها تتصارع لأنها موجودة، بدل كونها تأتي للوجود من الصراع.

(7) أتمنى أنّ لا شيء مما كتبت أعلاه أفضى إلى فكرة كوني أفترض أن تشكّل الطبقة مستقل عن المحدِّدات الموضوعية، أن يمكن تعريف الطبقة ببساطة كتشكيلة ثقافية إلخ. أتمنى أن هذا دُحِض بممارساتي التاريخية وأيضا في ممارسة عديد المؤرخين الآخرين. تتطلب هذه المحدِّدات الموضوعية حتما الفحص الأكثر دقة.[9] لكن لا يمكن لأي فحص للمحدِّدات الموضوعية (وحتما لأي نموذج مُنَظَّرٍ منه) أن يعطي أي طبقة ووعي طبقي في معادلة بسيطة. تَحْدُثُ الطبقة بعيش الرجال والنساء لعلاقات إنتاجهم وبينما هم يعيشون وضعياتهم المحددة داخل مجمل العلاقات الاجتماعية بثقافتهم وانتظاراتهم الموروثة وبينما هم يتعاملون مع هذه التجارب بطرق ثقافية. بذلك لا يمكن لأي نموذج في النهاية أن يعطينا ما يجب أن يكون تشكُّل طبقي 'صحيح' في 'مرحلة' معينة من السيرورة. ليس أي تشكُّل طبقي في التاريخ أصحّ أو حقيقيا أكثر من أي آخر وتُعَرِّف الطبقة نفسها، في الواقع، وهي تَحْدُث.

الطبقة مثلما حدثت داخل مجتمعات القرن التاسع عشر الرأسمالية الصناعية ومثلما تركت طبعتها على صنف الطبقة الاستكشافي، ليس لها في الواقع أية أحقية في الكونية. الطبقة بذلك المعنى ليست أكثر من حالة خاصة من التشكيلات التاريخية التي تنبثق من الصراع الطبقي.


[1] Nicos Poulantzas, Les classes sociales dans le capitalisme aujourd'hui, 1974


[2] E. P. Thompson, Eighteenth Century English Society: Struggle Without Class?, Social History, Vol. 3, No. 2 (May, 1978), pp. 133-165


[3] The Making of the English Working Class (Pelican edn), 11


[4] لا أقصد طبعا أن أوحي بأن مثل هذا التحليل البنيوي المتوقف ليس قيما وأساسيا فعلا. لكن ما يعطينا إياه هو منطق تحديدي (بمعنى كلا 'وضع حدود' و'تسليط ضغوطات': أُنظر النقاش بالغ الأهمية حول الحتمية في رايموند ويليامس، الماركسية والأدب (Raymond Williams, Marxism and Literature) وليس الخلاصة التاريخية أو المعادلة – أن هذه العلاقة الإنتاجية = هذه التشكيلات الطبقية. أنظر أيضا الفقرة (7) أسفله والملحوظة 8 أسفله.


[5] يبدو لي أن هذا هو الاستعمال الموجود عموما في الممارسة التاريخية لرودني هيلتون وإ. ج. هوبسباوم وكريستوفار هيل وعديد الآخرين.


[6] أنظر:

E. J. Hobsbawm, 'Class consciousness in history', in Istvan Meszaros (ed.), Aspects of History and Class Consciousness (1971), 8

'تحت الرأسمالية، الطبقة هي الواقع التاريخي المُعاشُ دون وساطة وبمعنى ما مباشرة، في حين أنها يمكن أن تكون في العهود السابقة للرأسمالية مجرد بناء تحليلي يعطي معنًا لتركيبة من الوقائع غير قابلة للتفسير دون ذلك'.


[7] هوبسباوم نفس المرجع السابق: 'لأغراض المؤرخ... الطبقة ومسألة الوعي الطبقي لا يمكن فصلهما. لا تأتي الطبقة بمعناها الكامل للوجود إلا في اللحظة التاريخية التي تبدأ فيها الطبقات بكسب الوعي بذواتها كذلك'.


[8] يبني الإقتصاد السياسي الماركسي، في عملية تحليلية ضرورية، كلية تُطرح داخلها علاقات الإنتاج مسبقا على أنها طبقات. لكن عندما نعود من هذه البنية التجريدية إلى السيرورة التاريخية الكلية نجد أن الاستغلال (الاقتصادي، العسكري) يُعاش بطرق طبقية وفقط بعد ذلك تنشأ عليه تشكّلات طبقية. أنظر نصي:

 Orrery of Errors' in Reasoning, One (Merlin Press, September 1978)


[9] حول محددات البنية الطبقية (وعلاقة الملكية أو 'استخراج الفائض' التي تفرض حدودا وإمكانيات و'مناويلا على الأمد الطويل' في مجتمعات أوروبا ما-قبل-الصناعية)، أنظر:

Robert Brenner, 'Agrarian class structure and economic development in pre-industrial Europe', Past and Present, LXX (February 1976), esp. 31-2

حول الذات الثورية


يعتبر الماركسيون أن الصراع الاجتماعي أو الطبقي هو محرك التاريخ في المجتمعات المنقسمة أو الطبقية. هذه إحدى أهم أطروحات ماركس. لكن مفهوم الطبقة الذي هيمن استعماله على الحركة الماركسية يمثل انحرافا اقتصادويا وبنيويًا (نسبة للتيار البنوي الذي هيمن في الجامعات الغربية بعد الحرب العالمية الثانية) أو موضوعويا (أي يهمل الجانب الذاتي). انطلق هذا الانحراف من الاستناد السطحي على بعض النتائج التي توصل إليها ماركس (أو بعض الماركسيين المهمين) في زمانه ووسطه الجغرافي بدل استعمال منهجيته المادية لفهم واقع زماننا ومكاننا. لم يكن لذلك انعكاسات نظرية وسياسية مهمة في المجتمعات التي شابهت تلك التي أفرزت هذه الأفكار. لكن كلما الصراع ابتعدنا في الزمان والمكان كل ما جانبت الواقع واشتد العجز السياسي للماركسيين. لا شك أن ثورة 2010-2011 والعشر سنوات التي تلتها من الصراع الاجتماعي في تونس من أهم الأمثلة على زيف كل إيديولوجيات الماركسيين التونسيين. أخطأت كل توقعاتهم النظرية وتتالت هزائمهم السياسية. انعكس ذلك مثلا في خطابات هلامية حول "الشعب" مصحوبة بإدانات لـ "الشعبوية"! كما تُرجم أيضا في دعوات لـ "اليسار" ووحدته بدل التوجه لطبقة عاملة غير موجودة فعلا (كأكثر من جملة العمال). إن فهم السياسة كمعركة اليسار ضد اليمين، أي كمعركة أفكار صرفة، هو ضرب من ضروب المثالية. بالتالي فهو في قلب التصفوية لا فقط للماركسية بل للمادية أصلاً. تناقض الأفكار هو انعكاس للصراع الاجتماعي. إن الأفكار مهما كانت جذرية فهي ليست ثورية طالما لم تُعَبّر عن قوة مادية، أي عن طبقة اجتماعية ثورية.

مقدّمات نظرية

يجب منذ البداية توضيح مشكل لغوي وخطأ تاريخي في الترجمة. إن كلمة طبقة ترجمة سيئة للمفردة التي استعملها ماركس (klasse بالألمانية، classe بالفرنسية، class بالإنڤليزية). كانت كلمة قسم (أي جزء من كُلٍ منقسم) المستعملة كترجمة في سياقات أخرى ستكون أفضل. هذا أنّ كلمة طبقة، وهي مرادفة تقريبا لكلمة شريحة في اللغة العربية، تفضي مباشرة إلى نوع من التراتبية الاقتصادية العمودية. ساهم ماركس نفسه في هذا الخطأ عندما كتب في البيان الشيوعي: "وفي العهود التاريخية الأولى نجد في كل مكان تقريبا تقسيما كاملا للمجتمع إلى مراتب متمايزة (نلقى) تدرجا متفاوتا للمنزلة المجتمعية. ففي روما القديمة كان ثمة نبلاء وفرسان وعامة وعبيد وفي القرون الوسطى، أسياد وإقطاعيون، ومقطعون، ومعلمون وصناع، وأقنان. إضافة إلى ذلك نجد في كل طبقة من هذه الطبقات تراتبية فارقة [...] غير أن عصرنا عصر البرجوازية يتميز بتبسيطه التناحرات الطبقية. فالمجتمع كله ينقسم أكثر فأكثر إلى معسكرين كبيرين متعاديين إلى طبقتين كبيرتين متجابهتين مباشرة: البرجوازية والبروليتاريا". هذا بدوره يوحي بأن المعركة تدور بين التحت والفوق أو بين الفقراء والأغنياء أو العمال والأعراف أو المضطهَدين والمضطهِدين. هذا الفهم أدى إلى استعمال كلمة الطبقة بمفاهيم مغايرة تماما للتي استعملها ماركس. فيُعرّف البعض الطبقة بمستوى الدخل وتتحدث مثلا نظرية التقاطعية عن الطبقة كمحور من محاور التمييز أو الاضطهاد إلى جانب العرق والنوع والأهلية الجسدية والتوجه الجنسي إلى غير ذلك. إن هذا المنطق الأخلاقي الذي ينطلق من وضع الضحية يجعل من أولوية "الاضطهاد الطبقي" خيارا اعتباطيا أو "ذاتيا". فليس هناك معيار أخلاقي حديث (والمعايير الأخلاقية تتغير تاريخيا) يقول بأولوية الدفاع عن الفقراء أو المستغلين اقتصاديا على الدفاع عن ضحايا العنصرية أو الذكورية.

يكتب ماركس وانڤلز في الإيديولوجيا الألمانية: "وانبثقت في المدن، إلى جانب الفلاحين الذين كانوا يمارسون الحياكة لمنفعتهم الخاصة والذين استمروا ولا يزالون مستمرين في هذا النوع من العمل، انبثقت طبقة جديدة من الحائكين كانت معاملهم وأقمشتهم معدة للسوق الداخلية بكليتها وفي معظم الأحيان للأسواق الخارجية". هاتين الطبقتين كما نقرأ موجودتان إلى جانب بعضهما البعض ولا واحدة منهما فوق الأخرى وهو حال طبقتي الفلاحين والعمال عموما. لم يمنع ذلك تعارضهما وتصارعهما اللذين تعرفهما جيدا الأدبيات الماركسية وتجارب البناء الاشتراكي. نعرف أيضا أن ماركس وأنڤلز نعتا البروليتاريا-الرثة بأقسى النعوت واعتبرا الفلاحين طبقة محافظة أو حتى رجعية في سياقات معينة[1]. هذا رغم كون هاتين الطبقتين من أكبر ضحايا صعود الرأسمالية الذي شهده الكاتبين. أكثر من ذلك، نعرف أن الطبقة البرجوازية التي قادت الثورة على الإقطاع لم تكن أكثر الطبقات معاناة من الاضطهاد تحت ذلك النظام.

بعد هذه التوضيحات يمكن الآن طرح مفهوم الطبقة الماركسي. إن الطبقات تُعَبِر عن نفسها بخوضها الصراع الاجتماعي وهو بذلك صراع طبقي. تعبر هذه الطبقات عن ذاتها وتعرف بنفسها عن طريق ممارساتها وعلاقاتها الاجتماعية ببعضها البعض: بانفصالها، بصراعها، بتحالفها إلخ. "إن مختلف الأفراد لا يشكلون طبقة إلا بقدر ما يتوجب عليهم أن يخوضوا معركة مشتركة ضد طبقة أخرى؛ وفيما عدا ذلك فهم في حالة عداء متبادل في التنافس" (الإيديولوجية الألمانية).

ينتج عن هذه الممارسات الاجتماعية تغيّر المجتمعات، أي ما يسمى بحركة التاريخ. إنّ الطبقات إذن قوى اجتماعية وتاريخية. بينما تحدث ماركس دائما عن طبقات اجتماعية لا نعلم بحديثه عن طبقات اقتصادية.

من بين هذه الطبقات هنالك طبقة[2] تعبّر عن رفضها الكلي للمجتمع الطبقي (بما أن المجتمعات الموحدة، أي غير المنقسمة، لا تحتوي على طبقات حتى تعبر أحدها عن رفضها لها). هذه الطبقة هي البروليتاريا. مجددا يجب توضيح سوء فهم لغوي ونظري. تسمى بالبروليتاريا في الأصل الطبقة عديمة الملكية في جمهورية روما القديمة، حيث كان يتم تعداد الأطفال كملكيتها الوحيدة وكانت محرومة من حقوقها السياسية وإلى غير ذلك. بالتالي فالبروليتاريا ليست فقط مجموعة اجتماعية معينة تشكلت في الرأسمالية الصناعية بل هي مفهوم نظري تجريدي يمكن أن يجد تعبيرات اجتماعية مختلفة في مجتمعات تاريخية مختلفة: "ولقد كان للإقطاع أيضا بروليتاريته - القنانة التي كانت تحتوي كل بذور البورجوازية. كما كان للانتاج الاقطاعي عنصران متناحران يسميان أيضا الجانب الحسن والجانب السيء للإقطاع، دون اعتبار أن الجانب السيء ينتصر دائما على الجانب الحسن. إن الجانب السيء هو الذي ينتج الحركة التي تصنع التاريخ بتشكيل الصراع" (بؤس الفلسفة).

بسبب تهميشها التام من مؤسسات المجتمع القائم الاقتصادية والسياسية، ليس للبروليتاريا ما تخسره غير قيودها. هذا ما يجعلها الطبقة الثورية. "تولد [...] طبقة تتحمل كل أعباء المجتمع، من دون الاستمتاع بميزاته، وهي مطرودة من المجتمع بحيث لا بد لها أن تتخذ مكانها في المعارضة الأشد صراحة ضد جميع الطبقات الأخرى [...] وينبثق منها وعيُ ضرورة قيام ثورة جذرية، وعيٌ هو الوعي الشيوعي، يمكنه أيضا التشكل بالطبع عند الطبقات الأخرى عندما ترى وضع هذه الطبقة"(الإيديولوجيا الألمانية)

هذا يطرح بدوره مسألة المناضلين السياسيين الماركسيين وانتمائهم الطبقي. ما دامت ممارستهم الاجتماعية (بأبعادها السياسية والثقافية والاقتصادية) تساهم في وحدة الطبقة الثورية (ووحدتهم معها) وانتصارها في صراعاتها فهم جزء منها. يجب هنا الإشارة إلى نقطة مهمة. لا يمكن تفسير هذا الانتماء واستنتاجه من خلال دراسة البنية الاقتصادية للتشكيلات الاجتماعية وتقسيم العمل (بمعناه المتداول، فلا مجال هنا لمناقشة مفهوم العمل وتقسيمه) فحسب. أدت هذه الصعوبة النظرية إلى تفسيرات مثالية من خلال المبادئ والصدق والأخلاق والوطنية إلى غير ذلك. إن حل هذا المشكل بتطوير فهم مادي لتشكل الوعي الثوري سيكون حتما من أهم الإضافات للماركسية. لا شك أن هذا الفهم سيعتمد أكثر على العلوم النفسية والاجتماعية من الاقتصادية.

الطبقة الثورية أو البروليتاريا

"طروحات الشيوعيين النظرية لا تقوم قطعا على أفكار، على مبادئ ابتكرها أو اكتشفها هذا أو ذاك من مصلحي العالم. إنّها فقط تعبير عام عن الشروط الحقيقية لصراع طبقي قائم عن حركة تاريخية تجري أمام أعيننا." - البيان الشيوعي. 

شهدت تونس في 2010-2011 انتفاضة ثورية، أي هجوما عنيفا للطبقة الثورية على الطبقة المهيمنة وحلفائها. تمثل تلك الفترة من الصراع الاجتماعي المشتد تجربة تاريخية تمكننا دراستها من تصوير خطوط الانقسام الطبقي بأعلى درجات الدقة الممكنة وتحديد ميدان الصراع الطبقي وتقييم النظريات المطروحة وتبديد الأوهام الإيديولوجية.

كيف يمكن وصف وتسمية الطبقة التي كانت في طليعة هذا الانفجار الثوري؟ انطلقت المعركة من المناطق الداخلية المفقرة إثر حرق محمد البوعزيزي البائع المتجول لنفسه. بعد فترة التحقت الأحياء الشعبية في أحزمة المدن الساحلية الكبرى. قامت هذه الجماهير بمهاجمة مباني وممثلي مؤسسات الدولة وخصوصا بالصدام مع قوات البوليس وحرق مراكزه. هؤلاء عمال يوميون خارجون عن المؤسسات والقوانين والعقود والنقابات أو معطلون عن العمل. إن كانت أنشطتهم الاقتصادية مختلفة ومبعثرة وغير قارة فإن هؤلاء مستقرون ومتركّزون في تجمعات سكنية كبيرة. هؤلاء هم سكان الأحياء العشوائية التي تطوق المدن الكبرى والمعتمديات الفقيرة حيث يقضون فترات طويلة من حياتهم وأين يتشكل وعيهم ووحدتهم، وبالتالي وحدة وعيهم. في غياب تسمية أفضل سنسّمي هؤلاء بالهامشيين - من الهامش الاجتماعي، أي وبالتالي الهامش الاقتصادي والجغرافي والسياسي.

طيلة عشر سنوات عبّرت هذه الجماهير عن نفسها كطبقة باحتجاجات متواترة. مهما كان سبب ومكان اندلاعها كانت تنتشر في نفس المساحة الاجتماعية والجغرافية. تستهدف نفس الأعداء وتنتهج ممارسات متشابهة. لا تعبر عادة عن مطالب مقبولة من المجتمع السائد وبقية الطبقات المهيمنة والمضطهدة التي تشكله بل عن رفضها التام وحتى الأصمّ له. نتحدث هنا عن ذات تاريخية حيث صنعت تاريخ العشر سنوات الماضية: انتفاضها أولا ثم بتواصل تعبيرها عن نفسها كأهم فاعل خارج النظام القائم على هزيمتها. هذه هي بروليتاريا تونس في بداية القرن الواحد والعشرين.

وإن بدت هذه الأطروحة وتقديمها كتجديد نظري أو كتحريف لمقدسات الماركسية في تونس فإنها ليست بالجديدة وليست بالغريبة عن الماركسية. منذ السبعينات لاحظ بعض أهم الماركسيين تشكل هذه الطبقة، خاصة في أطراف الرأسمالية العالمية. لعل ڤوندر-فرانك هو أكثر من أكد على أهمية هذه الطبقة تحديدا في أمريكا الجنوبية: "في الواقع، "الريفيون" هم البروليتاريا الحقيقية، [سواء] كانوا ما يزالون على الأرض أو مرميّين كما هو الحال الآن في الأحياء العشوائية للمدن"[3]. التحق بمنظري التبعية بعض الماركسيين من مراكز الرأسمالية مثل المؤرخ الإنڤليزي إريك هوبزباوم[4]. لكن لعل أهم عمل ممنهج حول هذه الأطروحة هو في رصيد الجغرافي الماركسي الأمريكي مايك ديفيس[5]. يبيّن هذا الأخير أن هذه الطبقة متشكلة في ذاتها على مستوى عالمي؛ وإن بصفة خاصة في البلدان الطرفية فهي موجودة كذلك في مراكز الرأسمالية. كما يناقش مطولا صفتها كذات تاريخية بمقارنتها بتشكل البروليتاريا الصناعية الغربية كذلك[6].

هذا الهامش، هذه البروليتاريا الجديدة ليست إذن خصوصية تونسية. فقد عبّرت عن نفسها بصفة تلقائية على نطاق العالم العربي: في المغرب ومصر وسوريا الخ بعد تونس. أما في أمريكا الجنوبية فقد وصلت إلى التشكل كقوة سياسية منظمة وإلى تحقيق ثورات وإصلاحات لصالحها، ما يجعل هذه التجارب أولوية للدراسة. تعد الثورة البوليفارية أحد أهم الأمثلة على ذلك: "يسكن اليوم حتما أكثر من 90% من سكان فنزويلا في المدن [...] منذ اكتُشِفَ النفط في أوائل القرن العشرين [...] تغير وجه كل البلاد، بابتعاد الحياة السياسية عن حاجيات المجتمع لمواجهة السوق العالمية خلقت بذلك اختلالا جغرافيا واسعا في خضم هذه السيرورة. تخلى الفلاحون على مناطق ريفية خصبة من جهتها من أجل المدن، حيث أتت الأغلبية لتسكن الباريوس [الأحياء العشوائية في فنزويلا] المتضخمة التي تطوق المدن. باندفاع الفنزويليين إلى المدن تهاوى الإنتاج الفلاحي - في الحقيقة كل الإنتاج المحلي [...] في كراكاس تعظّمت هذه السيرورة التمدينية باقتصاد النفط: كنقطة العبور لكل الثروة المستخرجة من باطن الأرض أغوت العاصمة الملايين من الريف بالبريق الرمزي لوعودها الزائفة غالبا بالحصول على حصة من ثروة النفط. إن هؤلاء السكان الجدد للباريوس - الذين بنوا مساكنا غير نظامية في الهضاب [التي تحيط بالعاصمة كاراكاس] والذين يدبّرون عيشهم عبر عمل غير نظامي على سطح السهل [وسط المدينة] - هم من قادوا انتفاضة الكاراكازو في 1989. الهوية والصراعات الجماعية التي انبثقت من الميدان الفوضوي للباريوس بسطت الأساس لتجارب جديدة في الديمقراطية الجذرية. ليس هؤلاء، في الغالب، عمال مصانع يتصدون لعرف في مكان العمل، بل عمال غير نظاميين يسدون خدمات أو يروجون البضائع المستوردة التي غمرت اقتصاد النفط. لم يواجهوا عَرفا فيزيائيا بل السوق نفسه، وتمحورت مطالبهم السياسية حول مكان سكنهم أكثر من مكان عملهم [...] شكلت الأحياء جمعيات ومجالسا تلقائية ومليشيات دفاع ذاتي شعبي في السنوات 1980 و1990 خصوصا بعد الكاراكازو. بدأوا يحكمون ويدافعون عن مجتمعاتهم - في مناطقهم - بأنفسهم [...] بالضبط مثلما لم يخلق شافاز الثورة البوليفارية - بل كانت السيرورة الثورية الطويلة التي "خلقت شافاز" - نفسه الأمر مع الكومونات. قبل أن تأخذ الدولة الفنزويلية مهمة بناء الكومونات من الفوق كان الثوريون يبنونها من الأسفل. كنتيجة، العلاقة بين الكومونات - بذرات اللادولة المستقبلية - والدولة الموجودة بعيدة على أن تكون سلسة"[7].

 إن كان مايك دايفس لا يزال يتساءل على مقامها (هل هي طبقة أم فئة؟ هل هي قادرة على الوعي بذاتها ومهمتها التاريخية؟ هل هي قادرة على إسقاط الرأسمالية؟…) كذات تاريخية فهي في تونس وعديد البلدان العربية كذلك فعلا.

تشير هذه المعطيات التجريبية إلى وحدة بنيوية. إن كنا انطلقنا من الصراع الاجتماعي لتعريف مفهوم الطبقة وتحديدها اجتماعيا في الواقع، فذلك لا يعني أن هذا الصراع الاجتماعي يقوم بصفة عشوائية. يندرج تَشَكُّل هذه الطبقات وعلاقاتها وممارساتها ضمن تاريخ نمط الإنتاج الرأسمالي المهيمن عالميا. فهذه الطبقات تُنتِج تناقضات قوى وعلاقات الإنتاج وإعادة-الإنتاج والتقسيم الاقتصادي للعالم والمجتمعات والبنى الثقافية والسياسية وتَنتُج عنها.

إن كنا أهملنا هذا الجانب البنيوي حتى هذه النقطة فذلك - إلى جانب نية التمايز وإبراز المسافة من التحليلات الاقتصادوية - للتأكيد على كون حركة الواقع الملموس، لا أية أفكار مسبقة، هي منطلق التحليل الماركسي. كما يسهِّل ذلك توضيح الفرق بين تعريف الطبقة من ناحية والأساس المادي لتشكّلها من ناحية أخرى. لكن إذا توقفت النظرية المادية التاريخية عند تفسير الوقائع بعد حصولها فهي لم تتجاوز الإيديولوجيا. إن المطروح هو تقدير تطور الواقع بهدف التأثير فيه. هذه هي غاية دراسة حركة أنماط الإنتاج والتشكيلات الاجتماعية.

على ضوء انتفاضة 2010-2011 ونضالات العشر سنوات التي تلتها حكم التاريخ على أهم عائلتين ماركسيتين في تونس. فلم نرَ ثورة ديمقراطية للفلاحين ضد شبه-إقطاع غير موجود أصلا ولا برجوازية وطنية تناهض شبه الاستعمار لتطوير إنتاجها المحلي. من الجهة المقابلة لم نر "الطبقة العاملة" ومجالسها في طليعة الحراك الثوري. بل أنّه في بعض الفترات تميز سلوك العمال بالانتهازية، إذ استغلوا المناخ الثوري لتحقيق بعض المكاسب القطاعية عن طريق وساطة أحد أجسام الدولة البرجوازية (اتحاد الشغل) بعيدا عن أي أفق ثوري.

إنه من الغريب أن يتشبث من يصفون نمط الإنتاج المهيمن بالرأسمالي التابع بـ "الطبقة العاملة". إن كنا لا نعرف النصوص التي يعتمد عليها حزب العمال، فإنّنا نعرف أنّ أهم منظري التبعية انتقدوا هذه الدوغمائية وأكدوا في دراساتهم للتركيبة الطبقية للبلدان التابعة على أهمية الهامش.

حول "الطبقة العاملة"

كان يمكن ألا يتطرق نص حول الذات الثورية في تونس 2022 لـ "الطبقة العاملة". فقد كانت كما قلنا متخلفة عن المسار الثوري، أي لم تعرب عن ثوريتها المفترضة وبعد عشر سنوات يمكن حتى التساؤل إن كانت طبقة متشكلة فعلا أي تقوم بممارسات طبقية موحدة تعبيرا عن ذاتها أو دفاعا عن مصالحها. فقد رأينا طيلة العشرية الفارطة الكثير من النضالات العمالية لكن لم نر نضالات للطبقة العاملة. اتسمت هذه النضالات عموما بالفئوية الضيقة. إذ توجد اختلافات مهمة بين عمال القطاعين العام والخاص وبين عمال الشركات (المرتبطة بالسوق) الوطنية والشركات المرتبطة مباشرة بالإمبريالية وبين مختلف العمال والبيروقراطية النقابية التي تهيمن عليهم.

لكن إن كانت طبقة عاملة ثورية ليست جزءا من واقعنا فإن وهم وجودها جزء منه على الأقل في الأوساط الماركسية. هذه الفكرة مبنية على إسقاط بعض النتائج التي توصل إليها ماركس في زمانه على واقع مغاير وعلى بعض تقديراته التي أثبت التاريخ خطأها. أخطاء يمكن تفسير الكثير منها بأورومركزيته.

يراهن ماركس في البيان الشيوعي على تبسيط الرأسمالية للمجتمع باختزاله في طبقتين: العمال والبرجوازية. وبذلك تصبح الطبقات تحت الرأسمالية مطابقة تماما لتقسيم العمل ولا تغدو انعكاسا (ليس بالضرورة مباشرا) له كما كان الحال في المجتمعات السابقة. إن بقيت هذه النزعة التاريخية صحيحة لفترة معينة - أساسا فترة صعود الرأسمالية وتصفية بقايا الإقطاع (أو المرور من الهيمنة الشكلية إلى الهيمنة الحقيقية لنمط الإنتاج الرأسمالي)، فإنه سرعان ما تبين خطؤها على المدى الطويل وعلى امتداد جغرافي أوسع.

خلق التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج إضافة إلى الصراع الطبقي جملة من الطبقات الاجتماعية والأنشطة الاقتصادية الجديدة، ولم تعد الطبقة العاملة كما عرفها ماركس حتى أغلبية عددية في كل المجتمعات المعاصرة. كما أن الإصلاحات التي نجحت في فرضها حسّنت ظروف عيشها فلم تعد بروليتارية وأصبح لديها ما تخسره إلى درجة أن صراعاتها الأساسية أصبحت تتمحور حول الحفاظ على مكاسبها ضد الهجمة النيوليبرالية. يمكن حتى القول أنها في عديد الأحيان أصبحت طبقة محافظة.

في نفس الوقت خلقت النيوليبرالية طبقة من الهامشيين لم يعد ممكنا وصفهم بجيش الاحتياط في ظل البطالة الهيكلية التي تميز هذا الطور والانحدار التاريخي للطبقة العاملة أمام التطور التكنولوجي. إن حركة الرأسمالية النيوليبرالية ليست سيرورة تشكيل طبقة عاملة صناعية (مثلما كان الحال في زمن ماركس) بل هي عملية تهميش لهذه الطبقة وغيرها أي تشكيل طبقة الهامش. الهامش هو مستقبل الرفض الاجتماعي.

هذه الحركة التاريخية موجودة بأكثر وضوح وشدة في البلدان التابعة. منذ البداية لم يهتم ماركس بالمستعمرات إلا في علاقتها بتطور الرأسمالية في المراكز. تطور افترض أنه سيجتاح العالم وينحته على صورة أوروبا. إذ لم يفهم أن تطور المراكز الرأسمالية لا يمكن أن يحدث إلا بخلق أطراف أو هوامش لها. شيّد هذا التطور الطرفي التابع بنى اجتماعية أكثر بعدا عن ثنائية برجوازية-عمال الاختزالية التي اقترحها ماركس. ثنائية لم تكن ولن تكون في هذه البلدان. ورغم ذلك أو نظرا له كانت هذه الأطراف وأشباه/أنصاف-الأطراف مسارح الثورات الاجتماعية والوطنية بينما انهزمت وتراجعت الطبقة العاملة في المراكز الإمبريالية.

نشأت الطبقة العاملة الصغيرة والضعيفة في تونس بالأساس بعد الحرب العالمية الثانية. حققت الرأسمالية، بنموها السريع خلال هذه الفترة، فوائض إنتاج كبيرة كانت الإمبريالية تقبل باستحواذ الأطراف على جزء منها. تمتع إذن العمال منذ بداية وطيلة هذه الفترة الديمقراطية الاجتماعية، بقوانين شغل وتمثيلية نقابية (في فترة أصبحت فيها النقابات من بين مؤسسات الإدارة البيروقراطية للمجتمعات) وتغطية اجتماعية وصحية. تبين مقارنة سريعة مع "ظروف الطبقة العاملة في إنڤلترا" التي وصفها إنڤلز في القرن 19 مثلا ومع أوضاع الهامشيين أن لهذه الطبقة عدة امتيازات لا يمكن أن تجعلها ثورية. بعد فترة قصيرة من رأسمالية الدولة أتت النيوليبرالية وسياسة الاندماج الكمبرادوري في الاقتصاد العالمي بضربة قاضية لا لأمل تشكل طبقة عاملة ثورية بل لمجرد تشكل العمال كطبقة تاريخية.

الكتلة التاريخية أو الطبقات الشعبية

إن القول بأن العمال باختلافهم يحظون بامتيازات مقارنة بطبقات أخرى لا يعني طبعا أنهم طبقة مهيمنة. كما أن القول بأنهم لا يشكلون طبقة ثورية لا يعني أنهم أعداء الثورة. فإلى جانب الاستغلال الرأسمالي العادي، يتميز الشغل في الفترة النيوليبرالية بهشاشة كبيرة لا سيما في البلدان التابعة، وخاصة في تلك القطاعات المرتبطة مباشرة بالخارج عبر الاستثمارات أو مثلا في شكل المناولة. هذا ما يجعل قسطا كبيرا من العمال مؤهلين للالتحاق بروليتاريا الهامش في كل لحظة (ربما مثلما كانت البرجوازية-الصغيرة التقليدية مؤهلة للالتحاق بالبروليتاريا الصناعية عند ماركس). ليست هذه مجرد فرضية بل هو واقع جار منذ أكثر من عشر سنوات. وإن كان العمال يقضون غالب وقتهم في العمل فإنهم عادة ما يسكنون الأحياء الشعبية حيث يتركز الهامشيون.

لكن العمال ليسوا الاحتياطي الوحيد للهامش. إن صغار الفلاحين هم الآخرون مقدمون على صراع، ربما يكون حاسمًا، مع البرجوازية الكمبرادورية والمستثمرين الفلاحيين المحليين والأجانب. أمام الهجمة التي تشنها الإمبريالية باسم التبادل الحر والأفضليات المقارنة لم يعد لهم الخيار: إما الالتحاق بالهامشيين في تكتل سياسي أو الالتحاق بهم اجتماعيا بعد إفلاسهم وبيع أراضيهم.

بعد تبدد وهم المجتمع الثنائي (برجوازية-عمال أو في صياغة أحدث 99% ضد 1%) على محك التاريخ والواقع يجب ألا نعيد إنتاج نفس الأوهام الاختزالية. إن بروليتاريا الهامش ليست بالطبقة الكونية (مثلما توهم ماركس البروليتاريا الصناعية الأوروبية) ولا نرى حتى أنها يمكن أن تشكل يوما أغلبية عددية (فمجتمع يهمش أغلبيته ساقط لا محالة). هذا لا يعني التنازل تماما عن الكونية أي فعليا عن تجاوز الطبقات وبناء مجتمع موحد. لكنه يعني الإقرار بأنها جدلية معقدة تشقها تناقضات وصراعات أعقد مما تخيل ماركس والماركسيون الأوائل على اختلافهم.

بناء على ذلك يمكن أن نستنتج نقطتين مهمتين على المستوى السياسي: أولا، لا مفر من دكتاتورية البروليتاريا. وإن كان من المهم نقاش أشكالها ومؤسساتها لتجنب المناحي الرجعية التي اتخذتها في تجارب الحركة الماركسية، فلا سبيل للتنازل للأوهام التلقاءوية والعفوية حيث يتبدد المجتمع الطبقي بمجرد إعلان تبدده. ستهاجم الثورة مصالح وامتيازات قطاعات واسعة من البرجوازية-الصغيرة والطبقات الوسطى إلى جانب البرجوازية والإمبريالية وستحتاج بالتالي لقمع هؤلاء (القمع لا يعني فقط العنف المادي المباشر لكنه يعني ذلك أيضا). لكن طبقة تطرح نفي نفسها كطبقة (لا إعادة إنتاج نفسها) وإلغاء الطبقات تستجيب بالضرورة لمطالب وحاجيات أغلبية المجتمع. تأتي بهذا للنقطة الثانية: تشكل البروليتاريا كتلة تاريخية تحت قيادتها. تكفي نظرة سريعة لتجارب حكم الحركة الاشتراكية حول العالم لتبين التناقضات التي تشق طبقتي العمال والفلاحين والصعوبات التي تطرحها. بعيدا إذن عن وهم الوحدة التامة بين المصالح الهامش والعمال والفلاحين يعد تحالف الطبقات الشعبية شرط صمود وديمومة الثورة والتقدم في بناء الاشتراكية.

يمكن أن يكون تمفصل هذا التحالف متحركا فتطرح بعض الصراعات طليعة تكتيكية (تجعل مثلا هجمة امبريالية مرتقبة على الفلاحة الفلاحين في الصف الأمامي للمعركة). لكننا لا نظن أن الثورة القادمة ستقوم على الإضراب العام ومجالس العمال ولا بمحاصرة المدينة بالريف. بل ستقوم على الأرجح بمحاصرة المدن الكبرى ولا سيما العاصمة بأحزمتها المهمشة مع فقدان الدولة البرجوازية لسلطتها على الهوامش الداخلية. هذا هو الميدان الاجتماعي والجغرافي للثورة ومنه تنطلق المراكمة لها.

الرفيق بالضيافي عضو المجموعة الماركسية الثورية

________________________________________

[1] أنظر: "الصراعات الطبقية في فرنسا" و"18 برومير لويس بونبارت".

[2] مبدئيا ليس هنالك ما يوجب أنها طبقة واحدة لا عدة طبقات.

[3] Andre Gunder-Frank - Capitalist Underdevelopment or Socialist Revolution, in Latin America: Underdevelopment or Revolution

أنظر أيضا في نفس الكتاب المقالين:

Instability and Integration in Urban Latin America

Destroy Capitalism not Feudalism

[4] History in the “Age of Extremes”: A Conversation with Eric Hobsbawm (1995)

[5] Mike Davis - Planet of Slums

[6] Mike Davis - Old Gods, New Enigmas: Marx's Lost Theory

[7] George Ciccariello-Maher - Building the Commune: Radical Democracy in Venezuela


كيف ندافع عن الحريات العامة؟


"هذه هي إذن الثمار الجميلة لعملية إنقاذ البرلمانية... اشمئزاز كبير متزايد عند الشعب تجاه أي عمل برلماني، والارتماء في أحضان الأناركية؛ باختصار، هذا هو في الواقع الخطر الأهم الذي يهدد وجود البرلمان والجمهورية بصفة عامة!... ليس هذا هو الطريق الذي يجب أن تتبعه البروليتاريا في تحمل مهمتها في الدفاع عن البرلمانية البرجوازية المتهالكة. الطريق الصحيح يمر، لا بإخفاء الصراع الطبقي البروليتاري والتخلي عنه، بل بالعكس عبر تشديده وتوسيعه الأكثر إصرارا". روزا لوكسمبورغ - الاشتراكية-الديمقراطية والبرلمانية.

صارت الحريات العامة في خطر. هذا ما يشير إليه من ناحية الدستور الجديد، بوضعه الرئيس فوق كل مساءلة. تتوفر من جهة أخرى الاستعدادات النفسية عند قطاعات اجتماعية واسعة للقبول بدكتاتورية جديدة نبذًا لـ "الأحزاب" و"السياسيين" و"الديمقراطية" وإلخ.
يمثّل هذا السياق أرضية خصبة لتقدم غطرسة الشرطة وأخذها حرية أكبر في قمع الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية والانتقام من مختلف المجموعات (الاجتماعية والسياسية) التي أزعجتها طيلة عشرية الحرية السياسية (النسبية). لكونه طليعة التسلط والنزعات الفاشية، سيجرّ جسم البوليس قيس سعيد شيئًا فشيئًا إلى ممارسة أكثر دكتاتورية للسلطة بغض النظر عن نوايا وخيارات الأخير (بالنظر لقناعاته الدولتية والقانونَوِيَّة ونظرته المثالية التجريدية للعالم، أقلّ ما يقال هو أن شخصيته تحمل كل الخصائص المواتية).

يجب هنا الانتباه لطبيعة علاقة قيس سعيد بالبيروقراطية المسلّحة. وإن يدّعي، وربّما يتوهّم، عكس ذلك، قام الرئيس بتهميش الجماهير من الفعل السياسي رغم شعبيته عندها، خاصة في الفترة الأولى من صعوده، ثمّ إثر 25 جويلية. يعود ذلك تحديدا لطبيعته القانونويّة الدولتية. ونظرا لخرقه الأطر القانونية القائمة (دستور 2014 بالأساس) قبل إلغائها، اعتمد من أجل أن يحكم على القوات المسلحة التي مازالت إلى اليوم الأساس المادي الأهمّ لسلطته (رغم قبول أغلبي سلبي بحكمه لا نتصور مثلا قطاعات واسعة من الشعب تهبّ للدفاع عن قيس سعيد في حال إسقاطه بانقلاب من داخل الدولة). يفتقد سعيد أيضا إلى تنظيم سياسي يسانده، ما يجعل جزءًا مهما من معرفته بالواقع يمرّ عبر تقارير مؤسسات الدولة. تُبيّن هاتين النقطتين اختلال ميزان تحالف قيس سعيد مع مؤسّسة البوليس لصالح الأخيرة.

بالنظر للنفسية السائدة في البلاد، يبدو من الواضح أنّ خطاب الحريات السياسية لا يمكن أن يجد آذانا صاغية عند غالبية الطبقات الشعبية؛ خصوصا وأنّ الدكتاتورية ليست اليوم واقعا ملموسا وستحتاج لفترة من الزمن لتصبح كذلك تدريجيا. وعليه، إذا لم يختلف محتوى احتجاجاتهم عن الليبراليين، واقتصرت أو حتى ركّزت بالأساس على مسألة الحريات السياسية أو "الديمقراطية"، سيكون من السهل مساواة الماركسيين ببقية المجموعات السياسية. سيراهٌم الشعب لا محالة كمدافعين عن مصالحهم الخصوصية، مثلهم مثل كلّ "السياسيين" في العودة إلى نظام سياسي مفتوح يمكّنهم من التموقع. بذلك ستُعتَبر أيّ تعلّة تتذرع بها السلطة وجيهة لقمعهم، وستتعاطف أوسع الجماهير مع البوليس والدولة والرئيس في ذلك، إن لم تعبّر عن نوع من الانتقام ممّن تظنّ أنّهم مساهمون كغيرهم في معاناتها خلال فترة "الانتقال الديمقراطي". سيكون هذا الاحتمال أرجح، بقدر ما كانت الشعارات والممارسات الاحتجاجية نخبوية واستفزازية واستعراضية. لكن ليس هذا هو الأهمّ، فالمطروح هو قلب المعادلة. كيف يمكن أن يتقدّم الماركسيون في كسب تعاطف فمساندة الشعب في وجه سعيّد والدولة والبوليس؟

تفرض الوصفة نفسها. يجب أن تعبّر شعارات الماركسيين عن مشاغل الطبقات الشعبية. ما يعني أن تكون المسألة الاقتصادية الاجتماعية والسياديّة في قلب احتجاجاتهم والسياق مواتي لذلك. تطرح هذه النظرة برنامجا احتجاجيا دعائيا يتعلق بالسيادة الغذائية والطاقية في ظل اضطرابات السوق العالمية، والسيادة النقدية في ظلّ أزمة المالية العمومية والاتفاق المنتظر مع صندوق النقد الدولي والميزانية النيوليبرالية التي سيفرضها.. وإلى غير ذلك. بهذا الشكل نضرب عصفوريْن بحجَر واحد. إذ يتم في نفس الوقت، من خلال التواجد في الشارع لتناول القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسيادية، فرض الحرّيات العامة كأمر واقع. كما أنّ قمع مثل هذه الاحتجاجات سيكون أكثر إحراجا للسلطة، وسيكون المشاركون فيها في موقع أفضل للتنديد بتعاملها معهم. وفي نفس الوقت، يراكم الماركسيون بذلك لشعاراتهم الاستراتيجية ويعملون على القُرب أكثر فأكثر من الطبقات الشعبية ويوضحون تمايزهم عن الأطراف الليبرالية.

على أهميتها التكتيكية، لا يمكن أن تغني هذه الاحتجاجات عمّا هو أهمّ : ضرورة التوجّه للطبقات الشعبية في أماكن تركُّزها والعمل صُلبها. يبقى ذلك هو السبيل والميدان الأساسي لتعديل موازين القوى ضد مختلف الرجعيّات.

الأرضية النظرية السياسية للمجموعة الماركسية الثورية

 

تمهيد

تتّسم المرحلة الراهنة باتّساع وتعمّق أزمة البلاد والمنطقة العربية عمومًا.  إذ انتهت مرحلة التفاؤل الثوري والمدّ الجماهيري التي رافقت بدايات الانتفاضات الشعبيّة، لتدخل المنطقة عمومًا في مرحلة جزر حادّ، قد تطول. فنحن نشهد حالة انحطاط عامّ على كافة المستويات: السياسية، الثقافية، الاقتصادية والخ. (تتمظهر أساسًا في: سيطرة الطبقات الرجعية على السلطة، مزيد من التبعية والهيمنة الامبريالية، التجزئة القوميّة، تزايد التطبيع الرسمي مع العدوّ الصهيوني، الطائفية والنعرات المذهبية والاثنية الانعزاليّة، تغلغل الفيروس الليبرالي واختراقه لكافّة الطبقات، هيمنة الفكر الرجعي المتديّن على الطبقات الشعبية، تزايد العنف المجتمعي والجريمة والخ).

بالمقابل، لا نرى بعد انبثاقًا أو صحوة حقيقيّة لليسار الثوري رغم مرور عقد ونيف على اندلاع الانتفاضات الشعبية بالمنطقة. وذلك بالرغم من شبه الإجماع الذي ساد مكوّنات الطيف اليساري الثوري على أنّ أحد أهمّ الأسباب البنيوية لفشل هذه الانتفاضات في التجذّر والتحوّل إلى ثورات منتصرة، يعود إلى افتقاد الطبقات الشعبية المنتفضة للبديل اليساري الثوري الذي يعبّر عن مصالحها الطبقية ويؤطّر نضالها وتضحياتها.

 لا ينفي هذا وجود محاولات ومبادرات للخروج من هذا الوضع خلال السنوات الماضية، إلّا أنّ أغلبها قد فشل في التحوّل إلى قوّة ماديّة مؤثّرة في الواقع. وحتى التي نجحت في ذلك نسبيًا (مثلا تجربة اليسار السوداني من خلال "تجمّع المهنيين") لم تستطع حسم مسار الأحداث لصالح الثورة. أمّا في تونس فقد حصلت محاولات لـ "توحيد/تجميع اليسار" تمّ استيعابها بهذه الدرجة أو تلك ضمن المنظومة السائدة، لتتحوّل – في أفضل الأحوال – إلى قوّة احتجاجية/اصلاحية ضعيفة، محكومة بقواعد عمليّة "الانتقال الديمقراطي" البرجوازي، وعاجزة عن الانغراس في الطبقات الشعبية التي تسعى للدفاع عنها (جبهة 14 جانفي، ثمّ الجبهة الشعبيّة مثالًا بارزًا) إلى أن انتهت بالفشل والاندثار الذيْن كانا متوقَّعيْن. وأمّا المحاولات المتموقعة أكثر يسارًا (الجبهة الثورية مثالاً وغيرها من محاولات "التأسيس" الأخرى)، ورغم جدّية بعضها، فقد آلت بدورها للاندثار أو التعثّر لأسباب مغايرة (الإغراق في الدغمائيّة، عدم القدرة على تجاوز الخلافات السكتاريّة، عدم القدرة على خلق بدائل محايثة للواقع المتشعّب والمتغيّر...) أو إلى تأسيس أحزاب "شيوعية" جديدة لا تقطع جديا مع أسباب فشل التجارب السابقة.

إلّا أنّ التفاقم المتواصل لظروف البلاد والمنطقة وشعوبها (وخاصّة إثر انتصار الثورات المضادّة في جلّ الأقطار وانتهاء الانتفاضات بحروب أهلية أو بانقلابات عسكرية، أو "دستورية" كما جرى مؤخرا في تونس) يستدعي من جميع الماركسيّين الثوريّين المُخلصين الوعي بدقّة اللحظة التاريخية الصعبة، والتداعي بأسرع وقت ممكن إلى بناء مشروع استراتيجي نضالي جذري، يتعلّم من أخطاء ونقائص التجارب السابقة ويتجاوزها، ويستفيد من التجارب النضاليّة الناجحة في مختلف أنحاء العالم (وببلدان الجنوب تحديدا). مشروعٍ لا يلغي الاختلاف النظري والإيديولوجي النسبي، أو حول التكتيكات النضاليّة، بل يعمل على عقلنتها وتوحيد الموقف منها عبر البحث الجماعي والنضال المشترك. كما يعطي الأولوية لبناء أعلى مستويات الوحدة الإيديولوجية والسياسية والتنظيمية، ويربط التقدّم في المجال النظري بما ستفرزه الممارسة في الواقع من نجاح أو فشل.

على ضوء ما سبق من مبادئ، نضع هذه الأرضية النظرية السياسية للمنظّمة الماركسيّة الثوريّة، التي تمثّل ما توافقنا عليه من مرتكزات نظرية وسياسية ومن ملامح لتصوّرنا الاستراتيجي البديل. ولئن تمثّل هذه الوثيقة مرجعيّتنا النظرية والسياسية الجامعة، فإنّها كذلك ورقة نتقدّم بها للنقاش إلى كلّ المجموعات والذوات الماركسية الثوريّة التوّاقة إلى بناء البديل الشيوعي الثوري في تونس.

 

1.  طبيعة المرحلة وتناقضاتها الأساسيّة:

التناقض الرئيسيّ:

بين الشعوب والأمم المضطهَدة والامبريالية وعملائها. ويمكن تفصيله على النحو التالي:

  • قُطريا: بين "الطبقات الشعبية" (أنظر أسفله: "الذات الثورية") من جهة، والتحالف الطبقي الحاكم (الذي تشترك مكوّناته في الطابع البرجوازي الكمبرادوري - أنظر أسفله: "الأعداء الطبقيون") من جهة ثانية. تجدر الإشارة إلى أنّ هذا التناقض الطبقي يتقاطع في تونس مع تناقضيْن جغرافيَّين مرتبطيْن به: الأوّل بين الجهات الداخلية المُهَمَّشة والجهات الساحلية، حيث تتركّز أغلب مرافق الدولة وبنيتها التحتية وتتراكم جُلُّ الثروة الرأسمالية؛ والثاني بين الأحياء الشعبيّة المُحيطة بالمدن الكبرى، حيث يكتظّ الكادحون والمُعطّلون عن العمل، ومراكز المدن حيث تعيش غالبًا الطبقات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة.
     
    ويقبع وراء التحالف الطبقي المذكور أعلاه، شركاؤه/أسياده من البرجوازيات الامبرياليّة (الغربيّة أساسًا): الأمريكيّة والأوروبية (خاصّة الفرنسية، الألمانية، الايطالية، البريطانية)، وحليفهم: الصهيونيّة، وأعوانهم من البرجوازيات الرجعيّة العربيّة (تحديدا في الخليج).

  • عربيًا: بين "الطبقات الشعبية" بمختلف الأقطار العربية من جهة، والكيان الصهيوني والبرجوازيات الامبرياليّة الغربيّة، وعلى رأسها الأمريكية، وعملائها من البرجوازيات المحلّية الحاكمة من جهة ثانية.

وتُعَدُّ كذلك تناقضات أساسيّة:

  • أمميًا: بين الطبقات الشعبيّة بالبلدان والأمم المضطهَدة بالجنوب، بالتحالف مع الطبقات الكادحة والقوى الثوريّة في الرأسماليات المتقدّمة، ضدّ الصهيونيّة والبرجوازيات الامبريالية (بما في ذلك الشركات الكبرى ومتعدّية الجنسيات) وعملائها من البرجوازيات المحلّية.
  •  بين القوى الامبريالية التقليدية المهيمنة (الولايات المتحدة، أوروبا الغربية، اليابان) وقوى دولية صاعدة (تحديدا روسيا ذات التأثير الجيوسياسي المهمّ والصين كدولة قومية ذات احتمالات تحوّل إلى امبريالية). ويندرج هذا التناقض ضمن إطار الرأسمالية المُعوْلَمَة.

 

التناقضات الثانويّة:

·       قُطريًا: بين مختلف تيّارات اليمين الحداثوي (من أحزاب ذات مرجعيّة "بورقيبية" إلى الأحزاب الليبرالية الجديدة) واليمين المتديّن (حركة النهضة، ائتلاف الكرامة وما لفّ لفّهما). ولم يمنع هذا التناقض الثانوي وما يميّزه من تنافس من أن يشكّل هذين القطبين الإطار السياسي للتحالف الطبقي الحاكم طيلة العشرية الماضية.

·       اقليميًا: بين المحاور الاقليميّة (أي بين الطبقات/ التحالفات الطبقية المهيمنة على مكوّناتها): محور أ (إيران، سوريا، العراق، حزب الله، الحوثيين والخ بدعم من روسيا) من جهة والمحوريْن ب (تركيا، قطر، الإخوان المسلمون، بدعم من "التيّار الامبريالي الليبرالي العوْلمي"، الذي مثّله أوباما، كلينتون، ميركل، هولاند، جورج سوروس والخ) وت (السعودية، الإمارات، الكيان الصهيوني، الديكتاتوريات السابقة أو العائدة بدعم من "التيّار الامبريالي القومي/شبه-الفاشي"، ترامب، تيريزا ماي، بوش، ساركوزي والخ) +

o      بين المحوريْن ب وت المتنافسيْن على دور الحليف/العميل الأوّل للإمبرياليات الأمريكية والغربية وللكيان الصهيوني في المنطقة.

o      بين الطبقات الشعبيّة بالمنطقة والقوى الدولية الصاعدة (روسيا، وربّما الصين مستقبلاً)، والأنظمة الاقليميّة ذات المشروع القومي التوسّعي (إيران وتركيا).

·       أُمميًا: بين القوى الامبرياليّة الغربية: رغم ما بينها من تحالف وثيق، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، فإنّ هذه القوى تتنافس فيما بينها وتتضارب مصالحها أحيانًا في عمليّة بسط النفوذ والاستغلال الامبريالي لبلدان الجنوب، وفي منطقتنا بشكل رئيسي.

 

2.  تحديد معسكريْ الثورة وأعداؤها في القُطر:

الأعداء الطبقيّون:

التحالف الطبقي الحاكم خلال العشرية الماضية. وقد تشكّل أساسًا من:

 

·       البرجوازية الكمبرادوريّة (وكلاء رأس المال الامبريالي/ ممثّلو الشركات متعدّية الجنسيات، البنوك المرتبطة برأس المال المصرفي الدولي وشركات التأمين الدوليّة، كبار تجّار التوريد، "المستثمرون الفلاحيون" المختصّون في الفلاحة التصديريّة، أصحاب النزل وكبرى وكالات الأسفار. تنضوي تحت قيادة هذه البرجوازية شرائح عليا من البرجوازية الصغيرة المنخرطة فيما يُسمّى بـ "المجتمع المدني" اللييرالي والمرتبط امبرياليًا، والتي يمكن وصفها بـ "جماعات استبدال طبقي". تهيمن هذه البرجوازية على التحالف الطبقي وتقوده فعليا نظرا لدورها المركزي في نمط الإنتاج السائد (حتى وإن لم تكن دائما في القيادة السياسية بالسلطة. وقد تموقعت سياسيًا خلال العشرية الأخيرة بشكل أساسي في أحزاب اليمين الحداثوي، وكذلك بشكل متزايد في اليمين المتديّن: قلب تونس، نداء تونس، آفاق، البديل التونسي، المشروع، عيش تونسي والخ، وأكثر فأكثر في بعض أجنحة حركة النهضة، من جهة ثانية.

 

 

·       البرجوازية البيروقراطية (الشرائح المتمعّشة من الدولة: رؤساء ومديرو المؤسّسات والشركات والمصالح العمومية وكبار الموظّفين والمديرين والضبّاط والخ) + البرجوازية الطفيليّة العقّارية/كبار المقاولين + جزء من كبار المهرّبين، وجميع هذه الشرائح مرتبطة بالدولة بشكل مباشر أو غير مباشر وتمثّلهم سياسيا مختلف تيّارات اليمين الحداثوي (حزب نداء تونس وتحيا تونس والخ سابقًا، حزب الدستوري الحرّ حاليا).

·       كبار مالكي الأراضي وكبار الفلاحين + جزء من كبار تجّار التوزيع وجزء من كبار المهرّبين الحدوديّين + جزء من البرجوازية الطفيليّة المصرفيّة المرتبطة بالخليج. ويمثّلهم سياسيا بالأساس اليمين المتديّن/حركة النهضة.

·        البرجوازية الصغيرة، بفئاتها المتعدّدة:

o      البيروقراطية المرتبطة بالشركات الخاصة (موظفي مختلف أنواع الشركات الذين يُطلق عليهم عادة "الكوادر"). وهي الممثل المباشر للبرجوازية والعدو المباشر للعمال في مكان الشغل.

o      كذلك هناك فئة أخرى من البرجوازية الصغيرة، تتمثّل فيما يُعرف بـ "أصحاب المهن الحرّة" (أطباء، صيادلة، محامون، مهندسون، خبراء محاسبون، إعلاميون والخ).

 

 تحمل هذه البرجوازية-الصغيرة عن نفسها صورة "النخبة" التي يروّج لها الإعلام البرجوازي ويحدوها أمل/وهم كبير بالارتقاء الطبقي إلى مصاف البرجوازية. تمثل رافعة أساسية للتبعية الثقافية والإيديولوجية النيوليبرالية إذ يرتبط نمط استهلاكها وعيشها عضويا بالطابع الكمبرادوري للمنظومة الاقتصادية القائمة.

 

"الذات الثوريّة" (الطبقات/الشرائح الاجتماعية المعنيّة بالتغيير الثوري):

يجب العمل بالتوازي على الانغراس "من تحت" ضمن جميع الطبقات/الفئات الآتي ذكرها، بهدف توحيدها وصهرها في "ذات ثوريّة" تتشكّل من كتلة تاريخية أو تحالف للطبقات الشعبيّة، تحمل مشروعًا ثوريًا متجانسًا بقيادة سياسية متحّدة. وإلى جانب التأكيد على الدور الرئيسي للطبقات الشعبية في انجاز الثورة الوطنية الشعبيّة وبناء الاشتراكية، ستُبرز التجربة وتطوّرات الواقع أيُّ هذه الفئات/الطبقات سيكون الأكثر استعدادًا، حسب طبيعة كلّ مرحلة، للعب دور "الطليعة التكتيكيّة"، في عملية التغيير الثوري.

·       المُهمَّشون في ظلّ التبعية الاقتصادية للمنظومة الرأسمالية المعولمة، يُعَدُّ هؤلاء الشرائح والفئات الاجتماعية الأكثر تضرّرًا من السياسات التفقيرية النيوليبرالية وانتفاضا ضدها منذ عشر سنوات على الأقل. ونظرا لكونها لا تملك ما يمكن أن تخسره فإنّها ذات المصلحة الأكبر في التغيير الثوري والأكثر قابلية للمواجهة الميدانية الجذرية للنظام. لكنّ ذلك مشروط باكتسابها الوعي الضروري بذلك (رغم صعوبة العمل في وسطها بسبب ما تعانيه من انفصال عن عملية الانتاج وهيمنة ثقافية لليمين المتديّن وسهولة جذبها من شبكات الجريمة الصغيرة والتطرّف الديني). وهي أساسًا موجودة في الأحياء الشعبيّة والجهات الداخلية:

o       الكادحون غير النظاميّون (الذين يشتغلون بشكل هشّ وغير منتظم عمومًا، خارج الأطر المنظّمة قانونيا من الدولة ورأس المال. مثال الباعة المتجولون، أصحاب "النصُب" في الأسواق، عمّال البناء والدهانة والمقاهي والخ)

o      المعطّلون عن العمل

o       الفلاحون والفلاحات بلا أرض

·       العمّال، بمختلف فئاتهم (في الصناعة، في الخدمات، في الزراعة، في التجارة). وهنا يجب أن تكون الأولوية للانغراس ضمن الفئات الأكثر ارتباطًا بعملية الانتاج الاقتصادي والأكثر تعرّضًا للاستغلال الرأسمالي، لمصلحتها في التغيير وخاصّة لقدراتها التنظيمية (مع ضرورة الوعي بدرجة تغلغل القيم الاستهلاكية والفردانيّة والخوف من المخاطرة في صفوفها).

·       صغار الفلاحين الفقراء: أي أولئك المتضرّرين من هيمنة كبار الفلاحين وملاّكي الأرض، ومن شركات البذور والأدوية متعدّية الجنسيات، والمحرومين من الأراضي الواسعة والجيّدة ومن الماء والتقنيات الحديثة والخ.

·       المثقّفون الثوريّون: حاملي الوعي البروليتاري الثوري من أبناء الطبقات الكادحة أو من أصل برجوازي صغير.

·       كما يهتمّ الماركسيون الثوريون بـالعمل ضمن الشباب الطلّابي والتلمذي لما له من طاقة كامنة، تنظيميًا وتعبويًّا. فبعيدًا عن المثاليّة، لا نتوهّم أنّ بناء تحالف الطبقات الشعبيّة سيحصل تلقائيا. اذ سينطلق العمل على تنظيم هذه الطبقات لا محالة من مناضلين ثوريين لا ينتمون إليها اجتماعيا بالضرورة لكنّهم يُعَدّون مكوّنًا من مكونات الذات الثورية بانتمائهم السياسي إليها وعملهم على وحدتها. وفي هذا الصدد لا يتجاهل الماركسيون الثوريون أهمية الحركة التلمذية والطلابية في عمليّة التكوين ونشر الثقافة والوعي الثوريّين. لكنهم لا يعتبرون الحركة الطلابية في حدّ ذاتها قوة تغيير اجتماعي. واذ يعملون على إقناع الطلبة الثوريين بأطروحاتهم فهم يدفعون إلى التحام الطلبة بالطبقات الشعبية وأولوية ذلك على العمل الطلابي المنفصل ومحدود الأفق السياسي.


كذلك لا يعادي الماركسيون ويتقاطعون ويمكن أن يتحالفوا مع:

  • الشرائح الدنيا من الطبقات الوسطى (المتضّررة من السياسات التفقيرية و/أو المتمسّكة بالسيادة الوطنية). اذ يمكن التقاطع مع بعض القطاعات من الطبقات الوسطى الناشطة في مقاومة التقشف (في الصحة والتعليم مثلا) أو مناهضة التطبيع. لكن يحتفظ الماركسيون الثوريون بحرية نقدها حيثما اتسمت ممارساتها بالقطاعوية والانتهازية ومهاجمتها حيثما تعارضت ممارستها مع مصالح الطبقات الشعبية. يعني ذلك بالخصوص عدم التردّد في نقد اتحاد الشغل كممثل رسمي لهذه الطبقات مرتبط عضويا بالدولة البرجوازية التابعة القائمة.

  • بعض الحركات الاجتماعية (المطالبين بالشغل، المطالبين بالحقّ في الماء، المطالبين بالتمييز الإيجابي للجهات المفقّرة والخ) والجمعيّات (غير الليبرالية الخاضعة لأجندات امبرياليّة). مع إمكانيّة العمل فيها، والسعي لتجذيرها (المدافعون عن البيئة، عن السيادة الغذائيّة، أنصار الفلاحة الايكولوجيّة، المهتمّون بالبذور الفلاحية الأصليّة، المناهضون للتقشّف، المناهضون للتطبيع، حركات المشجعين الرياضيين "الأولترا"، التيارات الشعبية والثورية في الحركتين النسوية والكويرية، المدافعون عن اللغة العربيّة دون شوفينيّة والخ.). كذلك ضرورة التفاعل الإيجابي – خاصّة في إطار العمل الجماهيري والمشترك - مع المتديّنين المتبنّين لقراءة تقدّمية للدين والتراث والساعين لإبراز قيم العدالة الاجتماعيّة والثورة على الاستغلال والظلم فيه. يكون التعامل مع هذه الفعاليات دائما بعيدا عن التنازل النظري وخاضعا للأولويات الاستراتيجية والخطط التكتيكية للماركسيين الثوريين. كما لا يساوم هؤلاء حول الاستقلالية السياسية للطبقات الشعبية ومصالحها ووحدتها ولا يتردّدون في أخذ المسافة الكافية من أي طرف يرون في التعامل معه تهديدا لها.

3.  المشروع (نظريا وسياسيا):

 

توصيف أوّلي لطبيعة نمط الإنتاج:

وإن تحتاج هذه المسألة الأساسية مزيدا من التفصيل والتعميق، يمكننا التوافق على ما يلي: نمط الإنتاج السائد في تونس (وفي جلّ الأقطار العربية) هو أقرب ما يكون إلى نمط انتاج مرتبط إلى حدّ كبير ومتزايد بالمراكز الامبريالية بحكم الانخراط المتزايد لتونس في المنظومة الرأسمالية المعولمة.

ولا نعتقد أنّ هنالك من يعترض على وصف وضع البلاد بأنّها مستعمرة بشكل غير مباشر ("شبه مستعمرة"). وأمّا نمط الإنتاج المهيمن فهو "رأسمالي تابع" أو "كمبرادوري" أو "كولونيالي"... وهي توصيفات تعبّر بتقديرنا عن اختلافات كمّية لا نوعيّة.

بناء على الفقرة السابقة، يكون من البديهي بتقديرنا أن نفهم أنّ طبيعة الثورة القادمة كما يلي.

 

طبيعة الثورة:

  • وطنية-شعبية: تقوم بها الطبقات الشعبيّة ضدّ الامبريالية وعملائها المحلّيين. فترسي سلطتها السياسية وتبني اقتصادها المنتج المتمركز على حاجياتها، وتسنّ اصلاحا زراعيا جذريا (غايته السيادة الغذائية). تضمن الحريات العامة والفردية لعموم الشعب باستثناء الطبقات الرجعية المعادية للثورة.
  • ذات أفق اشتراكي (تهدف لبناء الاشتراكية وتبدأ في زرع بذورها منذ ما قبل نجاح الثورة، كخطوة أولى نحو المجتمع الشيوعي المنشود)
  • ذات أفق وحدوي: تسعى إلى بناء وحدة عربيّة تدريجيّة قائمة على أسس ديمقراطية واشتراكية معادية للإمبريالية، تستوعب التنوّع الإثني واللغوي لشعوب المنطقة، على أساس الروابط الثقافية والتاريخية التي تجمع هذه الشعوب وانطلاقا من القناعة بأنّه لا امكانيّة لبناء الاشتراكيّة وحماية الثورة في قُطر واحد.

تفصيل أوّلي لطبيعة الثورة:

  • وطنيّة-شعبية: بمعنى استكمال مهمّة التحرّر الوطني من الاستعمار غير المباشر أو هيمنة الامبريالية وأتباعها البرجوازيين المحليين. فتقوم الطبقات الشعبية بمهمة افتكاك السلطة من البرجوازية على مستوى وطني في مرحلة أولى نحو البناء الاشتراكي الوحدوي.

    وتتمظهر الهيمنة الامبريالية أساسا في مجالات الاقتصاد (الديون الخارجية، شروط المؤسسات المالية الدولية، الاتفاقيات التجارية الثنائية، استمرار مسارات الخصخصة وفتح السوق الداخلية وتحرير الدينار والتفريط في سيادة الدولة على البنك المركزي والقطاع المالي عموما، مواصلة التشجيع على ضرب طبقة صغار الفلاحين لصالح "المستثمرين الفلاحيّين" وفتح المجال لشركات الفلاحة التجارية الأجنبية عبر التمهيد لاتفاقية "أليكا"، ومواصلة إطلاق يد البرجوازيات التجارية والصناعية والعقارية في رقاب العمّال والكادحين والخ). وفي مجال الثقافة (الهيمنة المتواصلة لفرنسا عبر تشجيع تدريس لغتها وتدخّلها في البرامج التربوية وتدخلها في تمويل الجمعيات والفنّانين والخ، وبشكل متزايد دول أوروبية أخرى مثل ألمانيا وبريطانيا وهولندا... دون الحديث عن النفوذ المتزايد للولايات المتحّدة عبر أذرعها الجمعياتية و"التنموية" ومعاهدها والخ). وهو ما يفرض بداهة الهيمنة السياسية التي تبدأ من التدخّل السافر في الموقف الرسمي التونسي من القضايا القومية والإقليمية (مثلا مسألة تجريم التطبيع) إلى جرّ البلاد أكثر فأكثر نحو "حلف النيتو" وفرض التواجد العسكري على أراضيها... إلى التدخّل من حين لآخر في مسائل ذات علاقة بالتوازنات السياسة الداخلية (مثلا موقف فرنسا غداة انتخابات 2011 وفوز النهضة، أو استفزازات سفير فرنسا وتصريحات سفير الاتحاد الأوروبي حول "أليكا" أو مواقفهم في قضايا مجتمعية داخلية مثل مواضيع "الأقليات" وبشكل صارخ في أهم المحطات منذ 25 جويلية).

    إثر انتزاع الطبقات الشعبيّة السيادة على الموارد والطاقات من أيادي الامبريالية وأتباعها، تقوم بتوجيهها نحو تلبية حاجياتها. فتعمل على تحقيق السيادة الغذائية بإسناد أراضي كبار المستثمرين وأراض دولية لصغار الفلاحين والفلاحين بلا أرض والمعطلين عن العمل. كما تهدف إلى إنهاء البطالة والفقر بالاستثمار في بناء اقتصاد منتج متمركز على الذات.
    يستدعي كل ذلك ضمان مشاركة الطبقات الشعبية في الحكم وتعزيزها المستمر. وذلك عبر توفير الأدوات الدستورية والقانونية لمشاركتها في اتخاذ القرارات وفي مراقبة الحكومة والمجالس التشريعية ومحاسبتها والضغط عليها. وهذه من المسائل الأساسية التي يجب على الشيوعيين أن يقدّموا فيها طرحًا جديدا يقطع مع بعض التجارب الاستبدادية التي شوّهت الفكرة الشيوعية. ولا حاجة للقول بأنّ التأكيد على ضرورة توفير أقصى درجات الديمقراطية والمشاركة السياسية للطبقات الشعبية يعني بالمقابل ممارسة "القمع" بأشكاله المختلفة حسب السياق ضدّ الطبقات الرجعية والكمبرادورية التي ستكون على رأس الثورة المضادّة.
    يعني تحقيق الطابع الوطني-الشعبي باختصار استرجاع السيادة الوطنية على مختلف المجالات: الاقتصاد صناعة وزراعة (السيادة الغذائية) وتجارة، والثقافة (تعليمًا ولغة وفنونا واعلاما) وثروات (باطنية منها وسطحية) وتوجيهها نحو تلبية حاجيات الطبقات الشعبية. ويعني في مجال السياسة الخارجية وعودة الاهتمام والسعي لتوثيق العلاقات بالجوار المغاربي والعربي والافريقي ومع كلّ بلدان الجنوب القريبة منا سياسيا.

 

  • ذات أفق اشتراكي: نعني بها بوضوح أنّ تزايد وتيرة وحجم ارتباط اقتصادنا بمراكز المنظومة الرأسمالية المعولمة وانتهاء عصر ثورات الطبقة البرجوازية وتحوّل هذه الطبقة إلى قوة رجعية في عهد الإمبريالية وخصوصا في البلدان التابعة ، سيفرض البدء حال انتصار الثورة (بل وقبلها ما أمكن) في زرع نوى الاقتصاد الاشتراكي عبر تركيز التعاونيات الفلاحية والخدماتية والحرفيّة (قبل الثورة)، ثمّ التعاونيات الاقتصادية والتجارية والصناعية الأكبر (حال انتصار الثورة) والاقتصاد المخطط بشكل تدريجي، وبالتعايش مؤقتا مع رأس المال في القطاعات المنتجة الذي يقبل فاعلوه بشروط الحكومة الثورية الجديدة (تأميم أهمّ رؤوس الأموال الخارجية في مجال الثروات الاستخراجية، تأميم ما أمكن من بنوك، تأميم وسائل الاعلام الخاصّة (ومشركتها بين الصحفيين)، استرجاع القطاعات الاستراتيجية التي تمّ التفويت فيها مثل قطاع الاتصالات والاسترجاع التدريجي لقطاعات الصحّة والتعليم والخ)، تأميم قطاع التوريد (خاصة لكلّ ماله علاقة بالغذاء والخ). وذلك حتى تتطوّر قوى الإنتاج (في الصناعة والفلاحة) ويقتنع الناس بنجاعة وجاذبية النمط التعاوني/الاشتراكي وتنضج ظروف الانتقال للاشتراكية.

 

  • ذات أفق وحدوي: نعني بها بوضوح السعي للدفع بأقصى ما يمكن الى تعزيز محاولات توحيد الأقطار العربية بشكل ديمقراطي وذي مضمون وطني-شعبي. ولا يعني هذا الطرح تبنّي السرديات القومية الشوفينية التقليدية، بل ينبثق من رؤية ديمقراطية (تضمن الحقوق الثقافية لمختلف الإثنيات) وطبقية لمسألة الوحدة العربية، قائمة على فكرة أساسية مفادها أنّه لا إمكانية لانتصار الثورة في تونس دون انتصارها في أكثر ما يمكن من أقطار المنطقة العربية. وذلك نظرا لوحدة الأعداء (الإمبريالية بمختلف مراكزها والصهيونية والرجعيات العربية) والمصلحة الموضوعية المشتركة في بناء اتحاد كنفدرالي بين أكثر ما أمكن من أقطار الوطن العربي كشرط ضرورة لصمود المشروع الإشتراكي في وجه الحصار الامبريالي الذي سيعمل على خنقه حتما. وهي كذلك خطوة منطقية لبناء عالم متعدّد الأقطاب يسمح بنقل الصراع إلى بعده الأممي بشكل فعليّ.

 

عمق الثورة ومجالها الحيوي

العمل الجادّ على بناء حركة ثورية فاعلة ومنسجمة في مختلف أقطار المنطقة المغاربيّة والعربيّة، تهدف إلى توحيد قوى الثورة وانتصارها على امتداد الوطن/العالم العربي.

مع توجّه أمَمي بأولويات جنوبيّة: بناء تحالفات قويّة مع القوى الثورية في الجنوب (افريقيا جنوب الصحراء، أمريكا اللاتينية وآسيا) أساسًا، وكذلك مع القوى الثورية المناهضة للامبريالية في دول المركز الامبريالي.

 

نظريّة الثورة

الماركسيّة كمرجعيّة نظريّة (الاستفادة من مختلف مدارسها وتجاربها ومفكّريها، وخاصّة تلك المنطلقة من خصوصيات الشعوب والأمم المضطهَدة)، بعيدًا عن الدُغمائيّة والسكتارية والاصلاحويّة والأورومركزيّة. واعتماد المادّية الجدليّة والتاريخيّة كمنهج يرشدنا في "التحليل الملموس للواقع الملموس".

4.  وسائل القوّة/ الأدوات التنظيمية (الماديّة/البشريّة والثقافية)

 

(...)

5.  القيادة السياسيّة

تقود وتنسّق وتوجّه عمل "وسائل القوّة"/الأدوات التنظيميّة دون بيروقراطية أو تسلّط. تتكوّن من العناصر النوعيّة لمختلف هذه الأدوات. يفترض أن تكون حزبًا ماركسيا ثوريا طليعيًا، يقبل داخله بالتنوّع، على قاعدة وحدة الأهداف والبرنامج.

تُراوح حسب ظروف النضال بين العلنيّة والسرّية، وتعتمد المركزية الديمقراطيّة المَرِنة (أي التي تضمن الانضباط الصارم في تنفيذ المهام دون بقرطة) كمنهج تنظيمي يسعى لضمان وتصليب الوحدة الداخليّة بهدف النجاعة القصوى في تحقيق الأهداف، مع فسح المجال للمبادرة والإبداع الثوري. كذلك يقع اعتماد مبدأيْ التداول على المهام وإمكانيّة سحب الوكالة.

6.  البرنامج السياسي المرحلي/ مرحلة ما قبل الثورة

يمارس الماركسيون الثوريّون الدعاية، من خلال تنظيمهم السياسي (أو الحزب الشيوعي الذي يسعون لتأسيسه) والمنظمات الجماهيرية التي يأسّسونها أو يشاركون فيها، للبرنامج المرحلي. وفي ظلّ تنامي الوعي الشعبي وتطور ميزان القوى يضغطون ميدانيًا من أجل تحقيقه. ومن أبرز نقاطه:

·       رفض تمرير اتفاقيّة "الأليكا" التي من شأنها مزيد تدمير طبقة صغار الفلاحين، ولتداعياتها المدمّرة على مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني

·       مراجعة الاتفاقيات التجارية والحدّ من التوريد وتعديل الميزان التجاري

·       المطالبة بإصلاح زراعي، تكون غايته السيادة الغذائية، يضمن تحويل الملكيات الكبيرة والأراضي الدولية لصالح صغار الفلاحين والفلاحين بلا أرض (والمعطّلين عن العمل المهتمّين بالفلاحة) في شكل تعاونيات، وتوفير الدعم لهم

·       سياسة تصنيعية تستجيب لحاجيات المجتمع وتمتصّ القوة البشرية المعطلة عن العمل

·        التدقيق في مديونية الدولة وتجميد دفع الفوائد والتوقّف عن الاقتراض الخارجي

·        التراجع عن قانون استقلالية البنك المركزي لتمويل الخدمات الاجتماعية والاستثمارات العمومية (مثلا: التغطية الاجتماعية الشاملة، منحة عمل منزلي والخ)

·        إصلاح جبائي عادل يشجع الاستثمارات المنتجة ويضعف رأس المال الطفيلي

·       فرض ضريبة على الثروة على رؤوس الأموال، وخاصّة على قطاعات البنوك والاتصالات والمجمّعات التجارية الأجنبية، بهدف تمويل الخدمات الاجتماعية (مثال التعويض عن البطالة)

·       زيادة الاستثمار العمومي في قطاعات الصحّة والتعليم والنقل وغيرها

·       إيجاد حلول عاجلة لقضايا التلوّث في قابس وصفاقس وغيرها

·       اجراء تدقيق في مداخيل قطاع المحروقات وتخصيص جزء من أرباحه للجهات المُهمّشة

·       تشجيع انتاج الدولة للكهرباء من الطاقة الشمسية، واحتكارها لهذا المجال

·       سنّ قانون لتجريم كافّة أشكال التطبيع

7.  البرنامج الاستراتيجي (ملامح سياسات ما بعد انتصار الثورة)

اقتصاديا واجتماعيا:

·       تأميم قطاع الطاقة (المحروقات، الطاقات المتجدّدة والخ)

·       الغاء المديونية الخارجية

·       ارجاع سيطرة الدولة على البنك المركزي

·       بسط هيمنة الدولة على القطاع البنكي (تأميم ما يمكن منه)، وفرض قيود صارمة على خروج رؤوس الأموال

·       الغاء كلّ الاتفاقيات التجارية الماسّة بالسيادة الوطنية واقتصاد البلاد، وعلى رأسها اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وما تبعها من اتفاقيات مشابهة

·       سياسات حمائية في الصناعة والفلاحة

·       سنّ كلّ الإصلاحات التي تمّت المطالبة بها ولم يُنجح في فرضها

·       احتكار الدولة لتوريد المواد الأساسية والتوقّف عن توريد الكماليات

·       تركيز نوى صناعة وطنيّة متوجّهة أساسا لحاجيات السوق الداخلية بدرجة أولى، والسوق الإقليمية بدرجة ثانية

·       وضع سياسات فلاحية إيكولوجية تهدف لتحقيق "السيادة الغذائية" والاكتفاء الذاتي للبلاد في المواد الأساسية (الحبوب، الخضر، الحليب وأعلاف الحيوانات...) ضمن المعايير المحترمة للبيئة ولصحّة البشر.

·       تشجيع الفلاحة التعاونية، واستغلال الأراضي الدولية (بعد استرجاع ما تمّ التفريط فيه للقطاع الخاص) كنواة لهذا المشروع.

·       تركيز صناعة صيدلة وطنية، تحت اشراف وقيادة الدولة، تستجيب لحاجيات البلاد وتلغي احتكار ومضاربات القطاع الخاصّ في هذا المجال

·       انتهاج سياسة طاقية معتمدة على الطاقات المتجدّدة وبسط سيطرة الدولة على هذا القطاع

·       تأميم شركات الاتصالات الهاتفية وفرض سيطرة الدولة على القطاع 

سياسيا

داخليا:

·       تأميم كافة وسائل الإعلام (السمعية والبصرية) الخاصّة المرتبطة بقوى الثورة المضادّة، أو ذات الرأسمال الكبير أو ذات التمويل الخارجي أو المشبوه، ووضع قانون جديد لتنظيم قطاع الإعلام

·       صياغة دستور جديد ينصّ أساسا بوضوح على علوية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للطبقات الشعبية وعلى المساواة التامة بين المواطنين وعلى حرّية المعتقد والتعبير وعلى السيادة الوطنية في مختلف المجالات. وعرضه على الاستفتاء في أقرب الآجال.

·       يجب أن يتضمّن دستور الثورة مبادئ النظام السياسي الجديد، الذي يجب أن يضمن قدرة الطبقات الشعبية (أغلبية الشعب) على ممارسة سلطتها فعليًا وعلى مراقبة ومحاسبة المسؤولين في كلّ المستويات (من المحلّي إلى المركزي)، كما يضمن ضرب قوى الثورة المضادّة (البرجوازية الكمبرادورية وحلفائها) ومنعها من التشكّل مجدّدا سياسيا.

·       احترام مبدأ التداول السلمي على السلطة في كنف الدستور الجديد. وهو ما يتطلب وضع قانون انتخابي يضمن تمثيل الأحزاب السياسية المعبّرة عن الطبقات الشعبية ويقصي القوى المعبّرة عن البرجوازية الكمبرادورية وحلفائها.

·       وضع قانون جديد للإعلام، يضمن حرّية التعبير ونقل المعلومة، لكن بعيدا عن هيمنة رؤوس الأموال. وهو ما يتطلب تشجيع الإعلام التعاوني الذي يؤسّسه ويديره الصحفيون أنفسهم.

·       وقف نشاط كلّ الجمعيات والمنظمات الأجنبية بالبلاد، وكذلك الجمعيات التونسية المرتبطة بها، والمباشرة في تدقيق عملها وارتباطاتها، تمهيدا لوضع قانون جديد لتنظيم "المجتمع المدني" يضع معايير تحترم السيادة الوطنية والتخلّي عن التمويلات الأجنبية.

·       إلى جانب ضرورة تعزيز الحريات السياسة وتأمينها وحمايتها من تدخل رؤوس الأموال، سيكون من أهداف ثورتنا الأولى تعزيز الحرّيات الفردية وتكريس علمنة الدولة وقيم المساواة بين الجنسين في التشريعات وفي الدستور الجديد الذي يفترض أن يتمخّض عن الثورة. إلّا أنّ مدى هذه الحرّيات الفردية سيكون مرتبطًا ضرورة بميزان القوى إثر انتصار الثورة وتقييمنا لقدرة تقبّل الطبقات الشعبية (التي يفترض أن تكون العمود الفقري لهذه الثورة) لها. ولهذا قد يتطلبّ تحقيق الأهداف الأساسية والضرورية من نوع المساواة التامة واحترام الحريات الجندرية وغيرها مسارًا تدريجيا يبدأ فعليًا مع انتصار الثورة. أمّا قبل انتصارها فسيتركّز عملنا في هذا المجال على التثقيف الشعبي البيداغوجي وعبر إعطاء المثال والقدوة، لا عبر التحريض والدعاية البارزتين كما سيكون الشأن مع القضايا الاقتصادية والوطنية. 

خارجيا:

·       وضع قانون لتجريم كافة أشكال التطبيع

·       التذكير بالموقف الوطني الصحيح فيما يخصّ القضية الفلسطينية: حقّ الشعب الفلسطيني في تحرير كامل أرضه وبناء دولة ديمقراطية علمانية عليها، على أنقاض المشروع الصهيوني، وعودة كافة اللاجئين وتعويضهم

·       بناء علاقات متينة مع بلدان الجنوب (لا سيما المتفاعلة إيجابيا مع قضايانا في أمريكا اللاتينية وآسيا). والعمل على استعادة العمق الإفريقي واسترجاع التحالف التاريخي بين المنطقة العربية وبلدان جنوب الصحراء. والسعي لبناء قطب دولي جنوبي.

·        كسر التبعية للمراكز الغربية عبر تعزيز علاقاتنا مع القوى الشرقية الصاعدة (روسيا والصين) والعمل على بناء علاقات جيدة قائمة على الاحترام والندية مع القوى الإقليمية المتاخمة (تركيا وإيران)